غزاويون غاضبون من إطلاق صواريخ وسط الناس... وفتوى تؤيدهم

يضطرون للنزوح كل مرة وإسرائيل ترد بقتل المزيد من المدنيين

امرأة فلسطينية تحمل طفلاً مصاباً في موقع غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين في مدينة غزة 14 ديسمبر 2024 (رويترز)
امرأة فلسطينية تحمل طفلاً مصاباً في موقع غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين في مدينة غزة 14 ديسمبر 2024 (رويترز)
TT

غزاويون غاضبون من إطلاق صواريخ وسط الناس... وفتوى تؤيدهم

امرأة فلسطينية تحمل طفلاً مصاباً في موقع غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين في مدينة غزة 14 ديسمبر 2024 (رويترز)
امرأة فلسطينية تحمل طفلاً مصاباً في موقع غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين في مدينة غزة 14 ديسمبر 2024 (رويترز)

أثار إطلاق الصواريخ مجدداً من قطاع غزة باتجاه مناطق إسرائيلية محاذية للحدود، غضباً وجدلاً كبيرين بين الناس، وهو جدل امتد حتى لرجال دين بعد أن حرم أحدهم إطلاق هذه الصواريخ، في فتوى غير مسبوقة استندت إلى الضرر الذي تحدثه الصواريخ على الناس المتضررة والمهجرة بعد أكثر من عام وشهرين على الحرب.

ولم يستطع الغزيون إلا التعبير عن غضبهم، وعلا صوتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضد مطلقي الصواريخ، خصوصاً أن إسرائيل ترد عادة بقصف وقتل الناس في محيط الأماكن التي يطلق منها الصواريخ، ناهيك عن تهجيرهم.

وهاجم الغزيون مطلقي الصواريخ بعد إطلاق صواريخ لليوم الثالث على التوالي من مناطق متفرقة بالقطاع تجاه مستوطنات ومدن إسرائيلية، آخرها مساء الجمعة، من قبل عناصر تابعة لحركة «الجهاد الإسلامي» أطلقت صاروخين تجاه مدينة عسقلان على الحدود الشمالية للقطاع.

فلسطينيون يعاينون مبنى أصيب بقصف إسرائيلي في غزة السبت (رويترز)

وكان الجيش الإسرائيلي أصدر بعد وقت قصير من إطلاق الصواريخ، خريطة جديدة، طلب فيها من سكان مناطق: أبو إسكندر وجباليا النزلة والبلد، في شمال القطاع، إخلاءها فوراً، بسبب إطلاق الصواريخ منها، وسبق ذلك بيوم واحد، إطلاق قذائف هاون من بعض مناطق جنوب مدينة غزة تجاه محور نتساريم، ما دفع إسرائيل مرةً أخرى لإصدار خريطة جديدة لإخلاء حيي الرمال والصبرة، وهما يضمان أعداداً كبيرة من النازحين من سكان مخيم جباليا، الذي يشهد عملية عسكرية منذ ما يزيد على 70 يوماً.

مرارة النزوح

وقال غزيون فقدوا منازلهم ونزحوا من مكان لمكان طيلة وقت الحرب، إنهم ما عاد لديهم مكان يذهبون إليه، وإن على مطلقي الصواريخ تجنب وضعهم تحت النار والتهجير مرة أخرى.

واضطر معين أبو يونس، من سكان جباليا النزلة، للنزوح مع عائلته المكونة من 9 أفراد، ليلة السبت، في أجواء باردة جداً، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدا حاسس فينا، وبمعاناتنا، يعني ضرب الصواريخ ما بفيد غير أنه يسمح للاحتلال أن يقتلنا ويهجرنا. مش فاهم شو المطلوب».

صواريخ أطلقتها «حماس» تجاه إسرائيل (أرشيفية - رويترز)

ويروي أبو يونس كيف أنه قضى ليلة باردة يبحث فيها عن خيمة تؤوي أطفاله، من أجل «استعراض الصواريخ». وقال منفعلاً: «بكفي ضرب صواريخ، وبكفينا هموم. احنا تعبنا من كل إشي، بكفينا ذل ومهانة».

