عبد ربه: السنوار فاجأ حلفاءه وفوجئ بحجم اختراق 7 أكتوبر

«الشرق الأوسط» تعيد فتح دفاتر الرحلة الفلسطينية بمفاوضاتها الشائكة وعلاقاتها الصعبة (1 من 3)

TT

عبد ربه: السنوار فاجأ حلفاءه وفوجئ بحجم اختراق 7 أكتوبر

عرفات وإلى يساره ياسر عبد ربه عام 1993 (غيتي)
عرفات وإلى يساره ياسر عبد ربه عام 1993 (غيتي)

وضعتْ عملية «طوفان الأقصى» الشعب الفلسطيني على مفترق طرق يراوح بين نكبة جديدة وفتح الأفق أمام قيام الدولة الفلسطينية. أسئلة كثيرة تُطرح في الشارع الفلسطيني وخارجه: ماذا عن العملية التي شنتها «حماس»؟ وماذا عن الرد الإسرائيلي؟ وماذا عن شروط انضمام «حماس» إلى التسوية السلمية؟ وماذا أيضاً عن السلطة و«اليوم التالي»؟ ولأن الحاضر ابن تجارب الماضي فقد بحثتُ عمَّن كان شريكاً وشاهداً في العقود الماضية.

منذ «معركة الكرامة» في 1968، انخرط ياسر عبد ربه في العمل الفلسطيني. جاء من حركة القوميين العرب وشهد ولادة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وبعدها «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وصولاً إلى حزب «فدا». وإضافةً إلى هذه المواقع القيادية الفصائلية، كان عبد ربه أميناً لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومقرباً من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وإلى جانبه في المفاوضات مع الإسرائيليين والأميركيين وكذلك في العلاقات مع بغداد ودمشق وطرابلس. كان الغرض من الحوار الانطلاق من الحاضر واسترجاع بعض محطات الماضي وعبره، وهنا نص الحلقة الأولى:

سألت عبد ربه إنْ كان الشعب الفلسطيني يتجه حالياً نحو الدولة المستقلة أم نحو نكبة ثانية، فأجاب: «نحن وسط نكبة فلسطينية غير مسبوقة، وربما هذه النكبة، من حيث حجم المأساة التي وقع بها الشعب الفلسطيني، تتجاوز كثيراً النكبة الأولى. في النكبة الأولى، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية مهشمة، بل استبُدلت بالقرار العربي وتحالف عدد من الدول العربية الشكليّ في ما بينها، باسم حماية حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه».

نكبة جديدة... وظرف مختلف

في هذه النكبة، الحركة الوطنية الفلسطينية، رغم كل نواقصها وعيوبها التي كشفت عنها أيضاً أحداث مأساة غزة وما سُمي «طوفان الأقصى»، لا يمكن القضاء عليها أو استبدالها مهما كانت النتائج العسكرية على الأرض. المقارنة ليست بين وحشية ووحشية احتلالية إسرائيلية. تكنولوجيا القتل والدمار تتجاوز الآن بكثير ما كان متوفراً في عام 1948، ولكنّ الهدف واحد. في 1948 أُزيل ما يعادل 500 قرية فلسطينية وبلدة ومدينة، ونُفِّذ مخطط للتهجير الجماعي، وبقسوة لا تقل عن القسوة التي نشهدها اليوم.

لكن الآن، الفلسطيني لديه ذاكرة أكثر حدّة مما كانت عليه يومها. ربما لم نصدق عام 1948 أنه سيتم اقتلاعنا بالكامل من أرض وطننا. اليوم الفلسطيني، الكبير والصغير، يخشى أن يُقذف به مرة أخرى خارج أرض وطنه، وينظر إلى هذا الخطر على أنه شيء واقعي وملموس، وبالتالي يستميت في الدفاع، وترتفع صرخات الألم، وليست صرخات اليأس، رغم كل ما وقع من دمار في قطاع غزة من أقصى شماله حتى جنوبه.

الفلسطيني تحت الأنقاض اليوم يقول: لن أغادر أرض وطني. وهذه ليست شعارات، بل تعبير عن الوعي الذي تراكم عند الفلسطينيين على امتداد أكثر من سبعين عاماً. أنا أعتقد أن للدور الذاتي الفلسطيني في هذه اللحظة تأثيراً ليس بالقليل على كيفية اتجاه الأمور والأحداث.

عالم اليوم، ليس منحازاً بشكل قطعي لإسرائيل. هناك دوائر سياسية في الدول الغربية تنحاز لإسرائيل ولكن «بتردد»، وأحياناً أجرؤ على القول: «بخجل»، بينما لم نشهد في عام 1948 الملايين تتظاهر في العواصم الغربية، خصوصاً من جيل الشباب، كما نشهده اليوم.

أظن أن الشعور بأن الدولة الفلسطينية هي الحل سائدٌ حتى عند الدول الأكثر تملقاً لإسرائيل في هذه المأساة التي نمرّ بها. هذه الدول تحاول أن تقلل من حجم الجريمة الإسرائيلية التي ارتكبتها في قطاع غزة، ولا تزال. تحاول أن تغضّ النظر عن أفعال إسرائيلية وأقوال إسرائيلية. لم يكن يجرؤ الجيل الإسرائيلي الذي سبّب النكبة الأولى على النطق بها. اليوم هناك من يسمينا «حيوانات بشرية»، وهناك من يجاهر بضرورة مسح قطاع غزة وإخلائه من سكانه وطردهم نحو المجهول، واستيطان قطاع غزة وزرعه بالمستوطنات على أبعد أو أوسع مدى.

هناك أيضاً العالم اليوم يسارع إلى محاكمة إسرائيل. إسرائيل لم تخضع لأي محاكمة في تاريخها منذ نشأتها على المستوى الذي نشهده اليوم. محكمة العدل الدولية، هذا ليس حدثاً عابراً وطارئاً ومحدود الأثر. لم يقل لإسرائيل: أنت متهمة بإبادة الجنس البشري، مرة واحدة بكل تاريخها رغم أن هذا التاريخ مفعَم بالجرائم، مفعَم بالمذابح، مفعَم بالانتهاكات التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني.

أيُّ دور لـ«حماس»؟

وهل يمكن أن تكون «حماس» جزءاً من الحل؟ هذا السؤال يصعب عليّ أن أجيب عنه، ما لم تسارع «حماس» إلى استخدام هذه الفرصة لإعادة النظر في بعض المواقف والأفكار والأساليب التي اتّبعتها. أقول «بعض» ولا أقول «كل». يجب ألا أنكر أن «حماس» قوة وطنية فلسطينية، وأنها قوة مقاومة وأنها فعلت الكثير من أجل قضية الشعب الفلسطيني منذ نشأتها ومشاركتها في الانتفاضة الأولى.

