الموت على الأرض أو في الشوارع: الولادة وسط الحرب في السودان

طفل يبلغ من العمر يوم واحد يعالج من متلازمة الضائقة التنفسية الحادة في مستشفى الندى بأم درمان (نيويورك تايمز)
طفل يبلغ من العمر يوم واحد يعالج من متلازمة الضائقة التنفسية الحادة في مستشفى الندى بأم درمان (نيويورك تايمز)
TT

الموت على الأرض أو في الشوارع: الولادة وسط الحرب في السودان

طفل يبلغ من العمر يوم واحد يعالج من متلازمة الضائقة التنفسية الحادة في مستشفى الندى بأم درمان (نيويورك تايمز)
طفل يبلغ من العمر يوم واحد يعالج من متلازمة الضائقة التنفسية الحادة في مستشفى الندى بأم درمان (نيويورك تايمز)

أجبرت الحرب في هذا البلد، الواقع في شمال شرق أفريقيا، النساء الحوامل على التحرك «عبر الجحيم» للوصول إلى عدد متضائل من المستشفيات والعيادات، أو اللجوء إلى القابلات المُنهكات من كثرة العمل، لإنجاب أطفالهن في المنزل.

بعد أيام من اندلاع القتال في السودان، تلقت آمنة أحمد نداء استغاثة عاجلاً من امرأة حامل أخبرتها أنها على وشك الموت. قالت السيدة آمنة أحمد، القابلة البالغة من العمر 42 عاماً، إنها ركضت خلال إطلاق النار الذي اجتاح حيها في أم درمان، شمال العاصمة الخرطوم، للوصول إلى منزل المرأة. وعند وصولها في منتصف الليل، أدركت بسرعة أن الطفل كان عالقاً في قناة الولادة الخاصة بالأم. لكن، لم تكن هناك سيارات إسعاف أو سيارات أجرة لنقلها إلى المستشفى.

وقالت القابلة في مقابلة هاتفية: «كنا نختار ما بين الموت على الأرض أو الموت في الشوارع»، مشيرة إلى اختلاط أصوات القصف مع أنين المرأة: «قالت لي السيدة إن الألم قد أجبر روحها على مغادرة جسدها».

بعد ساعات عدة، ساعدت السيدة آمنة أحمد المرأة على ركوب دراجة نارية، وهرعت بها إلى عيادة قريبة، حيث تمكنت من وضع ابنتها.

مستشفى الندى في أم درمان (نيويورك تايمز)

النساء الحوامل ضحايا الحرب

لقد أجبرت الحرب، التي اندلعت في السودان النساء الحوامل، في جميع أنحاء البلاد، على تفادي القصف المدفعي والسير عبر نقاط التفتيش للوصول إلى العدد المتناقص من المستشفيات وأقسام الولادة التي لا تزال مفتوحة. وتقدر الأمم المتحدة أن عشرات الآلاف غيرهن قد نزحن، أو حوصرن في منازلهن، أو أن أطفالهن قد ولدوا على أيدي القابلات، أو أفراد من أسرهن، أو لا أحد على الإطلاق.

يدخل الصراع شهره الثاني، بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات «الدعم السريع» شبه العسكرية بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو. وقد وافق الجانبان، يوم السبت، على وقف لإطلاق النار لمدة 7 أيام، بدأ سريانه مساء الاثنين، برغم سماع أصوات إطلاق نار وانفجارات متفرقة في أجزاء من العاصمة والمدن المجاورة لها يوم الثلاثاء.

ويقول الأطباء وعمال الإغاثة إن الوضع في السودان، أحد أكبر البلدان الأفريقية، يتجه نحو كارثة إنسانية. وكان السودان قد سجل بالفعل واحداً من أعلى معدلات وفيات الأمهات في العالم قبل اندلاع القتال.

ويُعتقد أن هناك أكثر من 1.1 مليون امرأة سودانية حامل. ومن بين أولئك الذين هن في أمسّ الحاجة إلى المساعدة الإنسانية، 29 ألف امرأة من المتوقع أن يلدن في الشهر المقبل، وفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان. ويُعتقد أن ما لا يقل عن 4300 امرأة مُعرضة لخطر الوفاة ويحتجن إلى رعاية التوليد الطارئة.

مهام انتحارية لإنقاذ الحوامل

وقال الدكتور محمد فتح الرحمن (33 عاماً)، وهو طبيب أطفال ومدير عام «مستشفى الندى» في أم درمان، ويُشرف على قسم الولادة: «إن الآباء كانوا يقودون سياراتهم عبر الجحيم للوصول إلينا، وكأنهم في مهام انتحارية». و«مستشفى الندى» من بين المرافق القليلة المتبقية في الخرطوم الكبرى التي لا يزال يولد فيها الأطفال، والقاعات فيها مكتظة بالنساء الحوامل.