كما انفعلت ميار الحميدي، من سكان منطقة أبو إسكندر في حي الشيخ رضوان، والتي طُلب إخلاؤها، قائلة: «كل كام يوم بطلبوا منا ننزح، بسبب صاروخ أو قذيفة هاون، ما بتعمل إشي ولا بتقتل يهودي واحد، يا اهي احنا ما بدنا غير انو نعيش». وأضافت: «احنا مع المقاومة، بس مع المقاومة الرشيدة اللي بتعمل وفق مصالح أهلها مش مصالحها اللي بتشوف نفسها إنها فوق الناس، وليس معهم».

جدل «فيسبوكي»

هذا الغضب كان يمكن رصده بسهولة على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، التي شهدت موجة من المنشورات والتعليقات التي تعبر عن رفضها لإطلاق الصواريخ في ظل الظروف الصعبة للسكان، ومرارة النزوح التي لا تتوقف، بينما حاول البعض وهم قلة الدفاع عما تقوم به الفصائل.

ولأول مرة كان يمكن رصد كم كبير من التعليقات من غزيين غير قلقين من قول رأيهم.

وكتب الناشط عمر عبد ربه، الذي كان اتهم «حماس» بالتعرض له على خلفية كتابات على «فيسبوك»: «أنا نازح فلسطيني في وسط قطاع غزة حيث انطلقت منها الصواريخ العبثية الأخيرة تجاه إسرائيل، هي لم تسبب أي ضرر لها قطعاً، لكنني المتضرر الوحيد لاحتمال طلب إخلاء المنطقة الجغرافيّة، بوصفها منطقة قتال خطيرة، هذا ما يمكن جنيه من المقاومة المزعومة».

وكتب منشئ المحتوى والناشط مهند النهار، بعد أن نشر تعميم جيش الاحتلال بالخريطة الجديدة للنزوح: «تخيل في وسط هذا البرد والخوف الشديد لأهل غزة الذين تشردوا في العراء يأتيهم أمر بالإخلاء... والسبب... صواريخ عبثية تطلقها (حماس) من نفس مكان وجود هؤلاء المدنيين!». أضاف: «أعانكم الله... أعانكم الله على هذا البلاء وعلى هذه الحماقات والمراهقات!! لا أدري إلى متى سيظل مصير أهل غزة مرهوناً بيد هؤلاء!! لا عقل ولا فهم ولا رحمة!!».

وكتب الصحافي والناشط عزيز المصري: «كل من يطلق صواريخ من بين السكان وهو يعلم أنها ليست ذات فائدة اليوم... هو مشبوه وجاسوس... بالأمس تهجير المغازي والمصدر واليوم الجيش يطالب بإخلاء الصبرة وحي الرمال... وين تروح الناس في ظل احتلال كل شمال غزة... شو ضل أماكن في مدينة غزة يمكن النزوح إليها؟؟... لكن الهدف معروف إيصال إرسال رسالة أننا ما زلنا موجودين والثمن يدفعه الشعب، عادي... خسائر تكتيكية ع قولة مشعل».

وقال صلاح الدين مطر: «حسبي الله ونعم الوكيل في كل واحد بضرب صواريخ في هذا الوقت... يعني صواريخ بتسجل معاناة نزوح جديدة... الناس والله ما هي ناقصاكم يا تعون المقاومة ولا ناقصة صواريخكم العبثية».

وبطبيعة الحال، رد ناشطون بتمجيد مطلقي الصواريخ. وكتب كرم إبراهيم: «المجد للمقاومة الفلسطينية»، وكتبت إلهام شريف: «المقاومة وحدها من تحرر الأرض».

جدل ديني

ولأول مرة ينتقل هذا النوع من الجدل إلى رجال الدين؛ فقد نشر الداعية سلمان الداية، أستاذ الفقه وأصوله، وعميد كلية الشريعة السابق بالجامعة الإسلامية التابعة لحركة «حماس»، وأحد الشخصيات الدينية التي كانت تأخذ الحركة بمواقفه وفتاويه في العديد من القضايا، فتوى حول حكم ضرب قذائف صاروخية وغيرها من أماكن وجود الناس وأماكن نزوحهم، مُحرِّماً ذلك.