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع رئيس تحرير «الشرق الأوسط» غسان شربل

لكي تعيد «حماس» الدور الذي بدأت به، وأن تستمر به، فهي تحتاج إلى مراجعة حقيقية. وهذا لا يمكن تفاديه بعد هذه المأساة التي حصلت، والمستمرة في قطاع غزة ولا ندري ما آفاقها بشكل كامل لكنّ مؤشراتها واضحة؛ وهي أن إسرائيل تريد غزة خالية من شعبها، أن تُلحقَ الدمار بقطاع غزة بحيث لا يعود بمقدور هذا الشعب أن يعود إلى مكانه الأصلي: لا بيوت، لا طرقات، لا بنية تحتية، لا إمكانية لتوفر أبسط مقومات الحياة. هذا ما هو قائم. فكيف ستتصرف «حماس» الآن، بغضّ النظر عن الاتهامات التي توجَّه ضدها، وبغضّ النظر عن عقوبات يمكن أن يتم إنزالها بها من هذا البلد أو ذاك، غربياً، وبعض هذه العقوبات فيها درجة عالية من النفاق.

تصوّرْ أن «حماس»، مثلاً، تُصنّف قوةً إرهابيةً بينما (لا تُصنَّف كذلك) حركة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي تصاحبها أعمال قتل وسرقة أراضٍ وتدمير بيوت وتدمير مزروعات ومحاولة حرق حتى بعض القرى والمدن وتقديمها نموذجاً للطرد الشامل للفلسطينيين خصوصاً في الضفة الغربية!

رغم هذا كله، أقول إن الباب لا يزال مفتوحاً، والمجال مفتوح، أمام «حماس». هذه ليست السابقة الأولى. كانت هناك سوابق عديدة. والفلسطينيون وياسر عرفات وحركة «فتح»، كان هناك وقت قيل إنها انتهت، بعد معركة بيروت، على سبيل المثال، وأنها أصبحت أبعد بعشرات آلاف الكيلومترات عن أرض وطنها وأصبحت في منفى قَصيٍّ وبعيد. ولكن استطاعت «فتح» أن تعيد دورها، ومعها منظمة التحرير وبقية القوى الفلسطينية، وأن تطرق باب التسوية السياسية بقوة. «حماس» تحتاج إلى درجة ما من التعامل بواقعية مع عالم اليوم، ومع التجربة الفلسطينية. وليس في كل يوم يمكن لهذه التجربة، المريرة والقاسية، أن تتكرر.

السنوار ونموذج عرفات

سألته إن كان يحيى السنوار، زعيم «حماس» في غزة، يستطيع أن يقبل الآن بما قبل به ياسر عرفات في «اتفاق أوسلو» 1993، فجاء الجواب: «لا أعرف بالضبط، أو لا أستطيع أن أفكر بعقل يحيى السنوار، ولكنَّ الجواب عندي سأسارع إلى قوله وهو: نعم. لأن التجربة المريرة تُعلم دروساً، وأنا أعرف، إذا كان المعنيّ هو الشخص بحد ذاته، أمرين: السنوار ليس من سلالة (الإخوان المسلمين) المكوَّنين عقائدياً بطريقة يصعب فيها عليهم التعامل البراغماتي والواقعي مع تطورات الأحداث. هو جاء إلى (حماس) بوصفها حركة ذات لون إسلامي وحركة مقاومة، بمعنى بعد عام 1987 عندما بدأت (حماس) تتكون وتشترك في الانتفاضة الأولى.

إسماعيل هنية ويحيى السنوار خلال اجتماع لقادة فصائل فلسطينية في غزة عام 2017 (أ.ف.ب)

الأمر الثاني، أنا أعتقد أنه لم يكن يُتوقع في 7 أكتوبر (تشرين الأول) النتائج التي حققها الاختراق (الحماسي) الفلسطيني لحدود قطاع غزة. ربما كان يريد القيام بعملية محدودة يتخللها اختطاف بعض العسكريين واشتباك محدود. معركة محدودة مع إسرائيل يتخللها أيضاً قليل من القصف والتدمير لتحسين الشروط بين قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض الحصار الخانق على القطاع. تحسين شروط حياتية، وتحسين شروط اقتصادية، وتحسين شروط ربما جغرافية، وميناء أو مطار... إلخ، وتحسين شروط قبول إسرائيل بـ(حماس) قيادةَ أمرٍ واقع في قطاع غزة من الناحية السياسية. هذا الانفجار الذي حدث والذي نتج عن تقصير، كما يسميه الإسرائيليون، غير مسبوق، هو الذي ربما فاجأ السنوار مثلما فاجأ آخرين».

«طوفان الأقصى» قرار العسكريين

لكن هل شعر عبد ربه لدى إطلاق «طوفان الأقصى» بتوقيت اقليمي؟ يرد: «على الإطلاق. أنا لا أظن أن هذا الحدث في بداياته وفي التداعيات التي تلت ناتجٌ عن تخطيط إيراني مثلاً، كما كان يشاع، أو بعض قوى من معسكر الممانعة. أنا لا أظن ذلك. (حماس) لها علاقات مع إيران ومع غيرها من القوى، و(حماس) كانت مستعدة وترجو أن تقيم علاقات مع قوى أخرى في الخليج وفي العالم العربي من خارج ذلك المعسكر.

الذي حصل لم يكن بمعرفة قيادة «حماس» في الخارج، وإلا لَمَا استقبلت هذا الحدث بنفس الدهشة والاستغراب، وحتى أجرؤ على القول، الصدمة التي استقبلها بها الآخرون من خارج (حماس)، بمن فيهم أنا. هم حاولوا أن يلملموا أنفسهم وألا يبدوا كأنهم في حالة تعارض مع قيادة الداخل، وحاولوا أن يجدوا الذرائع والمبررات بالقول إن هذا قرار القيادة العسكرية في الداخل، وإن القيادة العسكرية مخوّلة بأن تتخذ ما تشاء من قرارات، وأين أنتم كقيادة سياسية؟ تكتموا على هذا الموضوع حتى اليوم.

لا أريد أن أنتقص من دورٍ للخارج ولا للداخل في (حماس)، ومن مسؤولية الخارج والداخل عن هذا العمل الذي قاد إلى استغلال إسرائيلي من أجل توسيع نطاقه ومن أجل القيام بحملة مدمِّرة شرسة عنصرية مثل الحملة التي نشهدها الآن. أظن أن إسرائيل كانت تتمنى أن تتوافر ظروف من هذا النوع، وربما أقل حدة من نتائج (طوفان الأقصى) في يومه الأول، لكنها سرعان ما لملمت نفسها وعرفت كيف توجه الضربة المقابلة وأن تستغل ما حدث.

