كيف قضت الحرب الإسرائيلية في غزة على عائلات فلسطينية بأكملها؟

مؤرخ: الحرب هي الأكثر فتكاً بالفلسطينيين في التاريخ الحديث

رمزي أبو القمصان يجلس مع ابنته نور خارج منزلهما في مخيم جباليا للاجئين بغزة في 22 أكتوبر 2022 قُتلت زوجته أسماء ونور 5 سنوات في قصف إسرائيلي على منزلهم في 16 نوفمبر 2023 مع 15 آخرين من أقاربهم (أ.ب)
رمزي أبو القمصان يجلس مع ابنته نور خارج منزلهما في مخيم جباليا للاجئين بغزة في 22 أكتوبر 2022 قُتلت زوجته أسماء ونور 5 سنوات في قصف إسرائيلي على منزلهم في 16 نوفمبر 2023 مع 15 آخرين من أقاربهم (أ.ب)
TT

كيف قضت الحرب الإسرائيلية في غزة على عائلات فلسطينية بأكملها؟

رمزي أبو القمصان يجلس مع ابنته نور خارج منزلهما في مخيم جباليا للاجئين بغزة في 22 أكتوبر 2022 قُتلت زوجته أسماء ونور 5 سنوات في قصف إسرائيلي على منزلهم في 16 نوفمبر 2023 مع 15 آخرين من أقاربهم (أ.ب)
رمزي أبو القمصان يجلس مع ابنته نور خارج منزلهما في مخيم جباليا للاجئين بغزة في 22 أكتوبر 2022 قُتلت زوجته أسماء ونور 5 سنوات في قصف إسرائيلي على منزلهم في 16 نوفمبر 2023 مع 15 آخرين من أقاربهم (أ.ب)

أدت الحرب الإسرائيلية على غزة إلى مقتل المئات من أفراد العائلات من نفس سلسلة النسب، وهي حصيلة غير مسبوقة للمجتمع الصغير الذي يتكون في معظمه من اللاجئين وأحفادهم.

وقد أظهر تحقيق أجرته وكالة «أسوشييتد برس» لتحليل 10 غارات جوية في مختلف أنحاء قطاع غزة بين أكتوبر (تشرين الأول) وديسمبر (كانون الأول) أن كل أسرة فلسطينية عانت تقريباً من خسائر فادحة ومتعددة. لكن الكثير منها هلك، خاصة في الأشهر الأولى من الحرب.

وقامت «أسوشييتد برس» بتحديد الموقع الجغرافي للضربات وتحليلها؛ وتحدثت مع خبراء أسلحة؛ ومحللي البيانات المفتوحة والخبراء القانونيين؛ واعتمدت على بيانات من شركة «آيرويز»، وهي منظمة مختصة بمراقبة الصراعات ومقرها لندن.

وأظهر التحقيق أن الضربات الإسرائيلية أصابت المباني السكنية والملاجئ التي كانت بداخلها عائلات. ولم يكن هناك بأي حال من الأحوال هدف عسكري واضح أو تحذير مباشر لمن هم بالداخل. وفي إحدى الحالات، قالت الأسرة إنها رفعت علماً أبيض على المبنى الذي تسكن فيه في منطقة القتال.

الصورة التي قدمتها عائلة الآغا تظهر سكان منطقة غرب خان يونس في غزة يتفقدون الأنقاض في أعقاب غارة جوية على منزل عائلة مهند الآغا (أ.ب)

ويقول المؤرخ الفلسطيني الأميركي في جامعة كولومبيا رشيد الخالدي إن هذه الحرب أثبتت أنها أكثر فتكاً من التهجير بعد النكبة عام 1948، عندما قُتل 20 ألف شخص، متابعاً: «لا أعتقد أن شيئاً كهذا قد حدث في التاريخ الفلسطيني الحديث».

