أثار إطلاق الصواريخ مجدداً من قطاع غزة باتجاه مناطق إسرائيلية محاذية للحدود، غضباً وجدلاً كبيرين بين الناس، وهو جدل امتد حتى لرجال دين بعد أن حرم أحدهم إطلاق هذه الصواريخ، في فتوى غير مسبوقة استندت إلى الضرر الذي تحدثه الصواريخ على الناس المتضررة والمهجرة بعد أكثر من عام وشهرين على الحرب.
ولم يستطع الغزيون إلا التعبير عن غضبهم، وعلا صوتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضد مطلقي الصواريخ، خصوصاً أن إسرائيل ترد عادة بقصف وقتل الناس في محيط الأماكن التي يطلق منها الصواريخ، ناهيك عن تهجيرهم.
وهاجم الغزيون مطلقي الصواريخ بعد إطلاق صواريخ لليوم الثالث على التوالي من مناطق متفرقة بالقطاع تجاه مستوطنات ومدن إسرائيلية، آخرها مساء الجمعة، من قبل عناصر تابعة لحركة «الجهاد الإسلامي» أطلقت صاروخين تجاه مدينة عسقلان على الحدود الشمالية للقطاع.
وكان الجيش الإسرائيلي أصدر بعد وقت قصير من إطلاق الصواريخ، خريطة جديدة، طلب فيها من سكان مناطق: أبو إسكندر وجباليا النزلة والبلد، في شمال القطاع، إخلاءها فوراً، بسبب إطلاق الصواريخ منها، وسبق ذلك بيوم واحد، إطلاق قذائف هاون من بعض مناطق جنوب مدينة غزة تجاه محور نتساريم، ما دفع إسرائيل مرةً أخرى لإصدار خريطة جديدة لإخلاء حيي الرمال والصبرة، وهما يضمان أعداداً كبيرة من النازحين من سكان مخيم جباليا، الذي يشهد عملية عسكرية منذ ما يزيد على 70 يوماً.
مرارة النزوح
وقال غزيون فقدوا منازلهم ونزحوا من مكان لمكان طيلة وقت الحرب، إنهم ما عاد لديهم مكان يذهبون إليه، وإن على مطلقي الصواريخ تجنب وضعهم تحت النار والتهجير مرة أخرى.
واضطر معين أبو يونس، من سكان جباليا النزلة، للنزوح مع عائلته المكونة من 9 أفراد، ليلة السبت، في أجواء باردة جداً، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدا حاسس فينا، وبمعاناتنا، يعني ضرب الصواريخ ما بفيد غير أنه يسمح للاحتلال أن يقتلنا ويهجرنا. مش فاهم شو المطلوب».
ويروي أبو يونس كيف أنه قضى ليلة باردة يبحث فيها عن خيمة تؤوي أطفاله، من أجل «استعراض الصواريخ». وقال منفعلاً: «بكفي ضرب صواريخ، وبكفينا هموم. احنا تعبنا من كل إشي، بكفينا ذل ومهانة».
كما انفعلت ميار الحميدي، من سكان منطقة أبو إسكندر في حي الشيخ رضوان، والتي طُلب إخلاؤها، قائلة: «كل كام يوم بطلبوا منا ننزح، بسبب صاروخ أو قذيفة هاون، ما بتعمل إشي ولا بتقتل يهودي واحد، يا اهي احنا ما بدنا غير انو نعيش». وأضافت: «احنا مع المقاومة، بس مع المقاومة الرشيدة اللي بتعمل وفق مصالح أهلها مش مصالحها اللي بتشوف نفسها إنها فوق الناس، وليس معهم».
جدل «فيسبوكي»
هذا الغضب كان يمكن رصده بسهولة على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، التي شهدت موجة من المنشورات والتعليقات التي تعبر عن رفضها لإطلاق الصواريخ في ظل الظروف الصعبة للسكان، ومرارة النزوح التي لا تتوقف، بينما حاول البعض وهم قلة الدفاع عما تقوم به الفصائل.
ولأول مرة كان يمكن رصد كم كبير من التعليقات من غزيين غير قلقين من قول رأيهم.
وكتب الناشط عمر عبد ربه، الذي كان اتهم «حماس» بالتعرض له على خلفية كتابات على «فيسبوك»: «أنا نازح فلسطيني في وسط قطاع غزة حيث انطلقت منها الصواريخ العبثية الأخيرة تجاه إسرائيل، هي لم تسبب أي ضرر لها قطعاً، لكنني المتضرر الوحيد لاحتمال طلب إخلاء المنطقة الجغرافيّة، بوصفها منطقة قتال خطيرة، هذا ما يمكن جنيه من المقاومة المزعومة».
وكتب منشئ المحتوى والناشط مهند النهار، بعد أن نشر تعميم جيش الاحتلال بالخريطة الجديدة للنزوح: «تخيل في وسط هذا البرد والخوف الشديد لأهل غزة الذين تشردوا في العراء يأتيهم أمر بالإخلاء... والسبب... صواريخ عبثية تطلقها (حماس) من نفس مكان وجود هؤلاء المدنيين!». أضاف: «أعانكم الله... أعانكم الله على هذا البلاء وعلى هذه الحماقات والمراهقات!! لا أدري إلى متى سيظل مصير أهل غزة مرهوناً بيد هؤلاء!! لا عقل ولا فهم ولا رحمة!!».