مقاتلون فلسطينيون يتحركون من خان يونس باتجاه إسرائيل في 7 أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

أنا أجزم بأن قوى الخارج بما فيها (حزب الله) فوجئت بانطلاق العملية. ردود الفعل ومحاولات التنصل الضمني مما حدث وقعت منذ اليوم الأول، في أقوال القيادات الإيرانية وقيادات (حزب الله) ومختلف التيارات. إذا كانت قيادة (حماس) نفسها لم تكن على علم، فكيف ستكون هذه الأطراف الأخرى على علم؟

أنا أظن أن القرار ذاتيٌّ من قيادة (حماس) في داخل غزة. وكما قلت، اعتقدتْ (هذه القيادة) أنها يمكن أن تقوم بعمل محدود نسبياً، ليس بالحجم الذي وقع، وأنّ رد الفعل الإسرائيلي أيضاً سيكون محدوداً نسبياً، أي بحجم، على الأقل، المعارك السابقة في 2014 و2018 وما قبلها، لكن أيضاً هم فوجئوا بحجم الإنجاز الذي تحقق لهم وسارعوا إلى محاولة استثمار هذا بعد أن وقع وأصبحت في يدهم أسلحة ثمينة من أسرى، مما أحدث هزة عميقة داخل إسرائيل».

ضرورة تجديد السلطة الفلسطينية

أريد الإشارة إلى استخلاص وحيد وقصير بالنسبة إلى معركة غزة اليوم. كلنا يعرف الواقع الإقليمي، وأنا لا أريد أن أدخل لا في التعليق ولا في إلقاء المواعظ والمطالب غير العقلانية مرة أخرى والنابعة من الشكوى ليس من حسابات القوى وموازينها، ولا الوضع الدولي. هناك فرص متاحة. الحركة الوطنية الفلسطينية مطالَبة الآن بأن تعيد تنظيم صفوفها ووضع أولوياتها السياسية من جديد، بما فيها حركة «حماس» وبقية القوى طبعاً.

ما أقصده أيضاً هنا، وبشكل أكثر صراحةً، أنه ينبغي ألا نستهين بالقول الذي أصبح متداولاً دولياً إن هناك حاجة إلى سلطة فلسطينية مجدّدة. ربما البعض ينظر إلى هذا المطلب الدولي كأنه نوع من الذريعة التي يستخدمها بعض القوى دولياً، خصوصاً الولايات المتحدة، للتنصل من القيام بما يتوجب عليها من إطلاق عملية سياسية تجعل هذه المأساة الواقعة في غزة اليوم، ليست فقط مأساة، وإنما فرصة للوصول إلى حل سياسي يشكّل الخاتمة في ما يتصل بالصراع العربي- الإسرائيلي.

ربما هو ذلك. لكن، لو كانت هناك قيادة وطنية فلسطينية موحدة، بمشاركة كل الأطراف بما فيها «حماس»، ألم يكن من الممكن تدارك ما حصل أو القيام بدور، ربما، يوفر ضمانة أكثر لمصالح الشعب الفلسطيني من الطريقة التي وقعت فيها أو انطلقت فيها هذه الأحداث الأخيرة من 7 أكتوبر حتى الآن؟ ألم يكن من الممكن أن نستخدم كل القوى المتوفرة في يدنا، وليست قوة غزة فقط أو قوى وإمكانات متناثرة هنا أو هناك في الضفة الغربية، أنْ نستخدم قوى وطاقات الشعب الفلسطيني كله بطريقة أكثر عقلانية أو أكثر فاعلية من الذي حصل حتى اليوم؟

ياسر عبد ربه خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط»

نحن أهملنا، وبعضنا متعمِّدٌ أحياناً، عدداً من الفرص التي توافرت لإعادة تجميع القوى الفلسطينية في الإطار الوطني الواحد، وبالتالي السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، بحيث لا ينفرد به طرف ويفاجئ الأطراف الأخرى. كم مرة دَعَوْنا إلى حوارات ووصلنا إلى نتائج؟ في السعودية، في مصر، حتى مؤخراً في الجزائر... إلخ. موسكو احتضنت حوارات في ما بيننا، ومشينا بعد انتهاء كل لقاء في اتجاهات أعادت الصراع والتناقض الثانوي الداخلي بيننا وجعلته هو الرئيسي.

أنا أظن أنه يجب أن تكون هناك الآن محاولة جدية لإعادة تجميع الصف الوطني الفلسطيني لتكريس وجود قيادة وطنية فلسطينية موحدة ومسؤولة تضم الجميع. وإضافةً إلى ذلك، يجب أن يعاد أيضاً إنتاج قيادة للسلطة الوطنية تستطيع أن تتعامل مع الظرف الحالي ومع النوافذ المفتوحة مهما كانت ضيقة التي يتيحها الكلام وتتيحها المواقف الدولية الحالية».

فرص إصلاح السلطة و«حماس»

هل السلطة قابلة للإصلاح؟ هل منظمة التحرير قابلة للإصلاح؟ هل «حماس» قابلة للتغيير؟ يظن عبد ربه أن كل هذا ممكن. «أي إن (حماس) قابلة للتغيير، ويجب أن تُغيّر وألا تحكم على نفسها بمصير مأساوي أيضاً. (حماس) الآن تَلقى احتضاناً واسعاً من الفلسطينيين في كل مكان، ومن جمهور واسع في المنطقة العربية، وحتى على الصعيد الدولي. هناك مَن يبرر لها ما حدث بالقول إن الصراع لم يبدأ في 7 أكتوبر، والصراع مسؤول عنه العالم الذي احتضن (أوسلو) في البداية ثم تدريجياً تخلى عن الأهداف التي وُضعت أو وُقِّعت من أجلها اتفاقية أوسلو، بما فيها التسليم بالأمر الواقع الذي أعاد إنتاج الاحتلال الإسرائيلي بصيغ أكثر تشدداً وتطرفاً من ناحية التوسع الاستيطاني لإعادة رسم خريطة الضفة الغربية بحيث يستحيل الوصول إلى قيام دولة فلسطينية.

(حماس) تستطيع، و(فتح) تستطيع، ولكنّ هذا يحتاج إلى قرار حقيقي من الطرفين لإعادة مراجعة لكل السلوك السياسي الذي اتخذاه. نحن في حاجة إلى حكومة تشكل نوعاً من التوافق الوطني، ليس حكومة هذا الفصيل أو ذاك الفصيل. لا حكومة غزة (الحمساوية)، ولا حكومة الضفة (الفتحاوية)، بل حكومة توافق وطني تقبل بها كل الأطراف ويقبل بها بالأساس الشارع الوطني الفلسطيني ويثق العالم العربي والدولي بأن مثل هذه الحكومة ستكون قادرة على أن تسير بالوضع الفلسطيني بجدية نحو تحقيق حل منشود وهو الدولة الفلسطينية المستقلة».