ومن جانبها، قالت إميلي تريب، مديرة منظمة «آيرويز»، إن محققيها كافحوا للتعامل مع مقتل عائلات بأكملها عبر الأجيال، وقالت: «في بعض الأحيان كان علينا إنشاء أشجار عائلية لفهم الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

عائلة الآغا 31 قتيلاً

في 11 أكتوبر، دمرت غارة جوية منزل أمين الآغا في غرب خان يونس. وكان الرجل البالغ من العمر 61 عاماً نائماً في الطابق الأرضي من المبنى المكون من طابقين مع زوجته وأبنائه الثلاثة، فيما كان الطابق العلوي منزلاً لابنه مهند الآغا (30 عاماً) وزوجته هند وابنتيهما تالين (عامان) وأسيل (عام واحد). وقتلت الغارة الجوية 11 شخصاً من العائلة، بينهم اثنان من أبناء عمومتهم في مبنى مجاور.

ويقول جاسر الآغا، ابن عمه الذي وصل بعد وقت قصير من الغارة: «لم يعد منزلاً. لقد أصبح كومة من الرمال».

وفي وقت مبكر من يوم 14 أكتوبر، ضربت قنبلة إسرائيلية منزل الموظف خميس الآغا، وتحول المبنى المكون من ثلاثة طوابق في وسط خان يونس إلى أنقاض. ومن بين القتلى: خميس الآغا 38 عاماً، وزوجته نسرين، وولدان، عمرهما 11 و13 عاماً، وبنتان، أعمارهما: 8 و6 سنوات، وشقيقه الأصغر وابنه البالغ من العمر 9 سنوات، وابن عمه وابنه. ونجت زوجة شقيق خميس فقط.

صورة قدمتها العائلة تظهر مهند الآغا الثاني من اليسار يقف مع أشقائه ووالده أمين الآغا وسط الصورة في 5 أكتوبر 2023 خلال حفل زفاف حميد الآغا الثالث من اليسار بعد أيام قُتل جميع من في الصورة باستثناء العريس ومحمد الآغا الثاني من اليمين في غارة جوية على منزل العائلة في غرب خان يونس في 11 أكتوبر 2023 (أ.ب)

وفي 14 نوفمبر (تشرين الثاني)، تعرض منزل عوني الآغا، ابن عم خميس الثاني، للقصف، مما أدى إلى تدمير المبنى المكون من ثلاثة طوابق في غرب خان يونس. وقال بريان كاستنر، محقق الأسلحة في منظمة العفو الدولية، إن الأضرار تشير إلى أنها كانت غارة جوية أيضاً.

ولم يكن هناك سوى طبق قمر صناعي يبرز فوق الأنقاض. وأسفرت الغارة عن مقتل زوجة عوني الآغا، سامية 64 عاماً؛ أبنائه الأربعة، الذين تتراوح أعمارهم بين 42 و26 عاماً، وابنته راما 41 عاماً، وزوجها وابنيها، البالغين من العمر 18 و16 عاماً. ونجا عوني الآغا، مسؤول التعليم الحكومي، لأنه استيقظ لصلاة الفجر.

مشيعون يصلون على جثث أفراد عائلة الآغا الذين قتلوا خلال غارة جوية إسرائيلية خلال جنازتهم في خان يونس قطاع غزة الأربعاء 11 أكتوبر 2023 (أ.ب)

وبعد ثلاثة أشهر، في فبراير (شباط)، توفي عوني الآغا عن عمر يناهز 69 عاماً، على الأرجح بسبب جرح في القلب، بحسب جاسر الآغا.

عائلة أبو النجا 20 قتيلاً

قصفت الطائرات الإسرائيلية منازل عائلتي أبو النجا ومادي في جنوب رفح يوم 17 أكتوبر. وقُتل على الفور عشرون فرداً من عائلة أبو النجا، من بينهم سيدتان حاملتان، وثمانية أطفال. كما قتلت الغارات الجوية الجدة البالغة من العمر 78 عاماً وحفيدتها وأطفالها. وقالت شركة «آيرويز» إن أحد الرجال الذين قُتلوا توفيت زوجته وشقيقته الحامل وابنتها البالغة من العم عامين.

