تجتذب العاصمة الليبية طرابلس انتباه العالم من وقت إلى آخر، بالنظر إلى ما تشهده من اقتتال وصراع بين السلطة وأجنحتها من ناحية وبين معارضيها من ناحية ثانية، ما يجعلها دوماً «رهينة، تنتظر المجهول».
فطرابلس التي يطوّقها البحر المتوسط كسوار، وتنام على حافته مترقبة ما يأتيها من أوروبا على الجانب الآخر، لم تهدأ منذ رحيل نظام الرئيس معمر القذافي، وغالباً ما تكون مضطربة، فمنها تنطلق السياسة، وإليها يتوافد كبار المسؤولين الدوليين، كونها «بيت الحكم».
وبعد ما يزيد على 13 عاماً، على إسقاط نظام القذافي في فبراير (شباط) 2011، لم يغادر طرابلس دوي الرصاص والأسلحة الثقيلة والمتوسطة، في معارك ظلت تنتهي بتعزيز مكتسبات الميليشيات المسلحة، وتنقص من منسوب أمن سكانها وتراكم قتلاهم.
فمن «باب العزيزية» مقر حكم القذافي، بالعاصمة إلى «طريق السكة» الذي يحتضن ديوان حكومة «الوحدة» المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، شهدت طرابلس اقتتالاً عنيفاً، فضلاً عن «توافقات ومساومات»، بالإضافة إلى «إبرام اتفاقيات» يُعتقد أنها استهدفت «تثبيت دعائم السلطة» لمن تداولوها في ليبيا.
وبجانب تقلبات السياسة، صار العتاد المخزون لدى الميليشيات المسلحة خارج إطار الدولة، مصدر أرق وقلق لليبيا منذ إسقاط النظام السابق، بل إنه بات يمنعها من مغادرة «الفترة الانتقالية» وسط إصرار على أن يبقى الوضع على ما هو عليه، فكلما هدأت الاشتباكات أوقدت الميليشيات نارها، بغية الاستبقاء على ليبيا سوقاً رائجة للسلاح تدرّ ملايين الدولارات على «أمراء الحرب».
وخلال الأسبوعين الماضيين، تحوّلت طرابلس إلى مسرح للأحداث الساخنة إثر اغتيال القائد الميليشياوي عبد الغني الككلي، الشهير بـ«غنيوة»، في نزاع مع «حكومة الوحدة»، ما تسبب في اقتتال خلّف كثيراً من القتلى والجرحى، وروّع سكان أحياء عديدة بالعاصمة التي تضم ما يزيد على مليوني نسمة.
مقتل الككلي كشف عن هشاشة الوضع الأمني في العاصمة، وسلّط الضوء على ملف التشكيلات المسلحة، ومدى قدرة السلطة التنفيذية على تفكيكها، لكن المشهد السياسي في البلد الغني بالنفط يبدو أكثر تعقيداً.
وفيما كان البعض يراهن على حراك الشارع وتصاعد الاحتجاجات المطالبة بعزل الدبيبة، لم يتوقف توافد أفواج السياسيين الدوليين على مقر الحكومة في «طريق السكة»، فهناك اتفاقيات اقتصادية تتعلق بالطاقة والهجرة غير النظامية يجب دعم استمراريتها.
وقبل أن تستعيد العاصمة هدوءها، سارع خمسة سفراء أوروبيين معتمدين لدى ليبيا، إلى عقد لقاء مع الدبيبة، عدّه مكتبه تقديراً «لجهود حكومته في إنهاء وجود التشكيلات المسلحة الخارجة عن مؤسسات الدولة». واستغل الدبيبة هذا الاجتماع ليؤكد «التزام حكومته بتعقّب كل مرتكبي الجرائم، ومكافحة الإفلات من العقاب وضمان المساءلة عن الجرائم الجسيمة التي ارتُكبت بحق المواطنين».
وطرابلس «ميدان السياسية وبيت الحكم»، وبالإضافة لـ«حكومة الوحدة» تضم مقار مجلسي «الرئاسي»، و«الأعلى للدولة»، وأجهزة رقابية منها ديوان المحاسبة، و«المصرف المركزي» و«المؤسسة الوطنية للنفط» التي تتقاتل مجموعة من التشكيلات المسلحة والسياسية للاستحواذ على أكبر قدر مما تجنيه من عائدات.
وقدّر لطرابلس العاصمة، بحسب سياسيين، أن تظل رهينة الصراعات بين السلطة فيها ومعارضيها، وتتكبد نتيجة ذلك مزيداً من الدماء والقتلى الذين يسقطون في معركة التمسك بالحكم، ليظل مواطنوها هدفاً محتملاً لرصاص وقذائف الميليشيات.
وهنا يلاحظ أنه منذ أن دمرت الضربات الجوية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مجمع «باب العزيزية»، مقر حكم القذافي، بشكل شبه كامل غداة سقوط نظامه وحتى الآن، وطرابلس تدفع فاتورة مركزية الحكم، الذي نمت على أطرافه فئات من المستفيدين.
شيء من الفوضى الآن، لا يزال يعتصر العاصمة ويطرق بصماته على طرقاتها، ويؤرق سكانها، فهناك محتجون، وخصوصاً في «سوق الجمعة» شرقي طرابلس، يعملون على فرض واقع على الأرض وتكريس «عصيان مدني»... والشيء ذاته تكرر في بعض مناطق طرابلس.
ما يحدث في طرابلس دفع الحقوقي الليبي ناصر الهواري إلى التساؤل عن حكم الشرع في إغلاق الطرق العامة وحرق الإطارات في وسطها، وقال: «في كل مرة يُغلق فيها طريق أو تُحرق الإطارات، تُعلن الحرب على الناس الآمنين، وتُعطّل مصالح العباد، ويُرتكب فساد».
ويعد حي «أبو سليم» الذي كان يسيطر عليه الككلي من أشهر أحياء العاصمة، بالإضافة إلى الحي الإسلامي ومنطقة الدريبي، والمدينة القديمة، والهضبة الخضراء، وباب بن غشير والأندلس، ودمشق، وزاوية الدهماني، وزناتة و«سوق الجمعة» مقر نفوذ عبد الرؤوف كارة رئيس «قوة الردع الخاصة» الذي تحول إلى عدو للدبيبة.
وطرابلس، التي تأسست على يد الفينيقيين في القرن السابع قبل الميلاد، وعُرفت بألقاب عدة كـ«طرابلس الغرب»، و«عروس البحر الأبيض المتوسط»، تظل سياسياً عقبة كأداء أو جائزة كبرى، أمام من يقرر خوض ماراثون الانتخابات الرئاسية المقبلة. فهي تضم أكثر من 62 في المائة من عدد الناخبين، وهم الذين يحددون مَن يقود البلاد، عند الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.