صلاحيات الرئيس و«القرار الصحيح»

الرئيس ياسر عرفات لم يتقبل محاولات الحد من صلاحياته، وكنت في خضمّ هذه التجربة. هل يتقبل الرئيس محمود عباس الحد من صلاحياته؟ أجاب: «ليس مطلوباً الحد من صلاحيات أحد، بمن فيهم الرئيس محمود عباس. الرئيس محمود عباس يستطيع من أجل أن يمارس صلاحياته الفعلية أن يبادر إلى تشكيل، أو الدعوة لتشكيل، حكومة توافق وطني (أُجري اللقاء قبل استقالة الحكومة الفلسطينية)، وأن يطلق حواراً سريعاً ومن دون تعقيدات شهدناها في كل أشكال الحوارات السابقة التي وصلت إلى طريق مسدودة. نحن نريد حكومة تستطيع أن تتحدث باسم الفلسطينيين بدعمٍ من كل الفلسطينيين بمن فيهم قواهم المنظمة؛ «فتح» و«حماس»... إلخ.

عباس وعبد ربه خلال زيارة لمعبر رفح عام 2005 (غيتي)

هو يستطيع أن يخرج من إطار الحسابات الضيقة، وأن يحافظ على موقعه ودوره. ولكن يجب أن يأخذ القرار أولاً. لأن ياسر عرفات لم يأخذ القرار المناسب في اللحظة التي كان فيها يحتاج إلى أخذ ذلك القرار. في خضمّ الانتفاضة الثانية الفلسطينية، كان ينبغي وبكل جرأة أن يرفع ياسر عرفات صوته ضد العمليات المسلحة التي كانت تستهدف المدنيين والتي كان الاحتلال الإسرائيلي يستثمرها إلى الحد الأقصى من أجل تبرير تدمير كل قوى وطاقات السلطة الفلسطينية، بما فيها تدمير اتفاقات أوسلو نفسها.

الاستيطان مشكلة «أوسلو»

ياسر عرفات في «أوسلو» كان غير مقتنع بالتدرجية، أي سياسة تنفيذ الاتفاق مع الإسرائيليين على مراحل. وكانت عنده خشية حقيقية، وثبت أنها خشية مشروعة، من أن الإسرائيليين يمكن أن يتوقفوا عند المرحلة الأولى التي احتوتها «اتفاقية أوسلو»، ثم التنصل من إكمال هذه المرحلة نحو المراحل الفعلية التي تتناول القدس وكل الأراضي الفلسطينية والانسحاب منها، وتتناول اللاجئين، وتتناول إزالة الاستيطان عن الأراضي الفلسطينية. كان يخشى ذلك، ولكنه قام بتجربة.

أنت تعرف في مفاوضات أوسلو، حتى لما كدنا نصل إلى اتفاق كان الإسرائيليون يعرضون علينا فقط الانسحاب من غزة وتبقى الضفة الغربية محتلة من الإسرائيليين للمرحلة الثانية، أي بعد خمس سنوات. ياسر عرفات هو الذي تدخل بقوة لكي يقول: أقبل بالانسحاب من غزة، ولكن أريد موطئ قدم أيضاً في الضفة الغربية. ولذلك، وصلنا إلى «اتفاق غزة وأريحا»، هذا كان بفضل ياسر عرفات وتدخلاته وليس بفضل المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين الذين توصلوا إلى النسخة الأولى من «اتفاق أوسلو».

عرفات وإلى يساره ياسر عبد ربه عام 1993 (غيتي)

بعد أن قبلت إسرائيل بصيغة «غزة وأريحا»، ويمكن قبلها، كانوا يفكرون بأن جزءاً من منطقة جنين مثلاً يمكن أن يحيلوه إلى السلطة لتكون مسؤولة عنه أو غيرها من المناطق، ثم رسا الأمر على منطقة أريحا بمبادرة إسرائيلية. ربما لأنهم اعتقدوا أن هذه المنطقة هي المنطقة التي لا تحتوي على كثافة استيطانية نسبية في ذلك الوقت، ولأنها هامشية بالقياس إلى المناطق الأخرى سكانياً وجغرافياً في بقية الضفة الغربية، لكنَّ مشكلة ياسر عرفات كمشكلة الذين اشتركوا في «عملية أوسلو»، وأنا منهم، ومن دون أن أزيّن دوري بهذه الدرجة أو تلك، أنهم لم ينظروا إلى خطر الاستيطان الإسرائيلي النظرة التي يستحقها والتي يتطلبها في ذاك الوقت.

كان هناك مَن يعتقد أنه بمجرد قيام السلطة الفلسطينية في غزة وفي أريحا، سيدرك المستوطنون أنفسهم أن هذه بداية المسار وعليهم أن يهيِّئوا أنفسهم للرحيل، وأن يعودوا من حيث جاءوا. هذا على أرض الواقع لم يحصل، الذي حصل عكس ذلك. على امتداد السنوات، تمدد الاستيطان أكثر فأكثر. فلم يكن هناك تقدير حقيقي ناتج عن إدراك واقعي لحجم الاستيطان، لانتشاره في الأراضي الفلسطينية، ولمعرفة حتى ثقافية بالفكر الصهيوني الذي إذا تخلى عن الاستيطان تخلى عن عمادٍ رئيسي في المشروع الصهيوني منذ بدايته.

مطبخ «أوسلو» الفلسطيني

مَن كان أفراد مطبخ «أوسلو»، وهل كانت لمحسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي»، علاقة به؟ قال: «ياسر عرفات ومحمود عباس وأحمد قريع وشخصي المتواضع وحسن عصفور، الذي كان مشاركاً مع قريع في مفاوضات أوسلو المباشرة. القرار كان يُتخذ هناك، ولكن الكلمة الأخيرة في القرار كانت لياسر عرفات. محسن إبراهيم كان على علاقة، وكان يتم إطلاعه أولاً بأول على تطور المفاوضات، لكن طبعاً كان محسن على درجة من الذكاء لكي ينأى بنفسه عن الدخول في صميم الحوار الفلسطيني الداخلي، أي الدخول في مناقشة القرار الفلسطيني الختامي والنهائي.

كان محسن يقدم ملاحظات ونصائح وتساؤلات، وكلها كانت ذات قيمة، ولكن لم يكن يقول إن عليكم أن تقبلوا أو لا تقبلوا بهذا البند الذي توصلتم إليه. كان ينأى بنفسه، إدراكاً منه كشخص لامع الذكاء، بأنه مهما بلغت معرفته بتفاصيل وتعقيدات الوضع الفلسطيني ليس من الناحية السياسية حتى من الناحية الجغرافية والديموغرافية والوضع القائم على الأرض في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، لم يكن على إلمام كافٍ، فبالتالي لا يستطيع مَن هو في هذا الوضع أن يُدلي بدلوه في أن تقبل بهذا الشرط الإسرائيلي أو لا تقبل به».

وهل كان محمود درويش، الشاعر الكبير، على اطّلاع على «أوسلو»؟ يجيب: «أنا كنت شخصياً أُطلعه عليه، ومحمود كان حذراً منذ البداية. تحذيراته كانت تحذيرات عامة؛ أنه عليكم أن تحاولوا عدم الوقوع في الأفخاخ الإسرائيلية أولاً، وأن تحصلوا على التزامات محددة ودقيقة في ما يتعلق بالمواضيع الرئيسية: القدس، والانسحاب التام، والاستيطان، وطبعاً قضية اللاجئين. محمود يعرف ماذا يعني الاستيطان، بشكل أكثر دقة وأكثر واقعية من الآخرين.

