لم يكن من المتوقع أن تكون آثار غزة أفضل حظاً من سكانها بعد عام وأكثر من الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة؛ غير أن مستوى التدمير و«تعمد الاستهداف» يدفعان خبراء للاعتقاد بأن حرباً أخرى غير منظورة تستهدف «دفن الذاكرة» تحت الصواريخ والقذائف.
ووفق آخر حصر متاح لوزارة السياحة والآثار التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، نشرته عام 2019، فإن هناك 37 موقعاً أثرياً موثقاً، موزعة على امتداد غزة، وتنتمي لحقب تاريخية مختلفة وأنماط معمارية.
ويُقدّر خبراء أثريون، تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، أن «الحرب المدمرة في غزة دمرت أكثر من 70 في المائة من الآثار والمعالم التي شُيدت في حقب زمنية وتاريخية مختلفة، وقد تعرضت إما لتدمير أو أضرار بالغة وجزئية».
يقول الخبير بالآثار الدكتور أحمد الأسطل إن الحرب استهدفت أيضاً معالم القطاع التي يصل تاريخ بعضها إلى 3500 قبل الميلاد، و2000 بعد الميلاد، ومن أهمها المسجد العمري الكبير في مدينة غزة، الذي تضرر بشكل بالغ، إلى جانب كنيسة القديس برفيريوس، التي يُعتقد أنها ثالث أقدم كنيسة في العالم، وأحد أهم الكنائس في الشرق الأوسط.
وأضاف الأسطل، الذي يدير «مركز إيوان للتراث الثقافي» التابع لكلية الهندسة بالجامعة الإسلامية في غزة، إن «غالبية المعالم والآثار والمتاحف الأخرى في غزة تعرضت لقصف إسرائيلي يستهدف دفن ذاكرة أبناء القطاع تحت الصواريخ والقذائف».
قبل 3 أشهر فقط من الحرب، كشفت وزارة السياحة والآثار أنها عثرت على 5 قبور جديدة في الجهة الشمالية من «المقبرة الرومانية» التي تقع شمال القطاع، تحديداً في جباليا، وبلغ إجمالي المقابر المكتشفة حينها (يوليو/ تموز 2023) 130 قبراً أثرياً رومانياً.
راهناً باتت جباليا إلى جانب بيت لاهيا وبيت حانون المجاورتين لها شمال غزة موقعاً لعمليات عسكرية مكثفة ضمن ما يُعرف بـ«خطة الجنرالات» التي تستهدف إقامة حزام إسرائيلي لعزل شمال القطاع.
بالعودة إلى الخبير الأثري الفلسطيني، أحمد الأسطل، فإنه يعتقد أن هناك ما وصفه بـ«استهداف شامل، طال إلى جانب الأماكن الدينية، المتاحف، والمقابر والمواقع الأثرية».
قائمة اليونسكو
خلال فترة ما قبل الحرب، استطاعت الكثير من المتاحف مثل: قصر الباشا، ورفح، جلب الكثير من الزوار، كما تم اكتشاف موقع دير القديس هيلاريون - تل أم عامر، في مخيم النصيرات وسط القطاع، ويعود تاريخه إلى 17 قرناً.
وفي يوليو الماضي، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، دير القديس هيلاريون - تل أم عامر على كل من قائمة التراث العالمي، وقائمة التراث العالمي المعرض للخطر، إقراراً بـ«القيمة التي يكتنزها هذا الموقع والحاجة إلى حمايته».
و«دير القديس هيلاريون» أحد أقدم المواقع في الشرق الأوسط، وأسسه القديس هيلاريون، واستقبل أول مجتمع رهباني في الأرض المقدسة. ويقع الدير على تقاطع طرق رئيسية للتجارة والتبادل بين آسيا وأفريقيا، وكان مركزاً للتبادل الديني والثقافي والاقتصادي، مقدماً بذلك مثالاً على الأديرة الصحراوية التي انتشرت في العصر البيزنطي.
وقد استندت لجنة التراث العالمي، بالنظر إلى التهديدات المحدقة بموقع التراث من جراء النزاع الدائر في قطاع غزة، إلى إجراءات إدراج المواقع في حالات الطوارئ المنصوص عليها في اتفاقية التراث العالمي.
