تعدّدت التفسيرات للدوافع السياسية التي أملت على «حزب الله» إعطاء الأولوية لوقف النار في جنوب لبنان، من دون أن يشترط انسحابه على الجبهة الغزاوية، مع أن ذلك ليس بجديد، ويأتي ترجمةً للتعهد الذي قطعه أمينه العام حسن نصر الله - قبل ساعات على اغتياله - لرئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، وكان وراء تشجيعه للتوجه إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العادية، بعد أن كان عدَل عن السفر، وكلّف وزير الخارجية عبد الله بوحبيب بتمثيل لبنان والتحدث باسمه.
ولم تكن موافقة «حزب الله» على وقف النار بمعزل عن حليفه، رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وإنما جاءت استكمالاً لرغبته التي شجّعت ميقاتي على التوجه إلى نيويورك استجابةً لنصيحة كان قد تلقاها من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
فصل الجبهتين بين الحزب وعراقجي
أما لماذا تأخّر الحزب في موافقته على وقف النار وإظهارها للعلن، والتي جاءت في أعقاب الزيارة الخاطفة لوزير خارجية إيران عباس عراقجي إلى بيروت، والتي تصدّرتها دعوته للربط بين جبهتَي غزة والجنوب، وما ترتب عليها من اعتراضات لم تقتصر على ميقاتي والمعارضة، وإنما أحدثت ردود فعل متفاوتة داخل الحاضنة الشعبية للحزب، بينما تتمادى إسرائيل في تفريغ الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت وبلدات بقاعية وجبلية من سكانها، ولا تجد من يردعها، وتُواصل اجتياحها الجوي؛ لإعلام مَن يعنيهم الأمر بأنه لا مناطق آمنة في لبنان؟
ففي الإجابة عن السؤال لا بد من الإشارة، كما تقول مصادر سياسية لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن إسرائيل تراهن على تغيير الوضع الميداني في الجنوب بإمعانها في التدمير الممنهج لبلداته وقُراه، وتحويله أرضاً محروقة، ما يُتيح لها فرض واقع جديد يمَكّنها من خلق مناخ مُواتٍ لتطبيق القرار 1701، وإنما على طريقتها، بعد أن تكون قد أحكمت سيطرتها في الميدان، وصولاً إلى تخوم شمال الليطاني.
وتلفت المصادر إلى أن الحزب، وإن كان ليس في وارده التخلّي عن الربط بين الجبهتين؛ لئلا يُتَّهم بمخالفة القرار الذي اتخذه نصر الله بإسناده لغزة، فإن قيادته الانتقالية ما زالت تلتزم بما أوصى به بينما هي في طور إعادة ترتيب أوضاعها للخروج من الصدمة التي أصابتها باغتياله، وأحدثت حالة من الإرباك والفراغ، لعلها تتمكن من استعادة ما أمكن من الدور الذي شغله في المعادلة الداخلية والإقليم.
تفهّم المزاج الشعبي
وترى المصادر أن القيادة الانتقالية في حاجة إلى مزيد من الوقت لملء الفراغ الذي خلّفه اغتيال نصر الله، وهي تحاول أن تستعيد ما أمكن من عافيتها السياسية في مواجهتها للحرب المشتعلة مع إسرائيل؛ لمنعها من التفرد في الميدان.
وتؤكد المصادر نفسها أن إعطاء الحزب الأولوية لوقف النار ينمّ عن رغبة قيادته الانتقالية في التعاطي مع التطورات - سواءً تلك المتعلقة بالمواجهة جنوباً، أو الخاصة بالأمور ذات الشأن السياسي - بواقعية ومسؤولية ومرونة، على خلفية تفهّمها للمزاج الشعبي ومراعاته، والذي ينشد هدنة مديدة تسمح له بالتقاط الأنفاس؛ ليُعيد ترتيب أوضاعه في المناطق التي اضطر مئات الألوف للنزوح من بلداتهم إليها، وهم في حاجة إلى توفير احتياجاتهم، وهذا ما يُلقي بالقسم الأكبر من المسؤولية على الحزب؛ كون السواد الأعظم من حاضنته الشعبية في عداد النازحين.