أستطيع أن أقول وبناءً على خبرة مباشرة، إنني كانت لديَّ معرفة كافية للتحذير من خطر النظر إلى الاستيطان بشكل هامشي، وأن نتائج وجودنا ووضع أقدامنا مرة أخرى على جزء من أرض وطننا سوى تجعل الاستيطان ينعطف نحو الخلف ويزول من تلقاء نفسه بالتدريج. لم أكن من ذلك التيار، كنت أحذّر، لكن لم يكن تحذيري بالحدة الضرورية، ليس حدة الصوت بل حدة الموقف.

من ناحية أخرى، ياسر عرفات لم يكن يعرف الواقع الحقيقي للاستيطان ووجود المستوطنات، وآخرون كذلك، وأجزم بأنه حتى أبو مازن (الرئيس عباس)، لم يكن يعرف. كانت لديهم انطباعات أكثر من معرفة حقيقية، انطباعات مثل أن هذا وجود مؤقت وليس وجوداً راسخاً له طابع الديمومة على الأرض.

في مرات كثيرة، كثيرٌ من الناس في المنطقة العربية، حتى قادة، كانوا يعتقدون أن المستوطنات هي كرفانات متنقلة يمكن في لحظة إخراجها وسحبها كما جيء بها.

صدمة عرفات من المستوطنات

بعد عام 1996 عندما تمددت السلطة، «غزة وأريحا» ثم تلاها التمدد في أخذ السلطة المدنية والأمنية داخل المدن الرئيسية في الضفة الغربية، وهذا ما سُمي وقتها «اتفاقية إعادة الانتشار للقوات الإسرائيلية خارج المدن»، خارج «منطقة أ»، وتقسيم الضفة إلى ثلاث مناطق: «منطقة أ»، حيث للسلطة سيطرة كاملة، و«منطقة ب» حيث للسلطة سيطرة مدنية، و«منطقة ج» تبقى فيها لإسرائيل السيطرة المدنية والأمنية على مساحة تعادل 60 في المائة من أراضي الضفة. المهم، بعد أن حصل هذا، وكان حديثاً توصّلنا إلى انسحاب إسرائيلي من رام الله.

جاء عرفات إلى رام الله، وكان في حاجة إلى السفر إلى الأردن. وكانت الأجواء فيها ضباب ومُنعت المروحية من نقله من رام الله إلى عمان، فأردنا أن نأخذ طريق البر الذي يقود من رام الله إلى ضواحي القدس تقريباً، مروراً إلى الأغوار فأريحا ثم الانتقال إلى الأردن. كنت مع عرفات في السيارة وحدنا. نزلنا من رام الله عبر ضواحي القدس. أنا كنت قبل ذلك، حتى قبل أن ينسحب الإسرائيليون، قد تجولت في الضفة الغربية كلها، منطقةً منطقةً، لأتعرف على بلدي وعلى تضاريسه وعلى واقع الاستيطان في ذلك البلد، وربما بادرت منذ اللحظة الأولى لتشكيل مؤتمر وطني لمقاومة الاستيطان، ونحن ما زلنا في أريحا ولم نصل إلى بقية المدن.

في الطريق راح ياسر عرفات يسألني: «إيه ده؟» فأقول له: هذه مستوطنات. يُدهَش: «دي مستوطنات؟». مستوطنات بمعنى بلدات، وبنية تحتية حتى أكثر تقدماً من البنية التحتية للقرى الفلسطينية، وبلدات منتشرة وواسعة وفيها كل مقومات الحياة المدنية على الأرض. كل كيلومتر يسأل وأقول له: هذه مستوطنة. صمت ياسر عرفات وأُصيب بما يشبه الصدمة، ليست العاطفية، بل السياسية، لأنه تعرَّف على واقع الاستيطان أفضل مما تعرف عليه في غزة. في غزة كانت مستوطنات صغيرة، بؤراً محاطة ومطوَّرة بوجود بشري وجغرافي فلسطيني، فكان هذا الوجود هشاً لا يعمّر كثيراً، بعكس الواقع الذي كان قائماً في الضفة الغربية.

«استخفاف» عباس بالاستيطان

مرة كنت أنا وأبو مازن في الطريق إلى إسرائيل لإجراء لقاء في السفارة المصرية مع عدد من الإسرائيليين بحضور ومشاركة السفير المصري حينها. في هرتسيليا، محل إقامة السفير المصري، وليس في السفارة بتل أبيب. كان هذا في نهاية التسعينات.

وفي الطريق، هناك أرض حرام بين الضفة الغربية وإسرائيل. كانت منطقة حراماً، أي منطقة فاصلة. الإسرائيليون دخلوا إلى هذه المنطقة وبدأوا ببناء مستوطنات جديدة. أشرت لأبو مازن وقلت له: هؤلاء الذين يتحدثون عن التسوية، هذه المنطقة الحرام الفاصلة التي يجب أن تعود لنا أو على الأقل نتقاسمها، بدأوا ببناء مستوطنة عليها. أبو مازن نظر إليَّ وقال: «مش مشكلة. هذا كله سيعود إلينا. كله سنستعيده».

كانت نظرته إلى الاستيطان فيها درجة عالية من الاستخفاف، وأظن أنه حتى بعد أن أصبح رئيساً كانت نظرته ذاتها إلى الاستيطان أنه هذا كله سيزول، وقابل لاستعادته ولا يشكل خطراً كبيراً كما يتصور البعض الآخر، سواء منظمات أهلية فلسطينية أو شخصيات فلسطينية أو قيادات... إلخ.

عرفات وشخصنة حلم الدولة

سألت عبد ربه: هل تعتقد أن ياسر عرفات أراد أن يدخل التاريخ بصفته مَن استعاد قسماً من الأراضي الفلسطينية وبعدما تعب من حروب العواصم ومن الوضع العربي والوضع الدولي، وأنه يريد قبراً في الأراضي الفلسطينية؟ فردَّ بأن «ياسر عرفات كان طبعاً يريد أن يكرَّس أولَّ فلسطيني أنشأ للفلسطينيين أو قاد الفلسطينيين نحو إنشاء دولة مستقلة. وهذا الحلم لم يفارقه.

أحياناً كثيرة، بعض القادة يصبحون مسكونين بفكرة معينة، ويتماهون بين شخصهم وبين الفكرة. بين شخصهم والحقوق الوطنية أو السياسية لشعب بأكمله. كان لديه حلم شبيه بما حلم به نيلسون مانديلا وربما غاندي وغيرهما. ياسر عرفات كان يريد أن يكون هذا البطل الذي يَرسخ في ضمير الشعب الفلسطيني لأجيال. ذكراه وإنجازاته تَرسخ للأجيال القادمة.