عائلتا طرزاي وصوري 20 قتيلاً

دمرت غارة جوية إسرائيلية مبنى كنيسة في مدينة غزة كان يحتمي به مئات النازحين. وأسفرت الغارة التي وقعت في 19 أكتوبر عن مقتل 20 فرداً من عائلات طرزاي والصوري المتصاهرة من المجتمع المسيحي المتضائل في غزة، بما في ذلك سبعة أطفال على الأقل، كما فقد رامز الصوري أطفاله الثلاثة وزوجته.

واعترف الجيش الإسرائيلي بتضرر جدار الكنيسة، فيما زارت منظمة العفو الدولية موقع الكنيسة وحللت مقاطع فيديو، بما في ذلك مقطع تم نشره وحذفه الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين، وخلصت إلى أنها كانت غارة جوية. وقالت منظمة العفو الدولية إنه حتى لو تم تحديد هدف عسكري، فإن ذلك «كان أمراً متهوراً، وبالتالي يرقى إلى جريمة حرب».

مخيم جباليا: أكثر من 130 قتيلاً

وكان القصف الإسرائيلي الذي وقع في 31 أكتوبر من بين أكثر الهجمات دموية في هذه الحرب، إذ كان مخيم جباليا للاجئين أحد أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في غزة، وقد تعرض للقصف عدة مرات منذ 7 أكتوبر، ولا تزال الحصيلة الحقيقية مجهولة لأن الكثيرين لا يزالون تحت الأنقاض، وفقاً لـ«أسوشييتد برس».

رمزي أبو القمصان على اليسار مع عائلته في أحد مطاعم غزة في يناير 2023 من اليسار ابناه إبراهيم ومحمود ابنته نور وابنه عمر وزوجته أسماء قُتلت أسماء ونور في غارة جوية يوم 16 نوفمبر في مخيم جباليا للاجئين (أ.ب)

وحددت منظمة «آيرويز» أسماء 112 مدنياً قتلوا من 11 عائلة، بينهم 69 طفلاً و22 امرأة، وكان من بينهم ما لا يقل عن 47 فرداً من عائلتي عكاشة وأبو القمصان. وحددت وكالة «أسوشييتد برس» 17 آخرين من عائلة القمصان، حيث لقي أعمامهم وآباؤهم وأطفالهم حتفهم.

صورة قدمتها العائلة تظهر كعكة عيد ميلاد أسماء أبو القمصان في 25 يوليو 2022 قُتلت أسماء وابنتها نور البالغة من العمر 5 سنوات في 16 نوفمبر 2023 في غارة جوية على منزلهما في مخيم جباليا للاجئين في غزة (أ.ب)

وأحدثت القنابل عدة حفر في منطقة امتدت لأكثر من 100 متر. وانهارت عدة مبانٍ. واعتبر المحقق في جرائم الحرب كوب سميث: «هذا يتوافق مع أكبر الحفر التي رأيتها على مدار العشرين عاماً الماضية»، فيما ذكرت إسرائيل أنها استهدفت مركز القيادة والسيطرة التابع لحماس وقائد كتيبة تابعة للحركة خلال الغارة.

عائلة دغمش 44 قتيلاً

وقعت غارة جوية على مسجد في حي الصبرة بمدينة غزة في وقت مبكر من مساء يوم 15 نوفمبر، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 44 شخصاً من عائلة دغمش، بمن في ذلك رب الأسرة وطفل يبلغ من العمر 9 سنوات وعدد من الرجال في العائلة وامرأتان من أقاربه في مبنى مجاور.

