نادراً ما رافق وفدٌ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارة رسمية بضخامة الوفد الاستثنائي الذي يرافقه في «زيارة الدولة» إلى المغرب التي بدأت عصر الاثنين وتستمر حتى يوم الأربعاء. فهو يصطحب معه وزراء: الخارجية، والدفاع، والداخلية، والاقتصاد، والتربية، والثقافة، والزراعة، ومجموعة من البرلمانيين، إضافة إلى وفد من رؤساء الشركات الفرنسية الكبرى والمتوسطة، ووجوه ثقافية وفنية ورياضية، وشخصيات مغربية مقيمة في فرنسا، ووزراء ونواب سابقين.
والنتيجة أن الوفد الرسمي يتشكل من 122 شخصاً، إضافة إلى المستشارين وكبار الموظفين... وضخامة الوفد، تعكس الرهان الفرنسي على زيارة تأجلت مرات عدة، ويراد لها أن ترسم «خريطة طريق» لعلاقات البلدين على مدى 3 عقود مقبلة، و أن تقلب نهائياً صفحة التباعد بينهما التي استمرت 3 سنوات.
تخطي الملفات الخلافية
ما كان لهذه الزيارة أن تحدث من غير الخطوة الفاصلة التي أقدم عليها الرئيس ماكرون في شهر يوليو (تموز) الماضي، عندما أحدث «انقلاباً» جذرياً في موقف فرنسا التقليدي من ملف الصحراء، بإعلانه، في رسالة موجهة إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس، أن «حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية».
وهذا التغير قلب الأمور رأساً على عقب؛ إذ كلل جهود التقارب التي بذلتها فرنسا في العامين الماضيين، حيث توالت الزيارات من الطرفين بوتيرة استثنائية، أهمها اثنتان: زيارة وزيرة الخارجية كاثرين كولونا إلى الرباط نهاية عام 2022، وزيارة خلفها في الوزارة ستيفان سيجورنيه إلى العاصمة المغربية في شهر مارس (آذار) من العام الحالي. وبينهما حدثت زيارات أخرى، كان هدفها جميعاً التغلب على الخلافات بين باريس والرباط، وتمهيد الطريق لـ«زيارة الدولة». ولكي تحدث، تراجعت باريس عن قرارها خفض عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة لزيارة فرنسا إلى النصف، والتغاضي عن اتهامات فرنسية للمغرب بالتجسس عبر برنامج «بيغاسوس» الإسرائيلي على كبار المسؤولين الفرنسيين ومن بينهم الرئيس ماكرون شخصياً، فضلاً عن الإشارات التي أرسلتها باريس بأن التقارب مع الجزائر لا يكون على حساب المغرب.
بيد أن استدارة ماكرون بخصوص الصحراء، أغضبت الحكومة الجزائرية التي عجّلت سحب سفيرها من باريس، وشنت حملة استثنائية سياسية وإعلامية على فرنسا التي «تدعم الاستعمار».
ولا شك في أن مدة زمنية طويلة سوف تنقضي قبل أن يتراجع التوتر بين العاصمتين.
ووفق مصدر فرنسي متابع للعلاقات بين باريس والجزائر، فإن الطرف الأول وصل إلى قناعة مفادها بأنه لن يكون سهلاً التغلب على المسائل الخلافية بين الجانبين، ومنها مسألة «مصالحة الذاكرتين»، وطي صفحة رواسب الصراع الدامي بينهما بسبب الحقبة الاستعمارية التي استمرت 132 عاماً، وتناسي ذكريات حرب الاستقلال الجزائرية الدامية.
ثم إن الملفات الاقتصادية والتجارية العالقة بينهما تراوح في مكانها. والخلاصة، التي توصلت إليها باريس، قوامها أن العودة إلى التفاهم مع المغرب ستكون أكثر مردودية بالنسبة إلى فرنسا ومؤسساتها وشركاتها، وأن الطريق إلى ذلك تشمل، دون شك، دفع الثمن السياسي في ملف الصحراء.
وليس من قبيل المصادفة أن رؤساء كبريات الشركات الفرنسية يرافقون ماكرون. ومن بين هؤلاء قادة «إنجي» و«ألستوم» و«سافران» و«توتال إنرجي» و«سوييز»، وممثلون عن شركات مثل «إيرباص» و«فيوليا» و«تاليس»... فالجانب الفرنسي؛ الذي يكرر أن فرنسا هي المستثمر الأول المباشر في الاقتصاد المغربي، وأنها شريكه التجاري والاقتصادي والاستثماري الأول، يريد لشركاته أن تعود لاحتلال الموقع الأول في سوق أصبحت مفتوحة وازدادت فيها المنافسة.
