يخضع انتعاش العلاقات بين الجزائر وإسبانيا حالياً لاختبار جديد، بعد أيام قليلة فقط من عودتها إلى طبيعتها، وذلك على خلفية طلب الجزائر رسمياً من مدريد تسليم برلماني هرب من المتابعة القضائية، بعد اتهامه بالإساءة إلى مسؤولين بارزين في البلاد. وتزامن هذا التطور الحساس مع ملف آخر مثير للجدل، وهو طلب الجزائر تسليمها 7 قاصرين هاجروا إلى إسبانيا في قارب بداية سبتمبر (أيلول) الماضي.
وأثارت قضية عضو «مجلس الأمة» الجزائري (الغرفة البرلمانية الثانية)، عبد القادر جديع، جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والحقوقية، بعد أن غادر البلاد نهاية 2023، خوفا من الاعتقال، في حين تسعى الجزائر لاستعادته. وهذا الملف يضع إسبانيا، بحسب مراقبين، أمام تحدٍّ دبلوماسي، خاصة أن العلاقات الثنائية لا تزال هشة.

تعود قضية البرلماني جديع إلى مداخلة له في جلسة رسمية لـ«مجلس الأمة» في 22 ديسمبر (كانون الأول) 2019، حضرها وزير الطاقة والمدير العام لشركة «سوناطراك» للمحروقات، حيث وجّه انتقادات شملت أساليب التسيير في القطاع، وأشار إلى «غياب العدالة في التنمية بمناطق الجنوب الجزائري»، التي يمثلها بصفته برلمانياً. كما دعا إلى «إشراك السكان المحليين في اتخاذ القرارات المرتبطة باستغلال الغاز الصخري، مع التأكيد على أهمية حماية البيئة، وضمان استفادة ولايات الجنوب من عائدات الضرائب البترولية، وتمكين شباب المنطقة من فرص العمل داخل الشركات النفطية العاملة في الجنوب».

وقالت «منظمة شعاع» لحقوق الإنسان، التي يوجد مقرها في لندن، والتي تشتغل ميدانياً لمنع ترحيل جديع، إن تصريحاته «جاءت في إطار مهامه البرلمانية، وحقه الدستوري في الرقابة (على أعمال الحكومة)، والتعبير السياسي، ورغم ذلك فقد فتحت ضده متابعة قضائية رغم مرور أكثر من 4 سنوات على الواقعة، في خطوة تؤكد الطابع السياسي لهذه المتابعة».
إدانة جديع بالسجن تثير جدلاً
أصدرت المحكمة الدستورية الجزائرية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 قراراً يقضي برفع الحصانة البرلمانية عن جديع، وبالتالي بات معرضاً للمحاكمة. وقالت «شعاع» إن ذلك تم «دون احترام الإجراءات القانونية المنصوص عليها في النظام الداخلي لمجلس الأمة، خصوصاً المادة 125، التي تلزم المجلس بعقد جلسة استماع للعضو المعني والتصويت العلني على القرار. وتعد هذه الخطوة إجراءً تعسفياً وغير دستوري، وتمثل مساساً خطيراً بمبدأ استقلال السلطة التشريعية».

وعلى أثر ذلك، أصدرت النيابة قراراً بمنع جديع من السفر، وفي 5 فبراير (شباط) 2024، أصدر القضاء حكماً بسجنه ثلاث سنوات نافذة، بتهم تتعلق بـ«إهانة هيئة نظامية»، و«نشر تسجيلات تضر بالمصلحة الوطنية»، و«نشر أخبار من شأنها الإخلال بالنظام العام».
وبنت النيابة اتهاماتها على مقاطع فيديو نشرها البرلماني، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تناول فيها الأوضاع التي يعيشها سكان الجنوب، وتحدث عن «غياب العدالة في توزيع الثروة»، وهي تصريحات اعتبرتها النيابة «تحريضاً على الاحتجاج»، ما شكل أساس تهمة «المسّ بالنظام العام».
والخميس الماضي، صدّق مجلس إدارة «الاتحاد البرلماني الدولي»، خلال اجتماع له بجنيف، على قبول شكوى منظمة «شعاع لحقوق الإنسان»، المقدّمة باسم البرلماني، بشأن ما اعتبرته «انتهاكات دستورية وبرلمانية، وملاحقات قضائية وأحكاماً صادرة بحقه في الجزائر». وفي 14 من الشهر الحالي، تسلَّم جديع استدعاء من المحكمة الوطنية الإسبانية، في إطار طلب تسليم رسمي تقدمت به السلطات الجزائرية ضده. ومن المقرر أن تُعقد جلسة النظر في الطلب في الثالث من نوفمبر المقبل بمحكمة في مدينة إليكانتي جنوب إسبانيا. وناشدت المنظمة الحقوقية القضاء الإسباني عدم التجاوب مع طلب تسليمه.
زيارة وزير إسباني تنعش علاقات البلدين
يتوقع مراقبون أن يحظى طلب الجزائر بالموافقة من مدريد، خصوصاً بعد اتفاق البلدين على تسريع دراسة طلبات الإنابة القضائية، وتسلم المطلوبين، بمناسبة زيارة وزير الداخلية الإسباني فرناندو غراندي مارلاسكا غوميز إلى الجزائر الاثنين الماضي. وأكد وزير الداخلية الجزائري، سعيد سعيود، في ختام مباحثاته مع غوميز، أن بلاده طلبت من إسبانيا العمل على عودة 7 قاصرين استقلوا قارب نزهة إلى جزر البليار، مطلع سبتمبر الماضي، وهي قضية أثارت جدلاً كبيراً في البلاد.

وفي تقدير المراقبين، تضع «قضيتا البرلماني جديع والقاصرين السبعة» الانتعاشة التي تعرفها العلاقات الجزائرية - الإسبانية على المحك، ذلك أن استجابة مدريد لطلبات الجزائر في هذا الشأن تمثل اختباراً حقيقياً لمدى استعدادها لقطع أشواط إضافية في مسار تطبيع العلاقات بين البلدين، بعد التوتر الحاد الذي شهدته عام 2022، إثر انحياز الحكومة الإسبانية لمقترح الحكم الذاتي المغربي للصحراء، وهو ما دفع الجزائر إلى قطع علاقاتها السياسية والتجارية مع مدريد.
وبدأت العلاقات بين الجانبين تعود تدريجياً إلى مسارها الطبيعي منذ أواخر عام 2024، غير أن إسبانيا لم تتراجع حتى الآن عن تأييدها للموقف المغربي بشأن الصحراء.

وتستند التوقعات إلى سوابق التعاون الأمني بين البلدين، التي تجلت خصوصاً في تسليم إسبانيا عسكريين جزائريين، هما محمد بن حليمة ومحمد عبد الله، عامي 2021 و2022، وهي عمليات تمت في إطار تعاون أمني وثيق بين الجزائر ومدريد لمكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب. فقد سُلم بن حليمة في مارس (آذار) 2022 وأُدين بالسجن 8 سنوات نافذة، بينما تم تسليم محمد عبد الله في أغسطس (آب) 2021، وحكم عليه بخمس سنوات سجناً نافذاً.
وتعد هذه الحالات مؤشراً على استعداد مدريد للتجاوب مع الطلبات الجزائرية متى توفرت الأسس القانونية، ما يجعل ملف جديع اختباراً جديداً لحجم الثقة المتبادلة بين العاصمتين، وفق مراقبين.