ويبدو أن الأضرار اقتصرت على الطوابق العليا للمسجد. وفي مقطع فيديو تم التقاطه بعد ذلك، لم تكن هناك حفرة ويبدو أن المسجد قد تم تنظيفه. وقال سميث، وهو أيضاً مفتش الأسلحة السابق بالأمم المتحدة والضابط بالجيش البريطاني الذي أجرى تحقيقات في غزة بعد الحروب الماضية، إنه لم تكن هناك علامة على حدوث أضرار كبيرة في مكان قريب، مما يشير إلى أن المسجد ربما تم استهدافه مباشرة بذخيرة جوية صغيرة.

تم بناء المسجد وتملكه عائلة دغمش. وقال رجب دغمش، الذي قُتل شقيقه البالغ من العمر 21 عاماً، إن المسجد ليس له أي انتماء متشدد وإن الأسرة لا تسمح بأي نشاط متشدد في الحي الذي يسكنه. أدى الخلاف بين عائلة دغمش وحماس، والذي يعود تاريخه إلى استيلاء حماس على السلطة في عام 2007، إلى إبقاء المنطقة محظورة إلى حد كبير على مقاتلي حماس.

عائلة سالم 173 قتيلاً

دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية ملجأين منفصلين لعائلة سالم يومي 11 و19 ديسمبر (كانون الأول). وقُتل ما لا يقل عن 173 فرداً من أفراد الأسرة، بمن في ذلك أطفال، وامرأة واحدة حامل على الأقل، والعديد من كبار السن، من بينهم رب الأسرة البالغ من العمر 87 عاماً.

كما أشار تحليل «أسوشييتد برس» أن الغارة الجوية التي وقعت في 11 ديسمبر دمرت مجموعة من المباني العائلية، وقال الخبراء إن الأضرار المحدودة تشير إلى أنها قنبلة كبيرة مبرمجة لتأخير الانفجار إلى ما بعد الارتطام.

قُتل ما لا يقل عن 80 شخصاً، بمن في ذلك أجيال متعددة من نفس السلالة. وقال أقارب إنه لم تكن هناك أنشطة قتالية واضحة في مكان قريب.

تُظهر هذه المجموعة من الصور التي قدمها يوسف سالم لأقاربه الذين فقدهم جراء الغارات الإسرائيلية خلال حرب غزة الصف العلوي من اليسار محمد سالم مع ابنته أمل وزوجته فداء ابنته سارة وإبراهيم سالم الصف الثاني من اليسار ابنة أم أحمد سالم ومحمد هاني سالم وأم هاني سالم وإسماعيل سالم الصف الثالث من اليسار عادل سالم أم أحمد سالم إسماعيل سالم منير نور ومحمد سالم (أ.ب)

وفي 19 ديسمبر، أصابت غارة جوية إسرائيلية مجموعة أخرى من النازحين من عائلة سالم كانوا يحتمون في فيلا في منطقة الرمال. وخلف الهجوم حفرة عميقة لكن المباني المحيطة لم تتضرر. وقال الناجون إنه قُتل ما لا يقل عن 90 سالماً.

قال محمد سالم، الذي نجا من غارة 19 ديسمبر: «رأيت جثث أعمامي وأبناء عمومتي متناثرة على الأرض». وتابع: «لم نتمكن من التعرف على الجثث إلا من خلال هوياتهم. لقد كانوا مجرد كومة من اللحم».

مخيم المغازي للاجئين 106 قتلى على الأقل

وقال شهود إن أربعة منازل على الأقل تؤوي العديد من الفلسطينيين النازحين تعرضت للقصف المباشر في 24 ديسمبر. وتناثرت أشلاء الجثث في المناطق المحيطة.

وأظهرت مقاطع الفيديو أضراراً تتفق مع الغارات الجوية. وأظهرت الصور عدة منازل مدمرة في أزقة ضيقة تصطف على جانبيها مبانٍ صغيرة معظمها من طابق واحد، وحفرة كبيرة عند مدخل المخيم.

