الحرب تمزق أحلام طلاب الثانوية العامة في غزة

حرمان 39 ألف طالب... ونحو 800 أدوا الاختبارات بالعاصمة المصرية

طلاب فلسطينيون من قطاع غزة يؤدون امتحانات الثانوية العامة في إحدى مدارس العاصمة المصرية القاهرة (وفا)
طلاب فلسطينيون من قطاع غزة يؤدون امتحانات الثانوية العامة في إحدى مدارس العاصمة المصرية القاهرة (وفا)
TT

الحرب تمزق أحلام طلاب الثانوية العامة في غزة

طلاب فلسطينيون من قطاع غزة يؤدون امتحانات الثانوية العامة في إحدى مدارس العاصمة المصرية القاهرة (وفا)
طلاب فلسطينيون من قطاع غزة يؤدون امتحانات الثانوية العامة في إحدى مدارس العاصمة المصرية القاهرة (وفا)

عبر طلاب من قطاع غزة عن يأسهم مع مرور أيام امتحانات الثانوية العامة، السنة الدراسية المؤهلة للدخول للجامعات، في خضم الحرب التي لا يلوح في الأفق بادرة لوقف رحاها.

كريم المصري، كان من المفترض أن يبدأ امتحاناته النهائية مطلع هذا الأسبوع في غزة، وبدلاً من ذلك أمضى صباحه في ملء أكياس المياه لتجميدها وتحويلها إلى ثلج، ومن ثم بيعها لإعالة أسرته.

ويقول المصري (18 عاماً) الذي لم يتمكن من أداء امتحانات الثانوية العامة لصحيفة «نيويورك تايمز»: «كان ينبغي عليّ أن أدرس وأستعد لامتحاناتي النهائية. ولكن بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الحرب، أقضي أيامي في العمل لإعالة أسرتي حتى تتمكن من التكيف مع الحرب».

وبحسب وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا): «كان من المقرر أن يبدأ السبت نحو 89 ألفاً من طلبة فلسطين امتحان الثانوية العامة في دورته الأولى للعام الدراسي 2023/24، إلا أن نسبة من سيتقدمون لاجتياز الاختبارات تصل إلى نحو 56 في المائة فقط». وأضافت وزارة التعليم الفلسطينية أن الحرب في غزة «حرمت 39 ألف طالب وطالبة من التقدم لامتحانات التوجيهي (الثانوية العامة)».

ونقلت «وفا» عن وزارة التربية والتعليم الفلسطينية «ارتقاء 430 من طلبة الثانوية العامة شهداء في قطاع غزة، في حين استُشهد في الضفة الغربية 20 آخرون، خلال العام الدراسي الذي انطلق في شهر أغسطس (آب) المنصرم».

طلاب تحت الحصار

ويقول براء الفرا الطالب البالغ 18 عاماً والنازح من خان يونس في جنوب قطاع غزة: «كنت أنتظر الامتحانات بفارغ الصبر، لكن الحرب منعت ذلك ودمرت هذه الفرحة». وأضاف لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «في البداية كنا ننتظر على أمل انتهاء الحرب»، لكننا «لا نعرف إلى متى ستستمر أو كم سنة ستحرمنا من حياتنا التعليمية».

وأعرب الفرا عن رغبته بالخروج من المنطقة لتحقيق أحلامه. وقال: «أتمنى أن يتم فتح المعبر حتى أتمكن من السفر لإكمال دراستي وعدم تضييع سنوات عمري؛ لأنني ما زلت صغير السن وأريد تحقيق طموحاتي». لكن في الوقت الحالي، ليس أمام الفرا سوى مواجهة الحقائق القاسية للحياة تحت الحصار. وأضاف: «أتمنى لو أختبر الآن تعب السهر والدراسة لوقت متأخر وليس تعب الوقوف في طوابير للحصول على مياه حلوة ومالحة» في المنطقة التي تندر فيها المياه النظيفة، مثل العديد من الضروريات الأخرى.

تدمير المرافق التعليمية... أو ملاجئ للنازحين

ودمرت الحرب نظام التعليم في غزة، الذي كان يعاني بالفعل بعد عدة حروب وتصعيدات منذ عام 2008، مع إغلاق المدارس منذ بدء الحرب في أكتوبر (تشرين الأول)، بعد ما يزيد قليلاً عن شهر من بدء العام الدراسي.

ووفقاً لوزارة التعليم في قطاع غزة، أصبح 85 في المائة من المرافق التعليمية في القطاع خارج الخدمة. وقد تم تحويل الكثير من المدارس في غزة إلى ملاجئ للنازحين، في حين تعرض البعض الآخر لأضرار بسبب القصف.

