بينما يسعى وفد برلماني فرنسي، يزور الجزائر حالياً، إلى جسّ نبض السلطات والسياسيين بشأن مدى الاستعداد لإنهاء التوترات الحادة بين البلدين، دخلت الأزمة الدبلوماسية مرحلةً أكثر تعقيداً وتوتراً، وذلك بعد قرار الجزائر طرد عدد من موظفي السفارة الفرنسية لديها بشكل جماعي، بدعوى أنهم «عناصر مخابرات متخفّون بصفة دبلوماسيين».
وزار الوفد البرلماني الفرنسي، الذي يتكون من نواب من أحزاب اليسار والوسط، الاثنين، «جامع الجزائر» بالعاصمة، وهو أهم صرح ديني في البلاد، حيث التقى مسؤوليه. وعقد لقاءات مع مسؤولين حكوميين، أبرزهم وزير المجاهدين العيد ربيقة بمناسبة حضورهم احتفالات الجزائر بمرور 80 عاماً (مايو/ أيار 1945) على مظاهرات بشرق البلاد قتل فيها آلاف الجزائريين على أيدي الشرطة الاستعمارية الفرنسية، بسبب مطالبتهم بالاستقلال.

ونقلت «وكالة الأنباء الجزائرية» الرسمية عن عضو كتلة «الخضر» بالبرلمان الفرنسي دانييل سيمونيه، أن البرلمانيين الذين يزورون الجزائر، «يولون أهمية كبيرة لماضي فرنسا في الجزائر، وجرائم الدولة التي ارتكبتها خلال فترة الاستعمار»، التي استمرت من 1830 إلى 1962، مشيرة إلى وجود «تحركات برلمانية في فرنسا لدفع الدولة إلى الاعتراف بهذه الجرائم، بمساعدة مؤرخين وتنظيمات بالمجتمع المدني». ودعت إلى «فتح صفحة جديدة في العلاقات الجزائرية الفرنسية».
وصرَح لوران لاردت، النائب الاشتراكي ورئيس «مجموعة الصداقة الفرنسية الجزائرية» في البرلمان الفرنسي، لـ«وكالة الأنباء الجزائرية»، بأن زيارة الوفد الذي يضم 15 نائباً «تعكس حرصنا على إقامة علاقات مبنية على الصداقة والتعاون بين بلدينا»، مشدداً على «ضرورة الذهاب بعيداً في مشروع التعامل مع الذاكرة التاريخية»، في إشارة إلى «لجنة الذاكرة» التي أطلقها البلدان عام 2023، بهدف «عقد مصالحة بين ذاكرتيهما»، وتجمع مؤرخين فرنسيين وجزائريين متخصصين في تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر. غير أن عمل «اللجنة» توقف بسبب اندلاع أزمة دبلوماسية بين البلدين، في يوليو (تموز) الماضي، على إثر انحياز باريس للمغرب في نزاع الصحراء. وتفاقمت مع الوقت مثل كرة ثلج وكانت عاكسة لمشكلات كبيرة بينهما، خصوصاً ما تعلق بالهجرتين النظامية والسرية وظاهرة العنصرية.