تمكنت وكالة «الأسوشييتد برس» من الوصول إلى سجلات المستشفى بعد الضربة والتي سجلت مقتل 106 أشخاص. ومن خلال إشعارات الوفاة العامة وبيانات وزارة الصحة الجزئية، وأشارت الوكالة في تقريرها إلى أنه تم التعرف على 36 من عائلات النواصرة وأبو حمدة وقنديل.

فلسطينيون يتفقدون أنقاض مبنى لعائلة النواصرة دمر في غارة إسرائيلية في مخيم المغازي للاجئين وسط قطاع غزة الاثنين 25 ديسمبر 2023 (أ.ب)

وقالت إسرائيل إنها كانت تستهدف نشطاء حماس وقصفت عن طريق الخطأ مبنيين متجاورين. في أول بيان نادر للاعتراف بضربة خاطئة، قالت إسرائيل إنها تأسف لـ«إصابة غير المشاركين». وقالت إنها اتخذت الإجراءات اللازمة لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين. وقال مسؤول عسكري لهيئة الإذاعة والتلفزيون العامة الإسرائيلية، إن السلاح الخطأ استخدم في الهجوم، دون الخوض في التفاصيل.

جدير بالذكر أنه حتى أمس (الأحد) ارتفعت حصيلة القتلى الفلسطينيين خلال الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة إلى 37 ألفاً و337 بالإضافة إلى 85 ألفاً و299 مصاباً، وفقا لوزارة الصحة في غزة.


مقالات ذات صلة

المشرق العربي دبابة إسرائيلية تدخل على الحدود مع قطاع غزة (د.ب.أ)

صندوق تقاعد نرويجي ينسحب من شركة أميركية بسبب تورطها في الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان

أعلن أكبر صندوق تقاعد خاص بالنرويج سحب استثماراته من شركة صناعة المعدات الثقيلة الأميركية «كاتربلر» بسبب مخاوف احتمال مساهمتها في تسهيل انتهاك حقوق الإنسان.

«الشرق الأوسط» (أوسلو)
تحليل إخباري المبعوث الأميركي آموس هوكستين في بيروت 18 يونيو الحالي (أ.ب)

تحليل إخباري هل تلجم «مصلحة الجميع» نيّات توسعة الحرب في لبنان؟

قبل أيام زار هوكستين، عراب الاتفاق اللبناني - الإسرائيلي، تل أبيب وبيروت في مسعى لمنع تحول المواجهة من جبهة محدودة في جنوب لبنان إلى مواجهة مفتوحة.

مالك القعقور (لندن)
شؤون إقليمية حقل الغاز الطبيعي البحري الإسرائيلي «تمار» في الصورة أمام عسقلان قرب ساحل غزة (رويترز)

اتحاد المصنّعين الإسرائيليين: سنُغلق منصّات الغاز إذا نشبت حرب مع «حزب الله»

قال رون تومر، رئيس اتحاد المصنّعين في إسرائيل، إنه سيتم وقف تشغيل كل منصّات استخراج الغاز الطبيعي في المياه الإسرائيلية؛ لحمايتها في حال نشوب حرب مع «حزب الله».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
تحليل إخباري تؤكد إيران أنها ستتدخل مباشرة في القتال حال قيام إسرائيل بتوسعة الحرب ضد «حزب الله» (أرشيف «الشرق الأوسط»)

تحليل إخباري واشنطن توكل لباريس التواصل مع طهران لمنع التصعيد في جنوب لبنان

أكد مصدر دبلوماسي غربي أن واشنطن أوكلت إلى باريس مهمة التواصل مع إيران وحليفها «حزب الله» لإعادة الهدوء إلى جبهة جنوب لبنان ومنع توسعة الحرب بين الحزب وإسرائيل.