وكتب الداية: «إن مآلات هذا الفعل وتداعياته تتنافي مع مقاصد الجهاد، فما شرع الجهاد إلا لحفظ مصالح من رميت القذيفة من بين بيوتهم، فمن أس مقاصد الجهاد: ألا تفتنهم في دينهم بردة في السلوك، أو في المعتقد، أو بهلاك في الأنفس، أو دمار في البيوت المتصدعة من آثار ما ألقي على القطاع من حمم وقنابل وصواريخ».

أضاف: «أيهما أخف عند العقلاء: وجود المحتل الدائم في قطاعنا مع سكون وانشغال عنا بقدر ما، أم رجمه بصاروخ يصرفه عن سكونه ليجعله مشغولاً بنا، ممعناً في تدميرنا ليله ونهاره، مع عجزكم عن دفعه على كل حال؛ للفارق المذهل في العدد والعتاد والإمداد؟».

وفوراً دفعت هذه الفتوى عناصر من «حماس» لمهاجمة الداية، على صفحته قبل أن يقوم بإغلاق التعليقات، والتي كان بينها انتقادات له لأنه تأخر في الفتوى، كما كال له غاضبون شتى أنواع الاتهامات.

وكتب وائل المبيض، من سكان حي الشجاعية: «بعد ما اتدمرت غزة وصارت سكن وتراب، طالع الشيخ يحكي لا يجوز ضرب الصواريخ من بين البيوت والخيام، صحت النومة يا شيخ، كمان شوي رح توقف الحرب يا شيخ، ليش مستعجل بهالفتوى!!».

فيما كتبت أم محمد طارق: «أن تأتي متأخراً خير من ألا تصل أبداً»، بينما كتب الناشط عرابي منصور: «لا يفتي القاعد ولا المجاهد للنازح». ورد الداعية أنس المصري على الداية، مذكراً بفتوى سابقة له، ومشيراً إلى أن الداية كان جزءاً من مجلس فقهي يصدر الفتاوي وفق خدمة مشاريع «حماس».

بينما نشر رجال دين أطلقوا على أنفسهم اسم «المجلس الفقهي الإسلامي»، بياناً دعوياً اتهموا فيه الداية بأنه منذ سنوات طويلة «لا يرفع راية المقاومة ويدعم الجهاد، كما أنه يرى المقاومة أعمالاً مندفعة، ضررها أكبر من نفعها، وهو ما يجعل أي نقد منه لسلوك، ليس نقداً لسلوك جزئي، بل لمنهج الجهاد برمته ومنهج سالكيه». وفق بيانهم الموقف غير المعلن لـ«حماس».

والهجوم من قبل عناصر ومؤيدي «حماس» على الداية جاء على الرغم من أن مصادر ميدانية أكدت لـ«الشرق الأوسط»، أن حركة «حماس» طلبت في الأسبوعين الأخيرين من المجموعات العسكرية التابعة لها، وكذلك مجموعات تتبع لفصائل أخرى، بعدم إطلاق أي قذائف صاروخية أو قذائف هاون تجاه النقاط العسكرية المركزية الإسرائيلية. وقالت المصادر إن موقف الحركة جاء «منعاً لمنح الاحتلال أي مبرر لإخلاء للدخول لمناطق جديدة أو قصفها جواً وإجبار السكان على موجات نزوح جديدة».


مقالات ذات صلة

«هدنة غزة»: مساعٍ للوسطاء لإنجاز اتفاق في ظل «ضغوط وعراقيل»

شؤون إقليمية فلسطينيون يتفقّدون مدرسة تؤوي النازحين بعد أن تعرضت لضربة إسرائيلية في النصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

«هدنة غزة»: مساعٍ للوسطاء لإنجاز اتفاق في ظل «ضغوط وعراقيل»

مساعٍ تتوالى للوسطاء بشأن إبرام هدنة في قطاع غزة، كان أحدثها في القاهرة، بالتزامن مع ارتكاب إسرائيل مجزرة جديدة بالقطاع.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي إسرائيليون يتظاهرون للمطالبة بالإفراج عن الرهائن المحتجزين في قطاع غزة (رويترز)