وتضيف أنه لا مصلحة للحزب بتعريض علاقته بالنازحين على وجه العموم للاهتزاز، وهذا ما يُملي عليه منح هؤلاء الفرصة للتوصل لوقف النار لإبعاد المسؤولية عنه أمام المجتمع الدولي واللبنانيين، ورميها على إسرائيل التي ترفض الاستجابة للنداءات الأممية، وتمضي في عدوانها لـ«تحرير المنطقة» من النفوذ الإيراني.
صعوبة تسويق الربط بين الجبهتين
وتؤكد المصادر أنه لا مصلحة للحزب بالربط بين الجبهتين، وخصوصاً أنه سيجد صعوبة في تسويق الربط لدى حاضنته الشعبية قبل الآخرين ممن لا يرون مبرّراً له، بعد أن أصبح وحيداً في إسناده لغزة. وتقول إنه يجب على الحزب أن يستشعر حاجة النازحين لوقف النار؛ ليرمي الكرة مع ملعب إسرائيل التي تستعصي على المجتمع الدولي، وتبتزّ بايدن مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، لعله يكسب تأييد اللوبي الصهيوني لمرشحته كامالا هاريس ضد منافسها الرئيس السابق دونالد ترمب، وهذا ما تسبّب بتأزّم علاقته بنظيره الفرنسي ماكرون؛ لانقلابه على النداء الأميركي - الفرنسي للتوصل إلى هدنة مدتها 3 أسابيع.
وتلفت المصادر إلى أن للحزب مصلحة «بتعليق» مطالبته، ولو مرحلياً، بعدم الفصل بين الجبهتين؛ تجاوباً مع رغبة النازحين بوقف النار، والتموضع تحت السقف السياسي الذي رسمه اللقاء الثلاثي الذي ضم رئيسَي البرلمان والحكومة والرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وحدّد آلية ثلاثية لعودة الهدوء إلى الجنوب، بوقف النار، ونشر الجيش، وتطبيق القرار 1701، على أن يجدّد تفويضه لبرّي، أسوةً بما فعله نصر الله، بمواصلة التفاوض لوضع هذه الآلية موضع التنفيذ، بعد أن قطع شوطاً في هذا الشأن مع الوسيط الأميركي آموس هوكستين الذي تلقى ضربة من «أهل بيته» بانحياز بايدن لإسرائيل على بياض، علماً بأن الثلاثية التي أرساها لقاء عين التينة تنسجم كلياً مع خريطة الطريق التي رسمها النداء الأميركي - الفرنسي للتوصل لوقف النار قبل أن يسحب بايدن توقيعه عليه.
فرصة للنازحين
وتؤكد المصادر نفسها أن نصر الله كان وافق على هذه الثلاثية التي حملها معه ميقاتي إلى نيويورك، وهي لم تأتِ على ذكر الربط بين الجبهتين، وهذا ما يعفي القيادة الانتقالية للحزب من الإحراج. وتسأل: ما الذي يَضِير الحزب في تبنّيه بلا شروط بيان ثلاثية عين التينة الذي جاء مطابقاً لمضامين الخطاب الذي ألقاه ميقاتي أمام الجمعية العامة في نيويورك، وكان توافَق عليه مع برّي ونصر الله قبل اغتياله؟ وأين هي مصلحته بعدم التفاته للمزاج الشعبي التوّاق لوقف النار، ما دام أن إسرائيل تتمرّد على إرادة المجتمع الدولي؟ وهذا ما يشكّل للحزب خشبة الخلاص بإعطاء فرصة للنازحين من خلال تغاضيه عن الربط، ولو مؤقتاً، وإن كان صعب المنال مع تبدّل الميدان في غزة.