محمد شقير (بيروت)

حرب جنوب لبنان تنتقل من محاولة «قطع الأذرع الإيرانية» إلى «تحييدها»

جنديان من «اليونيفيل» على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية (د.ب.أ)
جنديان من «اليونيفيل» على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية (د.ب.أ)
TT

حرب جنوب لبنان تنتقل من محاولة «قطع الأذرع الإيرانية» إلى «تحييدها»

جنديان من «اليونيفيل» على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية (د.ب.أ)
جنديان من «اليونيفيل» على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية (د.ب.أ)

أثبتت الحرب الأخيرة التي يخوضها «حزب الله» ضد الجيش الإسرائيلي، متغيراً أساسياً، يتمثل في تحوله من «منظومة قتال أمنية»، تتبع حرب العصابات، إلى «منظومة قتال عسكرية» مكّنت إسرائيل من استهداف قادته، وسط حرب تكنولوجية يخوضها الجيش الإسرائيلي، ويرد عليها «الحزب» بصواريخ موجهة وأخرى ثقيلة لم تكن موجودة في حرب يوليو (تموز) 2006، وسط تصعيد متواصل من قبل الطرفين ضمن الحدود الجغرافية للمعركة.

واشتدّ تبادل إطلاق النار في الأسابيع الأخيرة مع تصعيد «الحزب» هجماته وتنفيذ الجيش الإسرائيلي غارات في عمق الأراضي اللبنانيّة. وركز «حزب الله» في قتاله على استخدام المسيّرات المفخخة، وهي لم تكن موجودة في «حرب تموز» 2006، كما استخدم منظومات دفاع جوي ضد المسيّرات والطائرات الحربية، فيما أدخلت إسرائيل منظومات عسكرية حديثة تعمل وفق الذكاء الاصطناعي، وهو ما لم يكن موجوداً في حروبها السابقة في لبنان، وفق ما يقول العميد المتقاعد خليل الحلو لـ«الشرق الأوسط».

«القبة الحديدية» تحاول اعتراض صواريخ أطلقها «حزب الله» باتجاه كريات شمونة (أ.ف.ب)

تحولات استراتيجية

على المستوى الاستراتيجي، يقول العميد الركن المتقاعد فادي داود لـ«الشرق الأوسط» إن المتغير الأساسي أن الحرب السابقة كانت من لبنان وللبنان، أما الحرب الأخيرة فتحمل عنوان «نصرةً لغزة»، لكن في الوقت نفسه «هناك تشابه بين حرب اليوم وحرب 2006؛ لأن مفهوم الردع الذي تُبنى عليه الجيوش؛ الإسرائيلي وغيره، تهشّم»، في إشارة إلى الضربات المكثفة بالمسيّرات.

سكان محليون بهضبة الجولان يشاركون في إخماد نيران اندلعت جراء قصف «حزب الله»... (أ.ف.ب)

واستناداً إلى «مصالح كبرى» في الحروب، «كان الهدف من حرب 2006 قطع الأذرع الإيرانية في المنطقة تمهيداً للشرق الأوسط الجديد»، بينما «تتمحور الأهداف الحالية حول تحييد الأذرع الإيرانية، وتجلى هذا الأمر بمواقف مسؤولين أميركيين»، وفق ما يقول داود. ويشير إلى أن إسرائيل دخلت إلى لبنان في 2006 بهدف خلق منطقة عازلة، وأنها «لم تنجح في خلق هذه المنطقة عسكريّاً؛ إنما دبلوماسياً من خلال القرار (1701)»، أما الآن؛ «فانعكست المعادلة بالنسبة إلى المنطقة العازلة التي أصبحت داخل إسرائيل نتيجة قصف (حزب الله) شمالها، مما أدى إلى تهجير سكان شمال إسرائيل». ويرى أن أهم النتائج ستتمثل في انتشار الجيش اللبناني في جنوب الليطاني بقوة أكبر وحضور أكثر فاعليّة، مؤكداً أن «أي اتفاق سيتوصّلون إليه، فسيكون الجيش ضمانة هذا الاتفاق».