آثار الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية في إحدى مدارس غزة (وفا)

وقدرت «مجموعة التعليم» المدعومة من الأمم المتحدة في تقرير لها هذا الشهر، أن أكثر من 75 في المائة من مدارس غزة تحتاج إلى إعادة بناء كاملة أو إعادة تأهيل كبيرة لفتحها مجدداً، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

«كتب وليس قنابل»

وفي هذا الصدد، قالت ليليان نهاد البالغة 18 عاماً والنازحة من مدينة غزة في شمال القطاع إلى خان يونس، إنها مع زملائها الطلاب «انتظرنا 12 عاماً لإجراء هذه الامتحانات والنجاح والشعور بالسعادة ودخول الجامعة (...) ولكننا حُرمنا من كل هذا بهذه الحرب اللعينة». وأضافت نهاد لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أنها كانت تتمنى دراسة اللغة الإنجليزية والحصول على الدكتوراه، «لكن كل ذلك تبخر».

وتعبيراً عن الغضب حيال هذا الوضع، نظّم عشرات الطلاب والمعلمين وقفة احتجاجية في حي الرمال بمدينة غزة السبت. وهتف المحتجون: «نطالب بحقنا في أداء امتحانات الثانوية العامة»، و«نريد كتباً وليس قنابل»، في حين تم وضع كراسة فارغة ترمز للطلاب الذين فقدوا حياتهم خلال الحرب.

وفشل الوساطات في وضع حد للحرب ترك شباب غزة في حالة من عدم اليقين بشأن مستقبلهم. وتقول سلاف موسى البالغة 18 عاماً من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة الذي تعرض لغارة جوية دامية السبت، إنها كانت تأمل في دراسة الطب. وأضافت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «الآن نأمل أن ننجو بحياتنا من هذه الحرب ولا نخسر أكثر مما فقدناه حتى الآن».

جامعات مدمرة

وتعرضت جميع جامعات غزة الـ12 لأضرار جسيمة أو دُمرت بسبب القتال، وفقاً للأمم المتحدة.

وقال المصري إنه كان يحلم بدراسة تكنولوجيا المعلومات في الجامعة الإسلامية بغزة أو الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، وكلتاهما دمرها القصف الإسرائيلي.

فلسطينيون يقودون دراجة نارية بالقرب من مبنى الجامعة الإسلامية المدمر في مدينة غزة في نوفمبر (أرشيفية - أ.ف.ب)

وبدلاً من أن يعلق آماله على العودة إلى المدرسة والتخرج، قال إن الحرب غيرت أولوياته، ويركز الآن على العمل لمواصلة دعم أسرته. أثناء بيع الثلج في مدينته دير البلح في وسط غزة، قال المصري إنه غالباً ما كان يمر أمام مدرسته، حيث «تحولت الفصول الدراسية إلى ملاجئ»، وعندما يلقي نظرة خاطفة على الداخل، «يمتلئ بالعذاب».

وفي سياق متصل، تقول إسلام النجار (18 عاماً)، والتي كان من المفترض أن تؤدي أول امتحان نهائي لها يوم السبت، إن مدرستها في دير البلح، التي فر إليها العديد من سكان غزة بسبب الهجوم الإسرائيلي على رفح، قد تحولت أيضاً إلى ملجأ.

وتابعت النجار لصحيفة «نيويورك تايمز»: «لا أستطيع أن أتخيل العودة لرؤية مدرستي، المكان الذي نتعلم فيه، وقد تحولت إلى مأوى مليء بالنازحين الذين يعيشون في ظروف بائسة». وقالت: «عندما نعود، لن نرى نفس الوجوه»، في إشارة إلى زميلتها في الصف ومدرسيها ومديرتها الذين قُتلوا خلال الحرب.

ولا تزال النجار متفائلة بإمكانية العودة إلى المدرسة والتخرج. وعلى الرغم من «العقبات الكثيرة التي تعترض كل ما تريد تحقيقه في غزة»، قالت إنها تحلم بالدراسة في الخارج، ووضعت نصب أعينها جامعة هارفارد أو جامعة أكسفورد لدراسة إدارة الأعمال.

وتتابع النجار، وهي الأكبر في عائلتها، والتي كانت تخطط لاحتفالات تخرجها قبل بدء الحرب: «كنت متحمسة للغاية للسنة الأخيرة من دراستي ولبدء فصل جديد. لكن بالطبع الحرب أوقفت كل شيء».

وتنهي النجار حديثها للصحيفة بسؤال بلا إجابة: «لماذا يتزامن ربيع حياتنا مع سقوط بلادنا؟ هل ذنبنا أننا تجرأنا على الحلم؟».