وكتب الصحافي والناشط عزيز المصري: «كل من يطلق صواريخ من بين السكان وهو يعلم أنها ليست ذات فائدة اليوم... هو مشبوه وجاسوس... بالأمس تهجير المغازي والمصدر واليوم الجيش يطالب بإخلاء الصبرة وحي الرمال... وين تروح الناس في ظل احتلال كل شمال غزة... شو ضل أماكن في مدينة غزة يمكن النزوح إليها؟؟... لكن الهدف معروف إيصال إرسال رسالة أننا ما زلنا موجودين والثمن يدفعه الشعب، عادي... خسائر تكتيكية ع قولة مشعل».
وقال صلاح الدين مطر: «حسبي الله ونعم الوكيل في كل واحد بضرب صواريخ في هذا الوقت... يعني صواريخ بتسجل معاناة نزوح جديدة... الناس والله ما هي ناقصاكم يا تعون المقاومة ولا ناقصة صواريخكم العبثية».
وبطبيعة الحال، رد ناشطون بتمجيد مطلقي الصواريخ. وكتب كرم إبراهيم: «المجد للمقاومة الفلسطينية»، وكتبت إلهام شريف: «المقاومة وحدها من تحرر الأرض».
جدل ديني
ولأول مرة ينتقل هذا النوع من الجدل إلى رجال الدين؛ فقد نشر الداعية سلمان الداية، أستاذ الفقه وأصوله، وعميد كلية الشريعة السابق بالجامعة الإسلامية التابعة لحركة «حماس»، وأحد الشخصيات الدينية التي كانت تأخذ الحركة بمواقفه وفتاويه في العديد من القضايا، فتوى حول حكم ضرب قذائف صاروخية وغيرها من أماكن وجود الناس وأماكن نزوحهم، مُحرِّماً ذلك.
وكتب الداية: «إن مآلات هذا الفعل وتداعياته تتنافي مع مقاصد الجهاد، فما شرع الجهاد إلا لحفظ مصالح من رميت القذيفة من بين بيوتهم، فمن أس مقاصد الجهاد: ألا تفتنهم في دينهم بردة في السلوك، أو في المعتقد، أو بهلاك في الأنفس، أو دمار في البيوت المتصدعة من آثار ما ألقي على القطاع من حمم وقنابل وصواريخ».
أضاف: «أيهما أخف عند العقلاء: وجود المحتل الدائم في قطاعنا مع سكون وانشغال عنا بقدر ما، أم رجمه بصاروخ يصرفه عن سكونه ليجعله مشغولاً بنا، ممعناً في تدميرنا ليله ونهاره، مع عجزكم عن دفعه على كل حال؛ للفارق المذهل في العدد والعتاد والإمداد؟».
وفوراً دفعت هذه الفتوى عناصر من «حماس» لمهاجمة الداية، على صفحته قبل أن يقوم بإغلاق التعليقات، والتي كان بينها انتقادات له لأنه تأخر في الفتوى، كما كال له غاضبون شتى أنواع الاتهامات.
وكتب وائل المبيض، من سكان حي الشجاعية: «بعد ما اتدمرت غزة وصارت سكن وتراب، طالع الشيخ يحكي لا يجوز ضرب الصواريخ من بين البيوت والخيام، صحت النومة يا شيخ، كمان شوي رح توقف الحرب يا شيخ، ليش مستعجل بهالفتوى!!».
فيما كتبت أم محمد طارق: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تصل أبداً»، بينما كتب الناشط عرابي منصور: «لا يفتي القاعد ولا المجاهد للنازح». ورد الداعية أنس المصري على الداية، مذكراً بفتوى سابقة له، ومشيراً إلى أن الداية كان جزءاً من مجلس فقهي يصدر الفتاوي وفق خدمة مشاريع «حماس».
بينما نشر رجال دين أطلقوا على أنفسهم اسم «المجلس الفقهي الإسلامي»، بياناً دعوياً اتهموا فيه الداية بأنه منذ سنوات طويلة «لا يرفع راية المقاومة ويدعم الجهاد، كما أنه يرى المقاومة أعمالاً مندفعة، ضررها أكبر من نفعها، وهو ما يجعل أي نقد منه لسلوك، ليس نقداً لسلوك جزئي، بل لمنهج الجهاد برمته ومنهج سالكيه». وفق بيانهم الموقف غير المعلن لـ«حماس».
والهجوم من قبل عناصر ومؤيدي «حماس» على الداية جاء على الرغم من أن مصادر ميدانية أكدت لـ«الشرق الأوسط»، أن حركة «حماس» طلبت في الأسبوعين الأخيرين من المجموعات العسكرية التابعة لها، وكذلك مجموعات تتبع لفصائل أخرى، بعدم إطلاق أي قذائف صاروخية أو قذائف هاون تجاه النقاط العسكرية المركزية الإسرائيلية. وقالت المصادر إن موقف الحركة جاء «منعاً لمنح الاحتلال أي مبرر لإخلاء للدخول لمناطق جديدة أو قصفها جواً وإجبار السكان على موجات نزوح جديدة».