عناصر من الجيش اللبناني و«اليونيفيل» يزيلون خراطيم إسرائيلية استُعملت لإحراق الأحراج الحدودية (مديرية التوجيه)

الأسلحة المستخدمة

وإلى جانب التطوير في الاستراتيجيات والتكتيك، أثبتت المعركة الأخيرة متغيرات على مستوى الأسلحة المستخدمة. يقول العميد المتقاعد خليل الحلو، وهو أستاذ جامعي في الجيوسياسة، إن «الحزب» يطلق صواريخ الـ«كاتيوشا»، كما كان الأمر في 2006، «مع متغير أساسي؛ هو وجود (القبة الحديدية)، علماً بأن (حزب الله) تعلّم كيفية التعامل مع منظومة (القبّة الحديدية) لتجاوزها»، ولأن إسرائيل «ترمي الذخائر الحارقة للكشف عن مداخل الأنفاق، وتراقب المسيّرات والرمايات ومنصات الـ(كاتيوشا)»، فإن «الحزب» نقل منصاته من بين الأشجار إلى داخل الأنفاق.

كان لافتاً التطوير في حجم الذخائر عما كان الأمر عليه في 2006. يقول الحلو لـ«الشرق الأوسط» إن الجديد في هذه الحرب «يتمثل في امتلاك (حزب الله) صواريخ (البركان)، بحشوة متفجّرة يتراوح وزنها بين 300 و500 كيلوغرام، وهي تشبه في فاعليتها قذائف الطيران التي تزن 250 كيلوغراماً»، فضلاً عن صاروخ «فلق»، وهو «صاروخ مطوّر وليس متطوراً»، موضحاً أنه مطُوّر عن صواريخ «غراد» الروسية، فضلاً عن صواريخ «107 مليمتر» التي تطلق من قلب الأنفاق بواسطة منصّات صغيرة، وهي كانت موجودة في حرب 2006.

لقطة من فيديو نشره «حزب الله» اللبناني تظهر إطلاق صواريخ «بركان»

التكتيك العسكري

وتنسحب المتغيرات على المستوى العسكري. فقد أدخلت إسرائيل المسيّرات على أنواعها، إلى جانب القنابل الذكية التي تُرمى من طائرات حربية، والتي كانت تطوّراً نوعيّاً في 2006. ولا يزال الجيش الإسرائيلي محتفظاً بالتفوق الجوي، كما يقول العميد الركن داود، لكنه يرصد متغيراً آخر في تكتيكات «حزب الله». ويوضح: «في عام 2006 (حزب الله) كان لا يزال يعمل بوصفه (مقاومة تحت الأرض - Under Ground)، وهذا يعني أن عملياته غير عسكرية ولا تكشف عن جاهزيتها، أما في الوقت الراهن فيعمل (الحزب) على الاشتباك في جنوب لبنان بوصفه منظومة عسكريّة وليست أمنية، وهذا من الأسباب الأساسية التي مكّنت إسرائيل من استهداف قياداته»، مضيفاً: «هو يستعمل المسيّرات أيضاً والصواريخ وقتال المشاة، وهذا مما أدى إلى خسارة كبيرة في صفوفه، إلى أن بدل أخيراً في استراتيجيته، وعاد إلى العمل بوصفه (مقاومة تحت الأرض)، مما ساهم في تراجع نسبة الإصابات في صفوفه؛ لأنه أجرى نقلة نوعية ودراسة (لعسكره)».

وتتبع إسرائيل سياسة «قطع الرؤوس» في استهداف القيادات، ومع أنها اعتمدتها في 2006، فإنها طورتها الآن تقنياً «بتتبّع بصمة الصوت»، فضلاً عن تحييد إسرائيل في الحرب الأخيرة مؤسسات الدولة عن القصف، كما كان الأمر في 2006.

