عمّق الانقسام السياسي المستمر في ليبيا الجدل حول «المحكمة الدستورية العليا»، التي أنشأها مجلس النواب في بنغازي، خصوصاً بعد إصدارها قراراً يقضي بإلغاء دائرة الدستورية التابعة لـ«المحكمة العليا» في طرابلس، وهو ما أثار تساؤلات متابعين حول شرعية الخطوة، ومخاوف من انعكاسها على وحدة القضاء الليبي.
ويُعدّ هذا الخلاف حول «المحكمة الدستورية العليا» في بنغازي هو الثاني من نوعه في غضون شهر واحد؛ إذ سبق أن أثار قرارها بتحصين مجلس النواب في ترقيات أصدرها القائد العام لـ«الجيش الوطني»، المشير خليفة حفتر، وشملت نجليه صدام وخالد، جدلاً حاداً بعدما رفضه المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، عاداً إياه «تعدياً على استقلال القضاء».

وبعد قرار «الدستورية العليا» في شرق البلاد إلغاء «الدائرة الدستورية» التابعة للمحكمة العليا في طرابلس، توقع النائب الليبي، خليفة الدغاري، أن «يبقى الجدل قائماً حول أي قرارات تصدر عن المحكمة الجديدة، طالما استمرت الدائرة الدستورية في العاصمة»، عاداً في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تأسيسها جاء في توقيت غير مناسب، في بلد يخضع لإعلان دستوري مؤقت، وسلطتين متنازعتين بين الشرق والغرب».
وخلال مناقشات دارت سابقاً في أروقة مجلس النواب، بدا الدغاري متحفظاً إزاء فكرة إنشاء «المحكمة الدستورية العليا» في بنغازي، وحذّر بنبرة استباقية من «التداعيات التي قد تنجم عن هذه الخطوة في ظل الانقسام السياسي الحاد الذي تعيشه البلاد»، وفق ما قال لـ«الشرق الأوسط».
ولم يخف النائب الليبي أسفه مما عده «ازدواجية قضائية بدأت تترسخ في البلاد، وقد تُجهض كل الجهود التي سعت إلى إبقاء القضاء بعيداً عن الانقسام المؤسسي الذي أصاب المؤسسات المدنية والعسكرية منذ أكثر من عقد»، بحسب تعبيره.