«الأونروا»: حرمان الطلاب من الامتحانات أمر مروع

ومن جهتها، قالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الأحد، إن «حرمان 39 ألف طالب بالثانوية العامة في قطاع غزة من الامتحانات، وأكثر من نصف مليون طفل من التعليم على مدار 8 أشهر، أمر مروع ومحزن».

فلسطينيون يتفقدون موقع غارة إسرائيلية على مدرسة تابعة لـ«الأونروا» لإيواء النازحين في مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة في 6 يونيو (أرشيفية - رويترز)

جاء ذلك في تصريح صحافي لمدير التخطيط بـ«الأونروا»، سام روز، بثته «الأونروا» على حسابها عبر منصة «إكس»، وأضاف روز أن «حرمان 39 ألف طالب بالثانوية العامة في قطاع غزة من الامتحانات يضيف طبقة أخرى إلى حزننا».

كما سلط الضوء على أن «أكثر من نصف مليون طفل بالقطاع محرومون من التعليم على مدار 8 أشهر». وتابع المسؤول الأممي: «من المروع أن هؤلاء الأطفال، علاوة على كل شيء آخر، محرومون من فرصة التعلم».

طلاب يمتحنون في مصر

سيكون بإمكان الطلاب في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل إجراء الامتحانات، وكذلك سكان غزة الذين تمكنوا من الفرار إلى مصر. لكن حتى بالنسبة لهؤلاء، فقد كان تأثير الحرب هداماً.

وبدأ عدد من طلاب الثانوية العامة الفلسطينيين السبت إجراء امتحاناتهم في العاصمة المصرية، وعلى جدار مدرسة تحمل اسم «تحيا مصر» في حي المقطم في وسط القاهرة، تم تعليق لافتة حملت شعار سفارة فلسطين لدى مصر وكُتب عليها: «امتحان الثانوية العامة الفلسطينية».

وقال الطالب الفلسطيني محمد أسامة الذي وفد إلى مصر من مدينة رفح الفلسطينية في مارس (آذار)، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» بعدما أنهى اختباره: «اليوم (السبت) أدينا امتحان التربية الإسلامية». وتابع: «(الحالة) النفسية متعبة ونحن لم نستعد بشكل جيد».

وقال المسؤول في وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية عاهد عباس لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «أدى الامتحان اليوم (السبت) 802 من الطلاب المسجلين وعددهم 1095 طالباً»، موضحاً: «نحن نقوم بعملية التجهيز التامة للامتحانات من إعداد لأرقام جلوس الطلاب إلى تسليمها إليهم».


مقالات ذات صلة

تنسيق مصري - أميركي لدفع جهود وقف إطلاق النار في غزة

شمال افريقيا وزير الخارجية المصري يلتقي مع نظيره الأميركي (الخارجية المصرية)

تنسيق مصري - أميركي لدفع جهود وقف إطلاق النار في غزة

تجري مصر والولايات المتحدة، مشاورات مستمرة من أجل دفع جهود إبرام هدنة مماثلة في قطاع غزة، بحسب إفادة وزارة الخارجية المصرية، الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل في قطاع غزة (رويترز)

سكان غزة يشعرون بالخوف بعد ظهور احتمال التوصل لاتفاق بين إسرائيل و«حزب الله»

يشعر الفلسطينيون في غزة بالخوف من أن تصب إسرائيل كامل قوتها العسكرية على القطاع، بعد ظهور احتمال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي أفراد من القوات المسلحة الأردنية يسقطون مساعدات جوية على غزة 9 أبريل 2024 (رويترز)

طائرات عسكرية أردنية تسقط مساعدات على شمال قطاع غزة

قال مصدر رسمي إن طائرات عسكرية أردنية أسقطت، الثلاثاء، مساعدات على شمال غزة لأول مرة في خمسة أشهر للمساعدة في تخفيف وطأة الوضع الإنساني المتردي في القطاع.

«الشرق الأوسط» (عمّان)
المشرق العربي صبي جريح يجلس في مستشفى شهداء الأقصى عقب تعرضه للإصابة في غارة جوية إسرائيلية في مخيم البريج وسط غزة (إ.ب.أ)

حرب غزة: أكثر من 7 آلاف مجزرة إسرائيلية... و1400 عائلة مُحيت من السجلات

أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة أن «قوات الاحتلال ارتكبت 7160 مجزرة بحق العائلات الفلسطينية في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر».