مصافحة بين عرفات وإسحق رابين في حديقة البيت الأبيض برعاية بيل كلينتون (أ.ف.ب)

مشكلة ياسر عرفات أنه كان يعطي الأولوية لسيطرة السلطة على المواقع التي فيها تجمعات رئيسية للشعب الفلسطيني. سيطرة السلطة على الشعب، على الناس، وليس بالمعنى السيئ للسيطرة، بل بالمعنى السيادي، بمعنى أن يكون هو الممثل لهذا الشعب، ويستهين إلى حد غير قليل بموضوع الأرض، كأنَّ الأرض ستعود من تلقاء ذاتها عندما تصبح هناك سلطة لها مؤسسات لها هيئات مختلفة؛ لها حكومة ولها تمثيل، وأيضاً يخضع لها كل الشعب الفلسطيني. وهذا الشعب يختار ممثليه لهذه السلطة عبر الانتخابات.

أُريد هنا أن أعطي نموذجاً لذلك؛ في المرحلة التي كنا نتفاوض فيها بعد عودة السلطة إلى أرض الوطن وبدء التفاوض على اتفاق ما سُميت إعادة الانتشار والسيطرة الفلسطينية على المدن الرئيسية في الضفة الغربية سيطرة كاملة، كانت هناك لقاءات مستمرة، سواء في طابا المصرية أو أحياناً في بعض الأماكن مثل غزة، محيط غزة، وأحياناً كثيرة في رام الله وفي داخل بعض المناطق الفلسطينية، تجمع ياسر عرفات وشمعون بيريز الذي كان مكلفاً بدرجة رئيسية، وقبلها في حياة إسحاق رابين كانت تجمعه برابين.

عندما توصلنا إلى اتفاق حول انتشار السلطة في كل المدن، كان هناك لقاء مع بيريز. في هذا اللقاء، أنا كنت أجلس إلى جانب عرفات، قال له بيريز بكل صراحة وقحة: نحن لا نستطيع إكمال إعادة الانتشار في الضفة الغربية لأن هناك بعض المستوطنات المعزولة التي لم يُبتّ بمصيرها لأن هذا له علاقة بمفاوضات حول الوضع النهائي. هناك مستوطنات معزولة يجب أن تجد سبيلها للصلة بإسرائيل من دون المرور بمناطق مأهولة فلسطينية. وقال: كلها مجرد خمس طرق.

أنا كنت أجلس إلى جانب ياسر عرفات الذي كان بين خيار أن يستمر الانسحاب من بقية المدن أو أن يوافق. همستُ له وكتبت: لا تقبل يا أبو عمار. لا تقبل. لأنه أصبح ليس إحساساً بل معرفة، بأن الطرق الخمس يمكن أن تصبح خمسين طريقاً. والطريقة الإسرائيلية في التفاوض هي: يسهِّل ما يريده منك ويعقِّد ما تريده منه، حتى لو كان هناك ألف توقيع، وألف التزام، ومحدَّد بالتفصيل وبدقة. وهذا ما حصل. ياسر عرفات فكَّر قليلاً، على الأقل، كنت أتوقع أنه سيرفع الاجتماع، ثم قال له بالإنجليزية: take it (خُذها). شمعون بيريز فهم الدرس. يمكن أن تساوم ياسر عرفات على توسيع سلطته ونفوذه في الضفة الغربية مقابل أن تحصل على مكاسب بالنسبة للمستوطنات وأن يقبل بها من دون أن يثار حولها أي ضجيج».

غداً حلقة ثانية

حقائق

من هو ياسر عبد ربه؟

ولد ياسر عبد ربه في يافا في 1945. هاجرت عائلته بعد النكبة إلى لبنان. كان في سن الخامسة عشرة حين نجح السياسي اليساري اللبناني محسن إبراهيم في إقناعه بالانضمام إلى «حركة القوميين العرب». تابع في الجامعة الأميركية في القاهرة دراسته في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية.

في 1968 كان إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد في تأسيس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». وشارك في السنة التالية في تأسيس «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» وهو كان الرجل الثاني فيها بعد حواتمة. غادر الجبهة عام 1990 وأسس حزب «فدا»، قبل أن يتخلى عن قيادته ويعمل مستقلاً منذ 2004.

كان لقاؤه الأول مع ياسر عرفات في 1968 إبان «معركة الكرامة» حين تصدت المنظات الفلسطينية الناشئة بدعم من مدفعية الجيش الأردني لقوات إسرائيلية هاجمت بلدة الكرامة الحدودية. ربطته لاحقاً بعرفات علاقة ثقة وطيدة مكنته من لعب دور بارز في الحوار بين أميركا ومنظمة التحرير الفلسطينية.

ترأس عبد ربه الجانب الفلسطيني في أول حوار مع الولايات المتحدة عام 1989، وكان شريكاً فاعلاً في ما عُرف بـ«مطبخ اتفاق أوسلو». وتولى بعد ذهاب القيادة الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة مناصب وزارية. وشارك في معظم لقاءات عرفات مع كبار المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين.

تولى بين 2005 و2015 منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وأخرج من منصبه في ختام تلك الفترة بعد خلافات علنية مع الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس. أتاح له دوره في منظمة التحرير المشاركة في لقاءات رفيعة مع زعماء من العالم العربي وخارجه. وربطته علاقة مودة عميقة مع الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.

متزوج من الروائية ليانة بدر، وله ولدان.


مقالات ذات صلة

إسرائيل ليست عضواً في «الجنائية الدولية»... كيف تلاحق المحكمة نتنياهو وغالانت؟

شؤون إقليمية بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت (أ.ب)

إسرائيل ليست عضواً في «الجنائية الدولية»... كيف تلاحق المحكمة نتنياهو وغالانت؟

ما يجب أن نعرفه عن النطاق القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تسعى إلى اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو؛ ووزير دفاعه السابق، يوآف غالانت.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شؤون إقليمية صور للمحتجَزين لدى «حماس» (رويترز)

تقرير: إسرائيل لا ترى إمكانية التفاوض مع «حماس» إلا بعد الاتفاق مع «حزب الله»

التفاوض بشأن الرهائن الإسرائيليين تقلَّص منذ تعيين يسرائيل كاتس وزيراً للدفاع.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
شؤون إقليمية المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا (الموقع الرسمي للمحكمة) play-circle 02:06

ما حيثيات اتهامات «الجنائية الدولية» لنتنياهو وغالانت والضيف؟

مع إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت والقيادي في «حماس» محمد الضيف، إليكم أبرز ما جاء في نص المذكرات.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)
شؤون إقليمية عناصر من حركتي «حماس» و«الجهاد» يسلمون رهائن إسرائيليين للصليب الأحمر في نوفمبر 2023 (د.ب.أ)