وقال فتح الرحمن في مقابلة عبر الهاتف: «تأتي السيارات إلى المستشفى عندنا مغطاة بثقوب الرصاص. هؤلاء النسوة قلقات للغاية، ويتعرضن لضغوط شديدة، والعديد منهن في مرحلة متقدمة من المخاض».

وقال إنه أخرج لتوه من المستشفى امرأة وصلت بحالة ولادة معكوسة، بعد أن أمضت ساعات في نقطة تفتيش تسيطر عليها القوات شبه العسكرية، التي كانت تستجوب زوجها. وأضاف الدكتور فتح الرحمن: «بكل أسف، لم تصل إلينا في الوقت المناسب، ولم تُكتب للطفل النجاة».

ممرضة أطفال تقوم بمعالجة مولود جديد في مستشفى الندى بأم درمان (نيويورك تايمز)

ارتفاع عدد المواليد

وأضاف أن عدد الأطفال الذين ولدوا قبل الأوان في المستشفى قد ارتفع بنسبة الثلث تقريباً منذ بدء القتال في 15 أبريل (نيسان) الماضي. وبوجود طاقم ضئيل، قدّر أن قسم الولادة قد ولّد أكثر من 600 مولود جديد خلال الشهر الماضي، أي 20 ضعف العدد المعتاد. وفي الأسابيع القليلة الأولى من الصراع، كانوا يجرون ما يصل إلى 50 عملية قيصرية في اليوم، وغالباً مع طفلين حديثي الولادة يتشاركان الحاضنة نفسها.

وقال فتح الرحمن إنه تمكن من الحفاظ على سير عمل المستشفى عبر التمويل الدولي من جمعية الأطباء الأميركيين السودانيين. وقد موّلت الجمعية كل عملية قيصرية منذ بدء النزاع، وسمحت للدكتور فتح الرحمن بأن يقدم لموظفيه المتبقين أجوراً أعلى لمنعهم من الفرار.

وأيد روايته عمال إغاثة من منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة «كير»، و«الهيئة الطبية الدولية»، ومنظمة «أطباء بلا حدود»، و«منظمة إنقاذ الطفولة»، الذين قالوا لصحيفة «نيويورك تايمز» إن الأزمة التي تؤثر على النساء الحوامل تمثل رمزاً لانهيار نظام الصحة العامة في جميع أنحاء السودان منذ بدء القتال.

وقال أديف جوزيف إيجي سيريكي، المستشار العالمي للصحة الجنسية والصحة الإنجابية في «الهيئة الطبية الدولية»، التي تعمل على تدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية في جميع أنحاء السودان: «هذا الأمر سوف يزداد سوءاً».

ويترتب على الوضع الصحي المتردي للأمهات عواقب أيضاً على الأطفال المولودين قبل الأوان. وقال سيريكي: «الأطفال المبتسرون أكثر عرضة للإصابة بعيوب تستمر طوال الحياة، بما في ذلك الإعاقات الذهنية، والشلل الدماغي، وضعف السمع والبصر».

وحتى قبل اندلاع النزاع الحالي، كان السودان يعاني من نظام صحي هش يفتقر إلى البنية التحتية والمعدات الكافية، ونقص في المهنيين الصحيين المهرة، وسلسلة إمداد محدودة. ووفقاً للأمم المتحدة، بلغ معدل وفيات الأمهات في السودان نحو 270 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية، مقارنة بـ21 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة حية في الولايات المتحدة.

60 في المائة من المستشفيات أغلقت

وفي ولاية الخرطوم، التي يسكنها نحو 10 ملايين شخص، أغلقت نحو 60 بالمائة من مرافق الرعاية الصحية أبوابها الآن، مع 20 في المائة فقط من المرافق العاملة بالكامل، وفقاً للأمم المتحدة. وفي «الجنينة»، عاصمة إقليم غرب دارفور، أغلقت كافة المرافق الصحية أبوابها.

وتحولت المستشفيات نفسها إلى مسارح للقتال العنيف. وطردت الجماعات المسلحة 8 مرضى كانوا يتلقون الرعاية في مركز صحي في الخرطوم من أجل استخدامها قاعدة، حسبما ذكرت «منظمة إنقاذ الطفولة» غير الربحية. وتعرض العديد من الأطباء والممرضين الذين بقوا في البلاد للتهديد والاعتقال.

كما تفشت أعمال السلب والنهب، ونُهبت العديد من المستشفيات والصيدليات والمخازن. وقالت نقابة الأطباء السودانية إن المرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة، مثل السرطان أو أمراض القلب أو السكري، لم يتمكنوا من الحصول على الأدوية لأسابيع، في حين أغلقت عشرات مراكز غسيل الكلى أبوابها.