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي نازحون فلسطينيون يسيرون في شارع غرب مدينة غزة الاثنين (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة تدعو إلى وقف دائم لإطلاق النار في لبنان وإسرائيل وغزة

دعت الأمم المتحدة، اليوم (الثلاثاء)، من جديد إلى «وقف دائم لإطلاق النار» في لبنان وإسرائيل وغزة، في حين يتوقع إعلان هدنة بين إسرائيل و«حزب الله».

«الشرق الأوسط» (جنيف)

جمال مصطفى: عجزت عن تأمين الرشوة للقاضي فأبقوني محتجزاً 10 سنوات إضافية

TT

جمال مصطفى: عجزت عن تأمين الرشوة للقاضي فأبقوني محتجزاً 10 سنوات إضافية

جنود أميركيون يُسقطون تمثال صدام حسين في بغداد 7 أبريل 2003 (رويترز)
جنود أميركيون يُسقطون تمثال صدام حسين في بغداد 7 أبريل 2003 (رويترز)

كانت رحلة جمال مصطفى السلطان، صهر الرئيس صدام حسين وسكرتيره الثاني، شاقة. ذهب لإحضار العشائر للدفاع عن بغداد لكن حين عاد إليها كانت قد احتُلت. أمسى مطلوباً وظهرت صورته على ورق اللعب الذي وزعه الأميركيون حاملاً أرقام كبار المطلوبين. توجه سراً إلى الأراضي السورية لكن السلطات هناك رفضت استقباله وأعادته إلى الأراضي العراقية فاعتُقل.

اتُهم جمال خلال وجوده في المعتقل بقيادة المقاومة وتفجير سيارات مفخخة لكن المحكمة لم تستطع العثور على ما يبرر الحكم عليه. في 2011 حدثت مفاجأة غير عادية. أرسل إليه القاضي أن لا شيء يدينه وأنه جاهز للإفراج عنه لكن مقابل مبلغ محترم بالدولار. لم يكن يملك مثل هذا المبلغ فاقترح على القاضي أن يتولى أمر بيع قطعة أرض ورثها عن أجداده وأن يأخذ ثمنها. رفض القاضي وأُبقي جمال في المعتقل عشر سنوات إضافية ثم أُفرج عنه لعدم كفاية الأدلة.

بعد خروجه من المعتقل توجه جمال إلى أربيل. أبلغه صديق له أن الزعيم الكردي مسعود بارزاني يريد أن يراه فذهب إليه. استقبله بارزاني بـ«حفاوة وشهامة» وسأله عما يحتاج إليه، فطلب مساعدته في استخراج جواز سفر. استوقفتني لدى تفريغ التسجيل إشادته ببارزاني. اتصلت به وقلت له إن رئيس المراسم في القصر الدكتور نديم الياسين، قال لي إن صدام تحدث عن مسعود باحترام، وقال: «بارزاني خصم عنيد لكنه خصم شريف». رد جمال: «نعم إنه فارس. ودعني أكشف لك عن أمر. قبل شهور من الغزو بعث بارزاني برسالة إلى الرئيس يؤكد فيها أن بنادق الأكراد لن توجَّه أبداً إلى الجيش العراقي».

العراق منجم حكايات مؤلمة. حكايات موالين وحكايات معارضين. أسباب هذا الحوار صحافية. شعرت أن لدى جمال مصطفى قصة من حق قراء «الشرق الأوسط» أن يعرفوها. خرج عن صمته وتحدث وهنا نص الحلقة الأخيرة:

سألت جمال مصطفى أين كان حين بدأت الحرب وكيف اعتُقل وسأتركه يروي: «كنت آنذاك في بغداد، وكنت قد كُلفت من السيد الرئيس، الله يرحمه ويغفر له، بأن أرجع إلى عملي السابق وهو العشائر. أتذكر، وبطريقة مهذبة، فاتحني بهذا الموضوع، قال لي: كونك أنت كنت على العشائر سترجع إلى عملك. نحن عادةً الوزير نكلفه بوزارة وعنده عمل سابق ونطلب منه أحياناً أن يعود إلى عمله السابق إذا ظهرت حاجة إليه. إن كانت وزارة يرجع إلى الوزارة التي عمل فيها وإن كانت أدنى من ذلك أيضاً يرجع إلى العمل وينجز أعماله. فقلت له: سيدي أنا جندي وحاضر أينما توجهني. فقال لي: كونك عندك علاقات إيجابية مع شيوخ العشائر، تلتقيهم وتنقل إليهم تحياتي. كان له اهتمام كبير بالعشائر وشيوخ العشائر من خلال مناسبات كثيرة إضافةً إلى إجراء لقاءات شخصية معهم أحياناً. قال لي: تلتقيهم. وكانت هناك وثيقة منه كتبها بخط يده لكل شيخ، يوصيهم كيف يتعاملون وكيف يواجهون ويقاتلون المحتل. وقالك تعطيهم خرجية. الخرجية في العراق تعني الفلوس. العراقيون أهل كرم وجود، وعندما تأتي قطاعات العسكرية تكون مجاورة لهم. مؤكَّد أن شيخ العشيرة وأبناءها يساهمون في ضيافتهم. وهكذا نساعدهم ليساعدوا الجيش القريب منهم.