انتقادات من الجيش لنتنياهو: عرقلة الاتفاق مع «حماس» سيقويها

حذر عسكريون إسرائيليون، في تسريبات لوسائل إعلام عبرية، من أن عرقلة نتنياهو لصفقة تبادل أسرى، تؤدي إلى تقوية حركة «حماس»، وتمنع الجيش من إتمام مهماته القتالية.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي «كتائب القسام» تعلن أن مقاتليها تمكنوا من قتل 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك ببلدة بيت لاهيا (رويترز)

«كتائب القسام» تقول إنها قتلت 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك بشمال قطاع غزة

أعلنت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، الخميس، أن مقاتليها تمكّنوا من قتل 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك ببلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)

جمال مصطفى: عرفنا في المعتقل بإعدام الرئيس ونقل جثته للتشفي

TT

جمال مصطفى: عرفنا في المعتقل بإعدام الرئيس ونقل جثته للتشفي

عائلة صدام وتبدو حلا إلى يساره (أ.ف.ب)
عائلة صدام وتبدو حلا إلى يساره (أ.ف.ب)

ليس بسيطاً أن تكون صهر الرئيس صدام حسين، وسكرتيره الثاني، وابن عشيرته، وموفده إلى العشائر، وأن تذهب لإحضار العشائر للدفاع عن بغداد، وأن تكتشف لدى عودتك أنها احتُلّت، وأن الأميركيين أدرجوا صورتك مع لائحة كبار المطلوبين على ورق اللعب، وأن تلجأ إلى سوريا فتمتنع عن استقبالك، وأن تعود وتغري الدولارات رجلاً بالوشاية، فتجد نفسك في المعتقل.

ليس بسيطاً أن تقيم في زنزانة انفرادية منقطعاً عن العالم والكاميرا تحصي حركاتك وآلة التسجيل تعد أنفاسك لالتقاط أي كلمة، وأن تُتهم رغم عزلتك بأنك تقود المقاومة وترسل سيارات مفخخة، وأن تعرف في المعتقل نبأ يوجعك وهو وقوع «قائد المقاومة» صدام حسين في أيدي القوات الأميركية، وأن تلمحه في المعتقل، وأن تُستدعى ذات يوم إلى محاكمة الدجيل فتجد في قفص الاتهام من كان سيّد البلاد والمصائر، وأن تكتشف لاحقاً أن «السيد الرئيس» أُعدم فجر يوم العيد، وأن جثته طُرحت أمام منزل رئيس الوزراء نوري المالكي الذي كان يحتفل بزفاف ابنه، وأن تشارك في صلاة الغائب مع أعضاء القيادة طه ياسين رمضان وخالك علي حسن المجيد «الذي سُمي ظلماً الكيماوي» وبرزان التكريتي وعبد حمود، وأن تستوقفك مشاركة طارق عزيز المسيحي في تأدية صلاة الغائب.

وليس بسيطاً أن يبلغك القاضي سراً في 2011 أن لا مبرر لمحاكمتك، وأنه قادر على إطلاق سراحك مقابل مبلغ نقدي محترم بالعملة الخضراء، وأن تعرض على القاضي أن يتولى بيع قطعة أرض ورثتها عن جدك الرابع لأنك لا تملك الدولارات التي يحلم بها، وأن يرفض القاضي العرض فتترك في السجن فترة إضافية تقترب من العقد ثم يفرج عنك بسبب نقص الأدلة.

عائلة صدام وتبدو حلا إلى يساره (أ.ف.ب)

قبل أسابيع، شاهدت صورة قديمة للرئيس الراحل صدام حسين مع كامل العائلة. كان في الصورة صدام وزوجته ساجدة ونجلاه عدي وقصي وبناته رغد وزوجها حسين كامل المجيد، ورنا وزوجها شقيقه صدام كامل المجيد، وحلا وزوجها جمال مصطفى السلطان. ضرب الزلزال الصورة الجامعة. قُتل خمسة من الرجال الستة الذين ظهروا في الصورة. أعدم صدام، وقُتل عدي وقصي ومصطفى نجل الأخير على أيدي الأميركيين، وقُتل حسين كامل وصدام كامل على يد أبناء العشيرة عقاباً لهم على الانشقاق عن النظام. لم يبق من رجال العائلة إلا واحد هو الدكتور جمال مصطفى السلطان.

ولد جمال في تكريت 4 مايو (أيار) 1964. التحق الشاب بجهاز حماية الرئيس الذي شجعه على متابعة دراسته بموازاة عمله. وهكذا حصل على إجازة جامعية تبعتها دكتوراه في العلوم السياسية. لعب دوراً كبيراً في تشجيع الرياضة وربطته علاقات واسعة بالرياضيين. وأوكل إليه ملف العشائر فنسج علاقات واسعة معها. وكان دائماً موضع ثقة الرئيس وكان يشارك في جلسات مجلس الوزراء. اعتُقل في العشرين من أبريل (نيسان) 2003 وأُفرج عنه من سجن الحوت في الناصرية في 17 يونيو (حزيران) 2021. توجّه من بغداد إلى أربيل حيث التقى الزعيم الكردي مسعود بارزاني ثم غادر للإقامة في الدوحة مع زوجته والسيدة ساجدة أرملة الرئيس العراقي الراحل.

جمال مصطفى السلطان مع رئيس التحرير غسان شربل خلال المقابلة

استوقفني ابتعاد الرجل عن الإعلام فاتصلت به وقرر الخروج عن صمته. سألته عن قصته وطال اللقاء. وعلى العادة العشائرية رفض أن نغادر من دون غداء متأخر كان الطبق الرئيسي فيه «الهبيط» الذي كان صدام حسين يعده شخصياً في اللقاءات العائلية ومع الأصدقاء المقربين.

بعد مغادرتي تذكرت ما سمعته من القاضي عبد الرؤوف رشيد الذي أصدر حكم الإعدام بحق صدام حسين في قضية الدجيل. وكان جمال السلطان برفقة صدام في تلك الزيارة التي تعرض خلالها لمحاولة اغتيال. قال القاضي بعد اختتام الحوار معه: «للأسف نحن تصرفنا بمنطق القانون والعدالة. لكن بعض المعنيين أعطوا المسألة طابع الثأر والشماتة حين اختاروا يوم العيد لتنفيذ حكم الإعدام وأساءوا التصرف بجثة صدام. هذه الممارسات - عملياً - هدية لجمهور صدام إذ يمكن أن تبقي ذكره حياً لفترة طويلة».

الرئيس صدام حسين وبجانبه جمال مصطفى السلطان

سألت جمال مصطفى السلطان عن اتصالاته في المعتقل مع الرئيس السجين، وتركته يروي قصة الاتصال الأول الذي «كان من خلال بعض المعتقلين الذين كانوا معه في المحكمة، محكمة الدجيل»، أحدهم رئيس محكمة الثورة عواد البندر الذي نُفذ فيه حكم الإعدام أيضاً.