وشمل قرار «الدستورية العليا» في بنغازي إحالة جميع الدعاوى المنظورة أمام دائرة طرابلس إلى المحكمة الجديدة «بحالتها وبغير رسوم»، مع منح الأطراف مهلة ثلاثة أشهر لإعادة رفعها، وإلا اعتُبرت كأن لم تكن.
وفي هذا السياق، ذهب أستاذ القانون الليبي وعضو «لجنة فبراير»، الكوني عبودة، إلى القول بأن «إنشاء هذه المحكمة جرى بواسطة سلطة انتقالية»، في إشارة إلى مجلس النواب، وأن رئيسها «تجاوز صلاحياته بإلغاء دائرة لا تتبعه إدارياً».
أما المستشار القانوني، هشام الحاراتي، فرأى أن استحداث المحكمة الدستورية في غياب دستور نافذ «يمثل سابقة خطيرة تمسّ وحدة القضاء واستقلاله»، وفق تعبيره، عاداً أن مثل هذه الخطوات «تحوّل القضاء من أداة لتحقيق العدالة إلى ساحة جديدة للصراع السياسي»، بحسب وصفه.
وتأسست المحكمة الدستورية في بنغازي وسط خلاف حاد بين البرلمان والمجلس الرئاسي، بعد أن قرر الأخير في أبريل (نيسان) الماضي وقف العمل بكافة آثار قانون صادر عن مجلس النواب بشأن إنشائها قبل عامين.
لكنّ البرلمان واصل إجراءات التشكيل في يونيو (حزيران)، قبل أن تبدأ المحكمة عملها رسمياً في 19 أغسطس (آب) الماضي، بعد أداء رئيسها وأعضائها اليمين القانونية أمام النائب الثاني لرئيس مجلس النواب، مصباح دومة.
في المقابل، يدافع سياسيون ليبيون عن قرار «المحكمة الدستورية العليا» الأخير، وشرعية إنشائها، والتي تزايدت الشكوك بشأنها على وقع الانقسام السياسي والمؤسسي في البلاد.
في هذا السياق، يرى النائب الليبي، الدكتور محمد عامر العباني، أن إنشاء الدستورية العليا «يكتسب شرعيته من قانون صادر عن سلطة تشريعية منتخبة، وبات نافذاً منذ تاريخ صدوره»، مشيراً إلى أن هذا القانون «لا يلغيه إلا قانون مماثل إما صراحة أو ضمناً».
وأمام الانتقادات القائلة بأن إنشاء المحكمة الجديدة في شرق البلاد صادر عن «سلطة انتقالية»، أعاد العباني التذكير بقانون صدر عام 2014 بشأن انتخاب مجلس النواب، الذي ينص على أن «المجلس هو السلطة التشريعية المؤقتة للدولة في المرحلة الانتقالية»، عاداً أن «القول بغير ذلك هو محاولة لإدخال البلاد في فراغ تشريعي»، مشيراً إلى أن «اتفاق الصخيرات 2015 وجنيف 2020 المنظمَين للعملية السياسية في البلاد لا يحدان من اختصاص المجلس القائمة أو سلطاته»، وذهب إلى القول إن «هذين الاتفاقيتين تحتاجان إلى إقرار من جانب مجلس النواب».
أما المحكمة الدستورية العليا في بنغازي فقد جددت، الثلاثاء، تأكيدها أنها تأسست بموجب قانون صادر عن مجلس النواب، مؤكدة أن جميع إجراءاتها «تستند إلى إطار قانوني واضح».
وجاء موقف المحكمة في أول رد رسمي على تصريحات المبعوثة الأممية إلى ليبيا، هانا تيتيه، خلال إحاطتها أمام مجلس الأمن، والتي أعربت فيها عن قلقها من وجود «مؤسستين دستوريتين» في البلاد.
وفي خطاب موجه إلى المبعوثة الأممية، دعت المحكمة إلى «سحب العبارات التي تمس القضاء الليبي واستقلاله» من الإحاطة المقدمة لمجلس الأمن، واصفة حديث تيتيه بأنه «آراء شخصية»، ومؤكدة تمسكها بمبدأ «استقلال السلطة القضائية».
ويرى قانونيون وساسة ليبيون أن المشهد القضائي يواجه تحديات متزايدة في ظل استمرار الانقسام السياسي، مع مخاوف من أن يؤدي تعدد المرجعيات إلى تعميق الانقسام المؤسسي القائم منذ أكثر من عقد.
ويتقاطع ذلك مع تصريحات سابقة لرئيس المجلس الأعلى للقضاء، المستشار مفتاح القوي، الذي سبق أن وصف المرحلة التي تعيشها ليبيا بأنها «بالغة التعقيد»، في ظل الانقسامات المستمرة، مشدداً على أن الحفاظ على وحدة الجهاز القضائي «يتطلب تضافر الجهود وتغليب المصلحة الوطنية».

وتعود جذور القضاء الدستوري في ليبيا إلى عام 1982، حين أُنشئت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في عهد الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لتتولى النظر في الطعون بعدم الدستورية، وتفسير النصوص القانونية.
وشكّلت الدائرة الدستورية قبل تعليق عملها عام 2016 بسبب الانقسام السياسي، المرجع الأعلى للقضاء الدستوري في البلاد، قبل أن تُستأنف أعمالها بعد سبع سنوات من التوقف، ليعود الجدل مجدداً مع إنشاء المحكمة الدستورية الجديدة في بنغازي عام 2023.