«حماس»: الجيش الإسرائيلي «تعمد» قصف أماكن بها أسرى «لقتلهم»

قال أبو عبيدة، الناطق باسم «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، السبت، إن الجيش الإسرائيلي «تعمّد» تكرار القصف على أماكن بها أسرى بهدف قتلهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
العالم عناصر من «كتائب حزب الله» العراقية خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (أرشيفية - الشرق الأوسط)

اتهام لرجل عرض علم «حزب الله» خلال مظاهرة مؤيدة لفلسطين

وجهت الشرطة الفيدرالية الأسترالية اتهاماً لرجل يبلغ من العمر 36 عاماً بعرض رمز منظمة مصنفة «إرهابية» علناً.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
المشرق العربي فلسطينيون يتفقدون مدرسة «الماجدة وسيلة» في منطقة غرب غزة بعد استهدافها بغارة إسرائيلية (أ.ف.ب)

مقتل 19 فلسطينياً بينهم صحافي في قصف جوي إسرائيلي في قطاع غزة

أفاد الدفاع المدني في قطاع غزة بأن تسعة عشر فلسطينياً قتلوا، بينهم صحافي ورئيس بلدية، في غارات شنها سلاح الجو الإسرائيلي في القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
خاص طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

خاص أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

«الشرق الأوسط» ترصد واقع الأهالي بقطاع غزة المنكوب، وتتحدث مع النازحين والمسؤولين الأمميين والمتطوعين، وتحصي الخسائر الاقتصادية والبشرية بعد 14 شهراً من الحرب.

لمياء نبيل (القاهرة)

مقاربة أردنية جديدة في التعامل مع «سوريا الجديدة»

جانب من لقاء العقبة السبت (رويترز)
جانب من لقاء العقبة السبت (رويترز)
TT

مقاربة أردنية جديدة في التعامل مع «سوريا الجديدة»

جانب من لقاء العقبة السبت (رويترز)
جانب من لقاء العقبة السبت (رويترز)

تحتفظ عمّان بمساحات قلق من عودة الفوضى إلى سوريا «في أي لحظة»، وعودة أسباب التوتر الأمني والعسكري على جبهتها الشمالية. ومع ذلك يمتلك الأردن أسبابه في البحث عن فرص لتسوية سياسية شاملة تُعيد سوريا الجديدة إلى عمق عربي بعيد عن تأثير دول إقليمية في قرار دمشق.

بواعث القلق الأردني من احتمالات عودة الفوضى إلى سوريا أكثر ترجيحاً من نجاح «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) في تثبيت شروط الأمن على كامل الأراضي السورية، وإعادة بناء دولة قابلة للحياة بعيداً عن الفوضى والنزاع على السلطة، حسب ما قالت مصادر دبلوماسية مطلعة تحدثت إلى «الشرق الأوسط».

وقالت هذه المصادر إن المنطقة الجنوبية من سوريا على الحدود الأردنية توجد فيها فصائل مسلحة ليست على «وفاق» مع «هيئة تحرير الشام»، وإن فرص اشتعال الفوضى والمواجهة بالسلاح ما زالت قائمة؛ الأمر الذي يعني بالنسبة إلى الأردن التحضّر لجميع السيناريوهات المحتملة. وهذا قد يُعيد أسباب القلق الأمني والعسكري من عمليات تسلل مقاتلين، إلى جانب التحضر للتعامل مع احتمالات موجة جديدة من تدفق اللاجئين على الحدود؛ مما يُعيد الذاكرة إلى صور عامي 2012 و2013.

ولم ينفِ مصدر مطلع تحدّث لـ«الشرق الأوسط» وجود «قنوات اتصال مع قيادة سوريا الجديدة بعد إعادة تأهيل رئيس (جبهة تحرير الشام) بنسخته الجديدة (أحمد الشرع) رئيساً انتقالياً لمرحلة انتقالية تنتهي بمصالحات سورية تمثّل جميع الأطراف في الحكم الجديد».