وفعلاً تم الاهتمام بهذا الجانب، واستمررت في هذا العمل. وكُلفت أيضاً بالذهاب إلى الأنبار لتحشيد العشائر وجلبهم إلى بغداد لحمايتها والدفاع عنها.

شغل جمال مصطفى السلطان منصب السكرتير الثاني للرئيس العراقي الراحل صدام حسين

هذا عشية الحرب. وفي أثناء الحرب التقيت أكثر من 4500 أو 5000 شيخ عشيرة في تلك الفترة. في مرحلة الحرب التقيتهم. جاءوا من كل المحافظات والتقيتهم في بغداد. وعندما ذهبت إلى الأنبار اجتمعت بهم على مدى يومين، لكن عندما عدت إلى بغداد وجدت كل شيء مختلفاً والوضع كله منهاراً.

وجدت بغداد وقد احتُلت. عند ذلك رحت أبحث عن جماعتنا لأنني لم أجد أحداً منهم. في 11 أبريل (نيسان) بعثت سائقي إلى منطقة وقلت له ربما تجد أحداً من جماعتنا هناك، وأنا كان لدي شخص قريب مني من أهل الناصرية في بغداد. وفعلاً ذهب الرجل ليبحث عن أحد من جماعتنا، وصدفة التقى أخي الفريق الركن كمال مصطفى الذي سأله: أين جمال؟ فقال له: موجود عند فلان صديقه. جاء إلى المكان الذي كنت فيه، وقال لي: نخرج من بغداد. قلت له: أنا لم أفكر أن أغادرها، فقال: طيب لنكن منطقيين، لو بقينا في بغداد ماذا سنقدم؟ هل نمتلك أسلحة؟ لا. هل لدينا رجال؟ لا. هل نمتلك أموالاً؟ لا. إذاً ربما نُعتقَل، الأفضل أن نغادر.

فعلاً غادرنا بغداد وذهبنا باتجاه الرمادي، وكانت علاقاتي واسعة مع شيوخ العشائر، وإخواننا من العشائر كانوا حقيقة ممتازين، وكانوا يرحبون ويهتمون رغم الظروف الصعبة، وبتنا ليلة لدى أحد الشيوخ واتفقنا على أن نغادر إلى سوريا.

غادرنا إلى سوريا، وهناك في سوريا تفرقنا. الفريق كمال ذهب في جهة، وأنا وخالد نجم (آخر مدير للمخابرات قبل الاحتلال بثلاثة أيام) أصبحنا في جهة. عندما وصلنا إلى سوريا اتصلتُ بأخ، وكان صديقاً لي، هو خميس الخنجر، هو كان في الأردن وقلت له: نحن في سوريا، وقال: سآتي إليك في سوريا لأرتِّب لك وضعك. انتظرته. اتصلت مرة أخرى فأقفل الهاتف إلى يومنا هذا. ثم قال السوريون: ترجعون من حيث أتيتم. فرجعنا. أمضينا في سوريا فترة قصيرة جداً لا تزيد على يومين.

عدت أنا وخالد نجم إلى بغداد، وذهبت إلى صديق وزميل، هو كان صديقي وزميلي وأستاذي في ذات الوقت، الدكتور حافظ الدليمي، وجلسنا عنده ورحَّب بنا وكان إنساناً يحمل مشاعر الأصالة والعروبة. أقول عنه صديقي وأستاذي وزميلي، إذ درست معه في المرحلة الأخيرة في الجامعة.

أقمنا لدى الدكتور حافظ وأعدَّ لنا غداء، يومها لم يكن كل شيء موجوداً، تغدينا بطاطا، وفي أثناء ذلك جاء ابن أخيه واسمه ثائر. وثائر الدليمي أيضاً كانت تربطنا به علاقة إيجابية، وقال: لماذا لا نسلِّم أنفسنا لجماعة أحمد الجلبي. قلنا له: غير ممكن، ولا نقبل مطلقاً. حاول فلم يجد لدينا استجابة فذهب. بعد ذلك بفترة قصيرة، جاء مسلحون ودخلوا علينا ملثمين، مجموعة كبيرة ودبابات، فتم اعتقالنا وأُخذنا إلى نادي الصيد ومنه إلى السجن. هذا يوم لا أنساه، وكان يوم 21/4/2003».

