بينما تواصلت أشغال «لجنة الذاكرة» في الجزائر، حيث يجري بحث تسوية «مشاكل الماضي الاستعماري الفرنسي»، حث رئيس وزراء فرنسا الأسبق، دومينيك دوفيلبان، الرئيس إيمانويل ماكرون على طلب «الصفح» من الجزائر عن الجرائم التي ارتُكبت خلال فترة الاحتلال، التي دامت 132 سنة (1830 - 1962).
ويزور دوفيلبان الجزائر حالياً بدعوة من كلية الإعلام بالجزائر العاصمة، وكان يتحدث الاثنين في محاضرة حول «المعطيات العالمية الجديدة»، عندما سأله باحث جزائري عن «مسألة الذاكرة والاعتذار عن الآلام التي سببها الاستعمار للجزائريين»، فقال إن «الرئيس نفسه لا يملك القدرة على محو مآسي الماضي بضربة واحدة»، داعياً إلى أن «نجعل من قضية الذاكرة ماضياً مشتركاً، وخطوة بعد خطوة سنحرز تقدماً إلى الأمام، شعباً وقادة».
وأكد دوفيلبان أنه «لا يمكن محو جرائم الاستعمار، لكن من واجبنا جميعاً الاعتراف بها. وفي بعض الأحيان، يستغرق الأمر سنوات للتأكد من صحة مواقف وحقائق معينة»، مبرزاً أن الوجود الاستعماري الفرنسي بالجزائر، «جزء من شعب بكامله»، ومشدداً على «أهمية ألا تحيد الأفعال التي تربط بين بلدين قريبين كفرنسا والجزائر، عن وجهتها»، من دون تفسير ما يقصد بذلك، لكن مراقبين فسروا ذلك على أنه دعوة إلى تفادي الانزلاقات في «ملف الذاكرة»، الذي يطرح صعوبات بالغة في التأسيس لعلاقات ثنائية عادية بين البلدين، تكون مبنية على المصلحة.
والمعروف أن دوفيلبان تولى مسؤوليات كبيرة في فرنسا، منها وزير خارجية وأمين عام بقصر الإليزيه وسفير سابق لدى المغرب، وفوق ذلك هو روائي وشاعر. اشتهر بخطابه في الأمم المتحدة عندما ندد بالغزو الأميركي للعراق عام 2003. وواجه منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة هجوماً حاداً من طرف اليمين وقطاع من الإعلام في فرنسا، بسبب تنديده بالمجازر التي يتعرض لها سكان القطاع.
وأفاض دوفيلبان في «موضوع الذاكرة»، موضحاً أنه «ملم به جيداً... فقد كنت أميناً عاماً بالإليزيه في عهد الرئيس جاك شيراك، وأنا أعلم أن هناك عقبات تشكل صعوبات في بعض الأحيان، كقضية الاشتغال على الذاكرة».
وجاءت الإشارة إلى فترة رئاسة شيراك من جانب أن «قضية الذاكرة» طُرحت خلال هذه الفترة، وتحديداً في 2005 لما أصدر البرلمان الفرنسي قانوناً تحدث عن «منافع الوجود الفرنسي في شمال أفريقيا خلال القرنين الـ19 والـ20». وعدّت الجزائر التشريع «تمجيداً للاستعمار»، وطالبت بسحبه. ولاحقاً تم تعديله بإلغاء ما فيه من «إشادة بالاحتلال».
كما أشار دوفيلبان إلى «قضايا تثير الانقسام في فرنسا»، وأكد أن «بعضها يبدو سهل الحل، لكنه يؤدي إلى الانقسام»، مشيداً بـ«ما تم إنجازه حتى الآن»، وذكر على الخصوص تقديم ماكرون اعترافاً في سبتمبر (أيلول) 2018 بمسؤولية الجيش الاستعماري عن مقتل واختفاء موريس أودان، أستاذ الرياضيات والمناضل الشيوعي الذي كان مؤيداً لاستقلال الجزائر، مما عرضه للتعذيب عام 1957. واعترافاً آخر في مارس (آذار) 2021 بمسؤولية فرنسا عن تعذيب وقتل المحامي الجزائري الشهير علي بومنجل في العام نفسه، وذلك بعد فترة قصيرة من اعتقاله، في حين ادعى الفرنسيون أنه «انتحر برمي نفسه من طابق علوي من مقر الشرطة».
وتزامنت تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مع بدء وفدين من الباحثين في التاريخ جزائريين وفرنسيين، اجتماعاً الاثنين بالجزائر، لبحث «تسوية النزاع حول الذاكرة»، بناء على توجيهات من رئيسي البلدين. وسيدوم هذا اللقاء أياماً، وهو الخامس منذ أبريل (نيسان) 2023.
وكان ماكرون استبعد تماماً «طلب الصفح» من الجزائر عن جرائم الاستعمار، خلال مقابلة مع مجلة «لوبوان» الفرنسية، نُشرت في 12 يناير (كانون الثاني) 2023؛ إذ أكد أن «أسوأ ما يمكن أن يحصل هو أن نقول: نحن نعتذر، وكل منا يذهب لحال سبيله»، مشدداً على أن «عمل الذاكرة والتاريخ ليس جردة حساب... إنه عكس ذلك تماماً».