وتابع المصدر قائلاً إن قنوات الاتصال تعاملت من منطلق «حسن النيات»، غير أنها تحتاج إلى اختبار صدقية خطاب الجولاني - الشرع، وضمانات تحييد الإسلام السياسي في معادلة الحكم السوري لصالح دولة تقبل الجميع. وفي هذا الإطار، تقول مصادر «الشرق الأوسط» إن «معلومات متوافرة حملت انطباعات إيجابية بتجنّب الشرع التبعية لأي طرف خارج معادلة العمق العربي». لكن تبقى هذه المسألة بحاجة إلى تعريف وسياق منضبطَيْن بعيداً عن تفاوت وجهات النظر بشأن سوريا الجديدة في ظل حكم جديد ما زال له إرث في التشدد الديني، وقواعده تنتمي إلى تنظيمات متطرفة، واحتمالات انعكاسه على شكل حكم الإسلام السياسي في بلد بحجم سوريا بتنوعها الثقافي والعرقي والمذهبي.

وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي يتحدّث للصحافيين في ختام لقاء العقبة السبت (رويترز)

في السياق، يبدو أن تصريحات الجولاني سابقاً أو الشرع بحلته الجديدة، دفعت عمّان إلى النظر بـ«إيجابية حذرة» إلى خطة قائد الانقلاب السهل على نظام «البعث» السوري، خصوصاً أن الشكل الجديد للحكم في دمشق أخذ بعين الاعتبار أن «الإصلاحات الداخلية تحتاج إلى ورشة عمل بروح توافق وطني وبلغة لا تُقصي أحداً»، وأن سوريا الجديدة تحتاج إلى إعادة بناء مؤسسي مدني وعسكري بدعم دولي واطمئنان دول الجوار.

من أجل ذلك، استجابت عمّان إلى طلب إدارة الجولاني المساعدة في فتح المخابئ السرية لسجون النظام السابق، وجهّزت فرقاً من الدفاع المدني الأردني. وبالفعل كانت الفرق جاهزة لدخول سوريا قبل إعلان عدم وجود سجون سرية تحت الأرض في «صيدنايا»، حسب مصادر أردنية تحدّثت لـ«الشرق الأوسط».

وقد سبق ذلك سرعة استجابة الأردن للأوضاع الإنسانية في سوريا بعد هروب بشار الأسد المفاجئ، وكانت عمّان أول من أرسل قوافل مساعدات إلى سوريا محمّلة بأكثر من 250 طناً من المساعدات الطبية والغذائية الأساسية.

ماذا يريد الجولاني؟

ويتبلور في دمشق حالياً حكم جديد يبرز فيه دور الجولاني - الشرع الذي تمكّن من بسط شخصيته على ملامح الثورة التي كشفت هشاشة النظام السابق، وضعف جيشه دون دعم حلفائه الروس والإيرانيين. وتقول مصادر عربية إن المطلوب من الجولاني الآن هو تمكين السوريين من استعادة الثقة مع عمقهم العربي، وتحشيد دعم دولي من أجل برنامج إعادة إعمار البنى التحتية المدمرة، واستفادة الدولة السورية من مواردها بعيداً عن الفساد وسطو الحلفاء حتى على قرار دمشق الاقتصادي.

وليحقق ذلك فإن على الجولاني -وحسب حديث مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»- تسوية ثلاث قضايا ستمكّنه من تنفيذ خطته ضمن المرحلة الانتقالية التي حدّدها بسقف زمني لا يتجاوز شهر مارس (آذار) المقبل، وهي: شطبه من قوائم الإرهاب الدولي، ودعم حكمه الجديد من خلال رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وثالثاً عبر دعم خطته في إعادة إعمار سوريا ضمن مسارات سياسية ضامنة وآمنة.

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قبل استقلاله طائرته في العقبة السبت (رويترز)

في المقابل، قد تكون الاجتماعات التي بدأت وانتهت، السبت، في مدينة العقبة الجنوبية بحضور وزراء خارجية لجنة الاتصال العربية الوزارية بشأن سوريا، والمكونة من الأردن والسعودية والعراق ولبنان ومصر، وجامعة الدول العربية، وبحضور وزيري خارجية الإمارات والبحرين، بصفتها الرئيس الحالي للقمة العربية، ودولة قطر؛ مدخلاً لإعادة طرح اللجنة الوزارية مبادرة مايو (أيار) من عام 2023 التي انطلقت من الرياض «خطوة مقابل خطوة» والتي طُرحت على نظام بشار الأسد سابقاً وظل يتهرّب من الالتزام بها.