مواقع عسكرية
وتظهر دراسة حديثة أجرتها مجموعة «التراث من أجل السلام» أن الهجوم الإسرائيلي على غزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 دمر أكثر من 100 موقع أثري وتاريخي. بينما يفيد المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة (التابع لحركة «حماس»)، بأن 206 من المواقع الأثرية والتراثية في القطاع دُمرت أو تضررت إما بشكل بالغ أو جزئي بفعل العدوان الإسرائيلي.
ويفيد خبراء «الشرق الأوسط» بأنه «لا يمكن حسم حجم الضرر بسبب أن بعض هذه المتاحف والمواقع تقع في مناطق تعدُّ عسكرية إسرائيلية يمنع الاقتراب منها، مثل تل أم عامر القريب من موقع تمركز تلك القوات في محور نتساريم وسط القطاع، وكذلك المقبرة الرومانية في شمال القطاع والقريبة من تمركز قوات أخرى عند الشريط الحدودي لتلك المناطق، التي يمنع على السكان الوصول إليها».
وتم استهداف جميع المواقع تقريباً على الرغم من أن بعضها مدرج على قائمة التراث العالمي.
أقدم مساجد غزة
يعد المسجد العمري أحد أكثر المواقع الأثرية تعرضاً لأضرار نتيجة القصف الإسرائيلي؛ فهو من أقدم المساجد بغزة، وحوله الصليبيون في سنة 1149م إلى كاتدرائية مكرسة ليوحنا المعمدان، لكن الأيوبيين دمروا معظمها عام 1187م، ثم أعاد المماليك بناء المسجد في وقت مبكر من القرن الثالث عشر الميلادي، قبل أن يدمره المغول عام 1260م، لكن سرعان ما استعاده المسلمون، ودُمر مرة أخرى بعد وقوع زلزال ضرب المنطقة في نهاية القرن الثالث عشر، وفي القرن السادس عشر أعاد العثمانيون بناءه، لكنه تعرض لأضرار بعد قصف بريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى وتم ترميمه في 1925 من قبل المجلس الإسلامي الأعلى آنذاك.
حمام السمرة
ومن بين المعالم الأثرية في قطاع غزة «حمام السمرة»، الذي يبلغ عمره 700 عام، وهو واحد من 13 حماماً أثرياً قديماً في فلسطين.
ويقع حمام السمرة في قلب مدينة غزة التاريخية قرب حي الزيتون، ويعد ثاني أقدم المعالم بعد المسجد العمري، وهو الوحيد المتبقي من الحمامات التاريخية في قطاع غزة، أنشئ في العهد العثماني على مساحة 500 متر مربع، ثم أعيد ترميمه وتجديده في العصر المملوكي، على عهد الملك سنجر بن عبد الله المؤيدي، وسُمي بهذا الاسم نسبة للسامريين الذين عملوا فيه لفترة من الزمن.
ويعد حمام السمرة مزاراً طبياً وسياحياً، إذ تتميز أرضيته بدفئها على مدار اليوم واستخدم في بنائه الحجر الرخامي لمقاومته رطوبة الماء، ويتميز الحمام بروعة التخطيط والبناء العمراني الذي يتجسد بتدرج درجات الحرارة عند الانتقال من غرفة لأخرى، إذ تبدأ بالغرفة الباردة فالدافئة ثم الساخن.
ويفيد سمير البيك (53 عاماً)، الذي يقيم بجوار منطقة حمام السمرة، أن موقعه تعرض لأضرار بالغة لم يعد بعدها صالحاً.
ويقول البيك لـ«الشرق الأوسط»: «كان الحمام جزءاً من حياتنا هنا وحياة الكثيرين، الذي قصدوه كموقع للتطبيب الشعبي الذي يعتمد على استخدام المياه الباردة والدافئة».
ويخلص الخبير الفلسطيني في الآثار إلى أن «غالبية تلك المناطق تعرضت إما للتدمير الكامل أو الضرر الجزئي؛ وتم قصفها لأنها تمثل الهوية التاريخية وجذور الشعب الفلسطيني وتنوع الحضارات والحقب التاريخية في غزة».