نبأ اعتقال صدام «أنهى آمال التحرير»

سألت السكرتير الثاني عن المعتقل والتحقيقات واعتقال صدام حسين فقال: «عندما وصلنا إلى المعتقل الأميركي كان التحقيق من قبل الأميركيين ومن جهات متعددة فيهم. لم تغب عن التحقيقات ممارسات القسوة والأذى النفسي والجسدي وكل ما يمكن أن يخطر في بالك. انصبت التحقيقات في البداية على موضوع أسلحة الدمار الشامل. هل يمتلك العراق أسلحة دمار شامل؟ وأين هي؟ أياً كان يلتقونه يسألونه هذا السؤال. وكذلك عن الطيار الأميركي (مايكل سكوت سبايكر الذي أُسقطت طائرته إبان حرب الخليج الثانية)، هل تعرف شيئاً عن الطيار الأميركي؟ طيار أميركي أُسقط في العراق وبعد فترة من الزمن خرج الناس يبحثون عنه، ولجنة أميركية أيضاً دخلت بالتعاون مع العراق للبحث عن هذا الطيار، وفعلاً وجدوا أجزاء من رفاته وأصبح معلوماً لدى الأميركيين أنه قُتل في أثناء سقوطه من الطائرة. لكنَّ الأميركيين يعتقدون دوماً أن المؤامرة موجودة وأن الكلام ربما يكون غير صحيح وربما هو مخفي وكذا... وكان هذا السؤال يُطرح حول هذا الجانب. الطيار يهودي الديانة وجنسيته أميركية، للأسف سُميت (قاعدة سبايكر) في العراق باسمه.

في المعتقل كانت هناك قواطع، ومجموعات. في كل قاطع 21 شخصاً، وفي كل بلوك 7 أشخاص. وكانوا يُخرجوننا للرياضة، نتمشى قليلاً ونُمضي نحو نصف ساعة. وأتذكر أن أحمد حسين، رئيس الديوان، كان في قاطعنا ذاته، وكان بلوكهم يخرج للرياضة، ثم بعدها يطلع بلوكنا للرياضة. في أثناء مشيه أمامي، قال لي: للأسف اليوم اعتقلوا السيد الرئيس، جاءنا هكذا خبر. تألمت جداً لأننا كنا نتحدث في بعض الأحيان أنا وبعض والإخوان والزملاء بأن وجود السيد الرئيس خارج السجن هو الأمل الكبير لتحرير العراق. بعدما اعتُقل وجدنا أن العراق احتُلَّ الآن، واستمرارية الاحتلال دائمة.

كنت في هذه الأثناء أرى مقابلنا، حيث يوجد بلوك ثانٍ في نهاية بلوكات السجن، عملاً مستمراً هناك. كان هناك نجارون وحرفيون... وكان العمل دؤوباً ولا نعرف الأسباب، كنا نعتقد أن هناك شيئاً آخر أو أنهم يضيفون شيئاً آخر للسجن، لكنهم أقاموا ستاراً ولم نعد نرى الممر الذي أمامنا. بنوا جداراً خشبياً في هذا المكان».

سألته: هل كان صدام حسين يقود المقاومة قبل اعتقاله؟ فأجاب: «نعم. المقاومة بدأ عملها بعد الحرب. لم يكن موضوع المقاومة معداً سلفاً لأن العمل كان آنذاك عسكرياً بحتاً، قطاعات عسكرية مقابل قطاعات عسكرية. بعد الاحتلال، بدأ عمل آخر، صفحة أخرى، لأن المعركة صفحات. نعم كان السيد الرئيس يقود المقاومة، وكان أمل المقاومة، وأمل العراقيين، وأمل العرب والمسلمين».