لكن لضمان مرور التصوّر الأردني من دون معوقات عربية أو إقليمية وبرضا أميركي فإن اجتماعات العقبة حرصت على تأمين لقاءات ومباحثات ثنائية منفصلة مع وزراء خارجية تركيا والولايات المتحدة والممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المبعوث الأممي حول سوريا. والمطلوب أردنياً وضع خريطة طريق؛ للتعامل مع سوريا الجديدة ضمن المصالح المشتركة التي تربط الجميع مرحلياً.

ماذا يريد الأردن؟

من وجهة نظر أردنية كان يمكن للنظام السوري السابق أن يُعيد تقديم نفسه أمام المجتمع الدولي لو استجاب لمبادرة «خطوة مقابل خطوة» التي التزمت الولايات المتحدة الحياد تجاهها، وأن التسوية السياسية الشاملة في سوريا هي الضمانة الوحيدة لاستقرار النظام واستمرارية عمل مؤسساته ووحدة أراضيه. لكن بشار أضاع الفرصة وتمسّك بمواقف حليفه الإيراني وذراعه «حزب الله» في سوريا، ولم يدرك أن الحليف (إيران) أصابه الضعف وذراعه العسكرية (حزب الله) أُصيبت بنكسات قوية، كما أنه رفض نصيحة حليفه الروسي إعلان بدء التفاوض على تسوية سياسية تسمح لبشار الأسد بخروج آمن يحفظ ماء الوجه بدل الهروب المفاجئ بحماية موسكو.

والحال بأن عقل القرار السياسي في الأردن يسعى لعدم استبدال أي نفوذ إقليمي آخر -المقصود تركيا- بالنفوذ الإيراني، وأن متطلبات نجاح ذلك هو أن تعود سوريا إلى عمقها العربي على أساس احترام خيارات الشعب نفسه، ونضج مخرجات التسوية السياسية للمرحلة الانتقالية في سوريا، بضمان تمثيل الجميع.

العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني الذي كان في مدينة العقبة منذ الخميس الماضي، تابع كواليس التحضيرات لاجتماعات العقبة، ومن الطبيعي أن لقاءات ومباحثات وجلسات حوار جرت لصياغة تفاهمات ضامنة للتعامل مع مخرجات اجتماع العقبة وتطبيقها على الأرض.

المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون في اجتماع العقبة السبت (أ.ب)

بالعودة إلى المخاوف الأردنية من نفوذ إقليمي جديد يسيطر على سوريا بعد النفوذ الإيراني، فقد ثبت أمام حقائق ومعلومات خاصة توصلت لها مراكز القرار الأردني بأن الجولاني ورغم تلقيه دعماً تركياً، لكنه لم يستسلم لطلبات تركية بشأن تقدمه نحو دمشق ليلة الثامن من الشهر الحالي، وأنه حافظ على مسافات من استقلالية قراره العسكري بعيداً عن تكرار أخطاء النظام السابق.

وإن كان من تساؤلات عن الاستسلام السهل للجيش السوري وهروب النظام السابق، فإن معلومات متداولة وأخرى لم يتم الكشف عنها، أفادت بأن الروح المعنوية للجيش السوري كانت جاهزة للهزيمة والانسحاب، وأن الروح القتالية لم تعد متوافرة لجيش قراره لم يعد سورياً.

ويسعى الأردن إلى ضمانات بتصفية خلايا تنظيم «داعش» المختبئ في جيوب من البادية السورية، علماً بأن عودة الشريان الحيوي للاقتصاد الأردني تحتاج إلى ضبط أمني على طريق بمسافة 90 كلم يفصل بين عمّان ودمشق. والأهم مما سبق هو وقف نزيف المخدرات القادمة من سوريا.