لكنَّ مجالات قليلة من النظام الصحي في السودان تأثرت بنفس الحدة التي تأثرت بها شبكات رعاية الأمومة. فبمجرد بدء القتال، بدأت القابلات في جميع أنحاء البلاد بتلقي نداءات للمساعدة من الأمهات الحوامل.

وقالت رانيا حسن، رئيسة فريق الصحة الإنجابية في منظمة الأمم المتحدة في السودان، التي تساعد في دعم شبكة من 400 قابلة مجتمعية على الأقل في البلاد: «صارت هؤلاء النساء شريان الحياة الحيوي بصورة متزايدة لأولئك النساء العالقات في المنازل». وأضافت أن عملهن «يكتسب أهمية خاصة في المنطقة داخل الخرطوم وحولها، حيث كان القتال أكثر ضراوة، وحيث تفضل العديد من النساء الولادة في مرافق الرعاية الصحية».

وتنتشر القابلات في مختلف المدن والقرى، ويدخلن إلى منازل النساء لتوليد الأطفال حديثي الولادة، وغالباً ما يستجبن لطلبات مجموعات الدردشة في الأحياء أو الخطوط الساخنة للطوارئ.

وتساعد السيدة آمنة أحمد، التي كانت تركب مع المرأة الحامل على الدراجة النارية، في تنسيق فريق من 20 قابلة في أم درمان. وقد ساعدن سوياً في توليد نحو 200 طفل منذ اندلاع القتال.

وأشارت إلى أن القابلات لا يتحدين العنف فحسب، بل غالباً ما يُجبرن على العمل من دون الوصول إلى الهواتف أو الإنترنت، وهي الخدمات التي تدهورت كثيراً بسبب الاشتباكات.

وقالت السيدة آمنة أحمد إنها ولّدت 8 أطفال خلال الصراع، لكن الفوضى جعلت من الصعب الوصول إلى النساء والحصول على الإمدادات الطبية.

وردّد روايتها نساء أخريات، مثل أحلام عبد الله حميد، القابلة البالغة من العمر 27 عاماً، التي ولّدت 6 أطفال في مدينة بحري، شمال الخرطوم.

وقالت حميد في مقابلة هاتفية: «الوضع عسير للغاية»، مضيفة أنها انتقلت للمساعدة بعد أن تابعت سلسلة من الطلبات من النساء الحوامل على قناة «واتساب» في الحي الذي تقيم فيه.

وفي حين أن جميع ولاداتها كانت ناجحة، قالت إنها بدأت تشعر بالقلق إزاء التحرك وسط قتال الشوارع الذي يزداد سوءاً ويصعب التنبؤ به ليلاً، وهو الوقت الذي تستجيب فيه عادة للمكالمات.

لكنها لا تزال مستعدة للمخاطرة، بحسب قولها، مُضيفة أنها تشعر بإحساس قوي بالمسؤولية للمساعدة في كل مرة تسمع فيها نداء من امرأة في حالة حرجة.

وقالت أخيراً إن «دعوات النساء لي بالخير تجعلني أشعر بالحزن»، متسائلة: «كيف يمكنني المغادرة وهن يطلبن المساعدة باستمرار؟».

خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

شمال افريقيا علي عبد الرحمن الشهير بـ«علي كوشيب» المتهم بجرائم حرب في إقليم بدارفور (موقع «الجنائية الدولية»)

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

حددت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي 11 ديسمبر المقبل لبدء المرافعات الختامية في قضية السوداني علي كوشيب، المتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور.

أحمد يونس (كمبالا)
الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا سودانيون فارُّون من منطقة الجزيرة السودانية يصلون إلى مخيم للنازحين في مدينة القضارف شرق البلاد 31 أكتوبر (أ.ف.ب)

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة، فيما تعتزم الحكومة الألمانية دعم مشروع لدمج وتوطين اللاجئين السودانيين في تشاد.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا النيران تلتهم سوقاً للماشية نتيجة معارك سابقة في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (أ.ف.ب)

السودان: توغل «الدعم السريع» في النيل الأزرق والجيش يستعيد بلدة

تشير أنباء متداولة إلى أن الجيش أحرز تقدماً كبيراً نحو مدينة سنجة التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، يونيو (حزيران) الماضي.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا عائلة تستريح بعد مغادرة جزيرة توتي التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في أم درمان بالسودان يوم 10 نوفمبر 2024 (رويترز)

السودان: 40 قتيلاً في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

أفاد طبيب بمقتل 40 شخصاً «بالرصاص» في السودان، بهجوم شنّه عناصر من «قوات الدعم السريع» على قرية بولاية الجزيرة وسط البلاد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.