رسالة من الأسرة بعد سنتين

سألته: متى تمكَّن من الاتصال بعائلته بعد اعتقاله؟ فروى: «بالنسبة إلى أسرتي، كان مفقوداً التواصل معها، ولم أكن أحمل رقم تليفون لأحد من إخواني أو أصدقائي أو زملائي، وحتى لو كنت أحمل رقم تليفون لربما تغيرت التليفونات أو وضعها تغيّر أو ظرفها، خصوصاً أن البدالات (السنترالات) قُصفت. قُصف الكثير من البدالات وتوقفت اتصالات كثيرة في العراق. أتذكر أن الصليب الأحمر زارني في المعتقل، وفي أثناء زيارتهم، عرضوا عليَّ أن أكتب رسالة، إذ عادةً يَعرض الصليب الأحمر عندما يأتي إلى المعتقلات على المعتقل أن يكتب رسالة لعائلته. حقيقة وجدتُ نفسي في حيرة، لمن أكتب؟ إخواني لا أعرف أين هم، وأسرتي فقدت الاتصال بهم ولا أعرف أين هم، ولا أعرف أي شيء. خطر ببالي شيخ المدربين عمو بابا. عمو بابا معروف في العراق، مدرب كرة القدم. تبادر إلى ذهني أن عمو بابا أفضل سبيل لكي أوصل الرسالة، وربما هو يسهم بإيصال رسالتي إلى إخواني. وفعلاً قررت أن أكتب إلى عمو بابا، وكتبتها. أنا أيضاً لا أعرف عنوان عمو بابا، رغم أنني كنت أزوره في البيت لكنني لا أعرف عنوان البيت. أتذكر عنوان نادي الشرطة كوني كنت رئيس نادي الشرطة آنذاك، فكتبت الرسالة ووضعت عنوان نادي الشرطة وكتبت تُسلَّم باليد إلى شيخ المدربين عمو بابا.

جمال مصطفى السلطان (الشرق الأوسط)

الإخوان في نادي الشرطة، حقيقةً، يقدِّرونني ويحترمونني كثيراً، وهم موجودون ولا يزالون على تواصل معي، أوصلوا الرسالة إلى عمو بابا. عندما وصلت الرسالة، لم أكن بانياً عليها آمالاً كبيرة لأن الظرف صعب. بعد قرابة شهرين ونصف الشهر إلى ثلاثة أشهر، جاءتني رسالة من عمو بابا، يسلم فيها ويهتم ويسأل عن صحتي ووضعي وإلخ. وكان معه أيضاً شخص يعمل مدرباً عندي اسمه ياسين. كتبا الرسالة معاً وأرسلاها إليَّ وبعثا معاً حاجات، مثل ملابس رياضية وشورت وقميص، فصار التواصل مع عمو بابا، ومن خلاله وصلت رسالتي إلى إخواني، وبدأ التواصل مع إخواني، ثم بعد فترة من الزمن، قرابة السنتين، جاءتني الرسالة الأولى من أسرتي. الرسالة الأولى التي وصلت إليّ من أسرتي بعد سنتين من اعتقالي. رسالة من زوجتي حلا».

هل أفهم أنك لم تلتقِ عائلتك على مدى ثمانية عشر عاماً؟ فأجاب: «نعم لم أرهم ولم أرَ أطفالي على مدى 18 سنة ونصف السنة. لم يحصل أي لقاء معهم أو حديث، باستثناء فترة من الزمن عندما كنا عند الأميركيين الذين كانوا يعطوننا وقتاً جيداً بالقياس إلى اعتقالنا في السجون العراقية، كانوا يعطوننا 5 دقائق في الأسبوع للاتصال بعوائلنا. كنت أتصل، وأقسّم الوقت، أتحدث مع والدتي وإخواني دقيقتين ونصف الدقيقة، ودقيقتين ونصف الدقيقة أتحدث مع أسرتي. زوجتي حلا وبناتي أيضاً أتحدث معهم. كان التواصل بين فترة وأخرى، كل أسبوع أتحدث معهم. بعد 2010 عندنا انتقلنا إلى العراقيين تماماً، قطعوا التواصل تماماً ولم يكن هناك أي تواصل لأنهم لم يكونوا يعطوننا أي وقت، فضلاً عن ذلك، كنت أحرص على ألا أتصل من عند العراقيين، إذ ربما هناك أعداء وعملاء لجهات خارجية يمكن أن يسجلوا المكالمات بطريقة أو بأخرى، وإلخ».

خرج جمال مصطفى من المعتقل في يونيو (حزيران) 2021، فماذا فعل؟ يقول: «ذهبت وبت ليلة في بغداد لدى أحد الأصدقاء العراقيين الشرفاء. وكان بيته في الكاظمية. كان الرجل عراقياً أصيلاً شهماً غيوراً صاحب نخوة ووفَّر لي حماية إلى أن أوصلني إلى أربيل. عندما وصلت إلى أربيل سكنت عند أخي وجاءني زوار كثيرون من إخواننا العراقيين، من كل أنحاء العراق وكانت اتصالات أيضاً من كل أنحاء العالم بحكم علاقاتي العشائرية والرياضية مع العراقيين بصورة عامة، فكان يردني كثير من الاتصالات والزيارات، واستمررت على هذه الحال تقريباً نحو عشرين يوماً، ثم جاءني أحد الإخوان الأكراد وكانت تربطني به علاقة رياضية فقال لي: كاكا مسعود (مسعود بارزاني) يريد رؤيتك. نلتقي غداً عند الساعة الفلانية لكي تذهب وتلتقيه. وفعلاً ذهبنا.