صورة عرضها غالانت خلال زيارته الحدود الشمالية قال إنها تتضمن قيادات من «حزب الله» اغتالتهم إسرائيل (إعلام إسرائيلي)

ألف صاروخ «كورنيت»

ومع أن «الحزب» استخدم صواريخ «كورنيت» الموجهة ضد الدروع في 2006، فإنه كثف استخدامها في هذه الحرب، ويقول الحلو إن «الحزب» أطلق نحو ألف صاروخ من هذا الطراز، إلى جانب نسخات روسية شبيهة، مثل «كونكرس» الروسي، وصاروخ «ألماس» الإيراني الموجه والمزود بكاميرا في رأسه، وهو جديد لم يستعمل سابقاً. ويضيف: «هذه الصواريخ لا إمكانية لردها إن استُعملت ضد تحصينات أو ضد بيوت، أو ضد مدرعات».

والمستجد أيضاً في هذه الحرب الرادارات والصواريخ المضادة للطائرات التي يستعملها «حزب الله»، وهي «غير فعالة ضد الطيران النفاث العادي؛ إنما استطاعت إسقاط 5 مسيّرات؛ بينها 3 من طراز (هيرمس) 900»، وهذا فضلاً عن المسيّرات التي يطلقها «الحزب».

صورة وزّعها إعلام «حزب الله» للطائرة الإسرائيلية بعد استهدافها (وسائل التواصل الاجتماعي)

تفوق تكنولوجي إسرائيلي

في المقابل، تفوقت إسرائيل في التطوير التكنولوجي، لا سيما منظومات «تروفي» المثبتة على «ميركافا4» وناقلات الجند من طراز «النمر»، كما يقول الحلو، إلى جانب أسلحة جديدة لم تُستخدم في السابق وتُعتمد اليوم بكثافة مثل مسيّرة «هيرمس 900»، ومسيّرة «هيرمس 450» المسلحتين، لافتاً إلى أن إسرائيل «استعملت عدداً كبيراً من هذه المسيّرات في الاغتيالات الخاصة؛ لأنها ذات فاعلية كبيرة عندما تُوجه إلى سيارة أو منزل أو دراجة نارية».

ويشير الحلو إلى أن «المسيّرات الإسرائيلية مزوّدة اليوم بالذكاء الاصطناعي، وهذه المسيّرات لم تكن متطورة بهذا الشكل في 2006. كما أدخلت إسرائيل اليوم طائرات (F35) الشبحية؛ وهي فعّالة»، إضافة إلى صواريخ «هايمارس» التي «باتت تمتلكها إسرائيل اليوم ولم تكن تمتلكها في 2006، ومن المرجح أن تستعمل ضد بعض الأهداف في لبنان».

جثث متفحمة... والقتلى أكثر من المصابين

وخلافاً لحرب 2006، تعدّ الإصابات في صفوف المدنيين أقل من إصابات العسكريين الذين يُنقلون إلى «مستشفيات حزبية»، وفق ما يقول أحد الأطباء الذي يعاين الجرحى والجثث في أحد مستشفيات الجنوب، لافتاً إلى أنه لم يرَ أي إصابات عسكرية بسبب نقلها إلى مستشفيات خاصة بـ«حزب الله».

ويضيف الطبيب؛ الذي رفض الكشف عن اسمه، أنه «ما يفاجئ أيضاً خلال هذه الحرب أن عدد الجرحى قليل جداً مقارنة مع عدد القتلى، بخلاف كل الحروب السابقة»، موضحاً أنه «في حرب 2006 بلغ عدد القتلى 1200، وكان هناك 5000 جريح أو مصاب، أما حرب اليوم فأعداد الإصابات قليلة جداً، رغم أنها حرب طويلة».

ووفق معطيات حصل عليها من جثث عاينها، يقول إن جثث القتلى «بها حروق بليغة، ومعظم جثث القتلى متفحّمة بسبب نوعية الأسلحة المتقدمة التي تستعملها إسرائيل في هذه الحرب، خلافاً لما كان عليه الأمر في (حرب تموز) عندما كانت الجثث تبقى على حالها».