من جهتها، شددت النائبة صابرينا صبايحي، التي تتحدر من أصول جزائرية، على أهمية «الاعتراف رسمياً بمجازر 8 مايو 1945 كجريمة دولة»، مشيدة بـ«دور الدبلوماسية البرلمانية بخصوص إعادة فتح حوار بين البلدين».
وأبدت الحكومة الجزائرية أهمية كبيرة لزيارة البعثة البرلمانية الفرنسية، حيث تم استقبال أعضائها من طرف العديد من المسؤولين الحكوميين، كما عقد النواب لقاءات مع تنظيمات مهتمة بالتاريخ و«الذاكرة».
وفي حين توقع مراقبون أن تكون هذه الزيارة مقدمةً لإنهاء الخلافات، أعلنت السلطات الجزائرية، يوم الأحد، عن طريق وكالة الأنباء الرسمية، عن طرد 15 موظفاً بالبعثة الدبلوماسية الفرنسية، «فوراً بسبب تعيينهم في مناصبهم في ظروف مخالفة للإجراءات المعمول بها». وحسب مصادر جزائرية، يشتغل هؤلاء ملحقين بالسفارة تابعين لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي.
واستدعي القائم بالأعمال بالسفارة الفرنسية إلى مقر وزارة الخارجية الجزائرية، في اليوم نفسه، لإبلاغه بهذا القرار. وأفادت «وكالة الأنباء الجزائرية» بأن الموظفين الفرنسيين محل تحفظ من طرف سلطات البلاد، «لم تستوف بشأنهم الإجراءات الواجبة، المتمثلة في الإبلاغ الرسمي المسبق بتعيينهم أو طلب الاعتماد، كما تقتضيه الأعراف والاتفاقات الدولية ذات الصلة»، مؤكدة أن من بينهم اثنين تابعين لوزارة الداخلية الفرنسية، «تم إعلانهما بأنهما غير مرغوب فيهما»، في إشارة إلى خبر أذاعته «قناة الجزائر الدولية»، السبت، يخصّ منع دخول عنصرين من جهاز الأمن الداخلي الفرنسي، كانا يعتزمان الالتحاق بالبعثة الدبلوماسية الفرنسية بالجزائر، مؤكدةً أنهما «حاولا التسلل إلى الجزائر تحت غطاء مهمة دبلوماسية».

وفق المصادر الجزائرية ذاتها، منعت شرطة الحدود بمطار الجزائر العاصمة عنصري المخابرات الفرنسية من الدخول يوم الجمعة الماضي «بعد التثبت بأنهما ليسا دبلوماسيين حقيقيين».
يشار إلى عدم صدور بيان من وزارة الخارجية الجزائرية بخصوص الترحيل الجماعي للموظفين الفرنسيين، علماً بأن السفير الفرنسي لدى الجزائر تم سحبه الشهر الماضي، بسبب تفاقم الخلافات.
من جهته، قال وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إن فرنسا سترد على قرار الجزائر «غير المبرر» بطرد 15 مسؤولاً فرنسياً، وقال للصحافيين في نورماندي: «رحيل الموظفين الذين يقومون بمهام مؤقتة أمر غير مبرر، ومثلما فعلت الشهر الماضي سنرد على الفور وبطريقة قوية ومتناسبة». وقال بارو: «هذا قرار أشعر بالأسف عليه لأنه ليس في مصلحة الجزائر ولا في مصلحة فرنسا»، ورفض الإدلاء بمزيد من التفاصيل حول رد باريس.

وتُعد التطورات الأخيرة جزءاً من سلسلة توترات مستمرة بين البلدين منذ عشرة أشهر، رغم أن الحوار استؤنف بينهما في أبريل (نيسان) الماضي، بمناسبة زيارة وزير الخارجية بارو إلى الجزائر، في السادس من الشهر، حيث أعلن عن اتفاق بين الطرفين لفتح صفحة جديدة في العلاقات، لكن سرعان ما عاد التوتر من جديد حينما أعلنت الجزائر في 12 من الشهر ذاته عن طرد 12 موظفاً فرنسياً من وزارة الداخلية، وطلبت منهم مغادرة البلاد خلال 48 ساعة، مبررةً ذلك بأنه رد على توقيف وسجن موظف قنصلي جزائري في فرنسا اتهمه القضاء بخطف واحتجاز معارض جزائري لاجئ في فرنسا. وردّت باريس بطرد 12 موظفاً قنصلياً جزائرياً في خطوة دلّت على أن الخلافات تلامس يومياً القطيعة النهائية.
وتدهور العلاقات له عواقب أمنية واقتصادية واجتماعية وخيمة. ووفقاً لمسؤولين فرنسيين، فإن حجم التجارة بين البلدين كبير جداً، وحوالي 10 بالمائة من سكان فرنسا، البالغ عددهم 68 مليون نسمة، تربطهم صلات بالجزائر.