في الحقيقة استقبلني الأستاذ مسعود استقبالاً حاراً وبحفاوة واحترام وتقدير وجلسنا وتحدثنا. شكرته لأن كل المواطنين العراقيين الذي هاجروا أو هُجروا من مدن كثيرة من العراق، الأنبار وصلاح الدين وكركوك والموصل، دخلوا أربيل وفتحت لهم الأبواب، في حين أن من كان يذهب إلى بغداد كان حظه جيداً إذا اكتفي بإبعاده، فهناك من اعتُقل وعُذب وهناك من خُطف واختفى، بينما هو فتح الأبواب لكل النازحين الذين دخلوا أربيل. شكرته على الموقف الوطني الكبير. في ذاك الوقت سألني الرجل ماذا أحتاج؟ فقلت له إنني أحتاج إلى شيء واحد هو إنجاز الجواز حتى ألتحق بعائلتي. تجاوب وأرسلوا لي شخصاً إلى البيت صوَّرني وبصّمني وجهّزني لهذا الأمر، وبدأ يتابع في بغداد لإنجاز الجواز، لأن الجواز يصدر من بغداد لا من أربيل. ذهب الشخص ليتابع وبقي شهوراً لكنه لم ينجز شيئاً لأن الحكومة العراقية لم تكن تريد أن تُنجز لي جوازاً وكان يتصرفون كأنهم صُدموا بخروجي.

خرجت من المعتقل بطرق متعددة ومتنوعة. أنا كنت دائماً أوصي أخي عندما كانت هناك فرصة للحديث معاً أيام الأميركيين بألا يوسّط أياً كان حتى لو رأيتني أُعدم مائة مرة. لكن تقدر تعمل بالجانب الآخر وهو الماديات لأن الماديات تعمل عملها في العراق، والمؤسف أن كثيرين يمكن أن يُباعوا ويُشتروا».

العدالة والدولار

سألته: هل صحيح أن قاضياً طلب منك قبل سنوات رشوة مقابل الإفراج عنك؟، فأجاب: «نعم، فعلاً القاضي طلب. هذا في عام 2011، اتُّهمت ظلماً بقضية زرع عبوات ناسفة وأنني التقيت جماعات إرهابية في نيوزيلندا وسوريا وجماعات إرهابية في تركيا. أشياء لا تصدَّق. أنا في السجن فكيف ألتقي جماعات إرهابية في نيوزيلندا وتركيا وسوريا؟ هذه كانت التهم الموجهة إليَّ، وكان اسم القاضي -تحتفظ (الشرق الأوسط) باسم القاضي لأسباب قانونية. فهمت أنه رجل يريد مالاً، وأنا ليست لدي فلوس والقانون معه، وفهمت أنه يريد مقابلاً ليطلق سراحي، أرسل يطلب مني مبلغاً محترماً بالدولار، فأرسلت إليه أنني للأسف ليس لديَّ هذا المبلغ لكن يمكن أن أعطيك شيئاً من أملاكي. أنا لديَّ قطع أرض، قطعة أو قطعتان، ربما أعطيك إياها مقابل المبلغ الذي تريده، فقال: لا، أنا أحتاج إلى أن تعطيني نقداً. تعطيني نقداً أُطلق سراحك، وإلا فلن أفعل. هذا في عام 2011. لم يطلق سراحي فظللت موجوداً في المعتقل والاتهامات مستمرة بين فترة وأخرى كما ذكرت لك، مثل قيادة المقاومة وتنظيم هجمات. وكانت استشارية الأمن الوطني، كما ذكرت لك، قد أكثرت الاتهامات ضدي في فترة من الفترات، وتبيّن أن هناك شخصاً يريد أن يوفّي لنا الدين السابق، وهو فالح الفياض. فالح الفياض رجل كان محكوماً بالإعدام في زماننا، وهو من (حزب الدعوة)، فالسيد الرئيس الله يرحمه ويغفر له أعفى عنه وأطلق سراحه. الرجل أراد أن يوفينا، كيف يوفينا؟ يتهمني يومياً تهمة».

سألته إن كانت لديه كلمة أخيرة، فأعرب عن الشكر والامتنان لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد ووالده والحكومة والشعب القطري «لما قدموه من رعاية واهتمام وحماية لعائلتي وعمتي».

كتب الرئيس إلى قادة العشائر يوصيهم بمقاومة الاحتلال وسلّمتهم خرجية لمساعدة الجنود

جمال مصطفى السلطان