وطموحات باريس متعددة. وسيشكل ذلك أحد المحاور الرئيسية للزيارة. وأعلن وزير الدفاع سيباستيان لو كورنو، أن باريس «ستتحاور مع المغرب حول مسائل القدرات الدفاعية». و تأمل شركة «نافال غروب» أن تنجح في بيع البحرية المغربية غواصتين من طراز «سكوربين». والمنافسة قائمة بينها وبين الشركة الألمانية «تيسن غروب سيستمز».
وتسعى باريس كذلك إلى إقناع سلاح الجو الملكي المغربي بشراء 15 طائرة هليكوبتر من طراز «كاراكال» بقيمة 400 مليون يورو، التي تصنعها شركة «إيرباص هليكوبتر».
يضاف إلى ما سبق، أن الجانب الفرنسي يريد الانتهاء من ملف حيازة المغرب سرباً من طائرات «ميراج 2000 - 9» يريد سلاح الجو الإماراتي التخلي عنه، في إطار عملية تحديث أسطوله من الطائرات المقاتلة.
أما في القطاعات المدنية، فإن «إيرباص» تأمل في أن تحصل على حصة من خطة «الطيران الملكي المغربي» الهادفة إلى شراء 188 طائرة حتى عام 2037. والحال أن غالبية أسطول الناقل المغربي تتشكل من طائرات «بوينغ». وتريد «إيرباص» عرض طائرتها من طراز «آي320» لمنافسة طائرة «بوينغ737».
كذلك، فإن شركة «ألستوم» الفرنسية تسعى إلى الحصول على عقد بيع المغرب 18 حافلة لخط القطارات السريع، وأن تكون في مشروع تمديد خط القطارات السريع بين طنجة وأغادير، الذي سبق للملك محمد السادس والرئيس ماكرون أن دشنا شطره الأول في عام 2018، في ثاني زيارة من ماكرون إلى المغرب.
وسبق لـ«قصر الإليزيه» أن أعلن أن فرنسا تريد «مواكبة المغرب» في التحضير لاستضافة «مونديال 2030» لكرة القدم، وأن تساهم في «تحدي» البنى التحتية المغربية، والتغلب على أزمة المياه التقليدية التي يعاني منها بشكل دائم. ومن المشاريع المطروحة للبحث؛ تحلية مياه البحر.
ويريد الجانب الفرنسي العمل مع المغرب لتعزيز الحضور المشترك في البلدان الأفريقية. ومن المرتقب أن تجري عمليتا توقيع عقود: الأولى مساء الاثنين بحضور الرئيس ماكرون وملك المغرب، والثانية الأربعاء بمناسبة المؤتمر الاقتصادي الذي سيختتمه الرئيس الفرنسي. وهذه الاتفاقيات ستشمل، كما تفيد المصادر الفرنسية، المياه، والتعليم، والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والأمن الداخلي، والدفاع.
يبدو واضحاً أن الطموحات الفرنسية كبيرة، وأنها تلاقي الحاجات المغربية. ونقلت صحيفة «لوبينيون» الفرنسية، في عددها يوم الاثنين، عن مصدر مغربي مطلع، أن المشكلة الأولى للمغرب تتمثل في توفير التمويل، وأنه يراهن على «ليونة» فرنسية في هذا المجال، مما يسهل العقود التي تراها «مكافأة» لفرنسا لموقفها السياسي المستجد في ملف الصحراء.
وينتظر أن يؤكد ماكرون مجدداً، في اجتماعه المغلق مع الملك المغربي، على مواقفه الجديدة، وكذلك في الخطاب الذي سيلقيه أمام البرلمان.
وتأمل باريس والرباط في التوصل إلى تفاهم بشأن مسألة الهجرات، خصوصاً بشأن المواطنين المغاربة الذين تصدر بحقهم مذكرات إبعاد عن الأراضي الفرنسية، التي لا يمكن تنفيذها من غير موافقة رسمية من الطرف المغربي.
وفي هذا السياق، تعود المهمة إلى وزير الداخلية الفرنسي الجديد، برونو روتايو، وهو يميني متشدد ينهج خطاً متصلباً في موضوع الهجرات بشكل عام، ويسعى لمضاعفة نسبة ترحيل الأجانب، ومنهم المغاربة الذين لا حق لهم في البقاء على الأراضي الفرنسية.