ويقول: «كان الرجل (البندر) ينقل لي بعض الكلام عن السيد الرئيس، إذ كان يذهب إلى محكمة الدجيل، وكانت علاقتي به جيدة ونجلس معاً ونتحدث، وأبو بدر في الحقيقة طيب وشجاع وإنسان لديه تفاؤل، التنفيذ (الإعدام) ربما بعد ساعة لكن هو يتحدث معك ويقول لك: لا تُقلق نفسك، ولا تهتم، وهذا الموضوع لن يحصل. يعطيك طمأنينة ويريحك. كنت أتواصل من خلال عواد البندر، كلام يأتي ويذهب.

وهكذا كنا نتبادل السلام والكلام وغيرهما. بعدها كان سلطان هاشم، وزير الدفاع العراقي، الله يرحمه ويغفر له، وحسين رشيد، الله يفرج عنه، فريق أول ركن أمين سر القيادة العامة للقوات العراقية، وهو لا يزال في المعتقل وتجاوز عمره 85 سنة... كان حسين رشيد وسلطان هاشم، الله يرحمه، أُرسل معهما كلاماً ويأتي كلام من خلالهما، رسائل شفهية، إضافة إلى أنني كنت أرسل كتباً للسيد الرئيس.

جمال مصطفى السلطان على أوراق اللعب التي أصدرها الجيش الأميركي لقادة النظام المطلوبين

كتب متنوعة، خصوصاً التاريخية التي كانت عندي في المعتقل، إضافة إلى أنه كان يأتيني منه بعض السيجار الذي يحمل توقيعه. يوقّع على السيجار ويرسله لي لأتأكد أن الكلام وصل وما زلت أحتفظ بعدد من السيجار المرسل منه.

سيجار كوبي موقّع عليه بيده داخل المعتقل. وكنت أبعث السيجار إلى أسرتي مع المحامي الأستاذ بديع عارف، الله يرحمه، وكان يستغرب كيف وصلت هذه الرسائل وهذا السيجار فأقول له: أستاذ هذا الموضوع دعه بيننا الآن ولا تتحدث به ودعنا سائرين لأنني إذا قلت لك عن السبيل ربما يضيع السبيل علينا. دعنا نتبادل الرسائل والحاجات.

تسألني عن معنويات الرئيس في المعتقل. نحن نعرف السيد الرئيس، الله يرحمه، بشكل دقيق، والعراقيون والعرب والمسلمون أيضاً يعرفونه. يعرفون أنه رجل شجاع وثابت ثبات الجبال لا تهزه العواصف ولا تزيله القواصف. ثابت ومعروف عنه هذا الجانب. لذلك، نحن نتحدث عن شجاعته وبطولاته وعقليته وأملنا الكبير به وكنا معولين عليه لتحرير العراق من خلال وجوده خارج السجن، فكان الحديث يدور بشتى الطرق.

وليس سراً أن الرئيس كان يتوقع أن يُعدم. بصورة عامة، كل الذين دخلوا السجن بمن فيهم أنا، لم يغب عن بالنا هذا الموضوع، إذ يمكن إلصاق أي تهمة لتبرير الحكم والإعدام. لم يغب ذلك عن بالي، لأن المحكمة مجرد مسرحية وبنيت وأسست من قبل الأميركيين وبأوامر إيرانية، وتنفذ بأيادي عملاء عراقيين لإرضاء أسيادهم الإيرانيين والأميركيين. فهي أداة للانتقام من النظام السابق».

مع صدام في الدجيل

كان جمال مصطفى إلى جانب صدام حسين حين تعرض لمحاولة اغتيال في الدجيل واستدعي إلى المحكمة، وها هو يتذكر: «موضوع الدجيل تناقلته آنذاك وسائل الإعلام ثم المحكمة لاحقاً. تم الحديث عن الموضوع وبالكثير من التفاصيل. الرجل، الله يرحمه ويغفر له، زار الدجيل مثلما كان يزور أي مدينة أو قرية في العراق. زارهم والتقى المواطنين الذين احتفوا ورحبوا به. تحدث مع المواطنين وكانت بينهم امرأة. نحن عندنا عادة كلما زار السيد الرئيس قرية أو مدينة ذبحوا خروفاً. أتذكّر أن المرأة دمغت السيارة بكفها وأصبح هناك أثر دم على السيارة. نحن في هذه الأثناء نعرف أن هذه يمكن أن تكون إشارة ممكن بحسن نية، ولكن نحن لا نترك الأمور سائبة لحسن النية، فبدّلنا بسيارته، الله يرحمه، سيارة أخرى. عاد الرئيس إلى سيارته ومشينا باتجاه الطائرات للعودة إلى بغداد.

وفيما نحن نسير باتجاه الطائرات تعرّض الموكب لإطلاق نار من البساتين، وكان إطلاق النار كثيفاً وبأسلحة متنوعة. نزل الرئيس في هذه الأثناء من السيارة، وأصيب عدد من السيارات ووقع جرحى. بدأ الرئيس يتمشى مع المواطنين حتى يشيع جواً من الطمأنينة وعدم الخوف. راح يتحدث مع المواطنين ثم رجع إلى السيارة فاستقلها ورجع إلى المكان نفسه الذي ألقى فيه الخطاب للمواطنين والتقاهم وألقى فيهم خطاباً، وبعدما ألقى خطابه رجع وركب الطائرة وعدنا إلى بغداد.

بعد عودتنا ألقي القبض على عدد من الموجودين الذين شاركوا في هذه العملية. وبعد ساعة من هذه المحاولة الفاشلة، أوحى (الرئيس الإيراني الراحل) هاشمي رفسنجاني خلال زيارته إلى سوريا بأنهم هم من حاولوا اغتيال الرئيس العراقي الله يرحمه. أعلنها من دمشق. و(هذا) دليل قاطع على أن إيران وراء العملية، وهم من كانوا يسعون إلى اغتياله. يعرفون أنهم إذا اغتالوا السيد الرئيس يصبح العراق بأيديهم. حوكم المشاركون وأعدموا.

استدعيت إلى المحكمة بعد الاحتلال الأميركي. الحقيقة أول ما دخلت رأيت السيد الرئيس جالساً في المحكمة، فسلّمت عليه وأتذكر بالضبط ما قلته: «السلام عليكم يا أبي وعمي وقائدي العزيز الغالي». بالضبط هذا كان كلامي للسيد الرئيس عندما دخلت وسلّمت عليه. أديت اليمين وبدأت شهادتي.

أتذكر أنني استحضرت أشياء، قلت لهم هي سلسلة انفجارات حصلت في العراق، وهي ليست القضية الأولى في العراق وإنما قضايا كثيرة حدثت من قبل عملاء إيران وسلسلة من الانفجارات التي حصلت في بغداد وقلت لهم عن جامعة المستنصرية وأشياء أخرى. بماذا أجابني القاضي؟ قال لي: نحن لسنا بصدد هذا الموضوع حتى نتحدث عنه لنقول إنها إيران أو لا، أنا بصدد الآن أنك آتٍ لتدافع عن هذا المتهم، فجاوبته: نعم، السيد الرئيس متهم ومجرم منذ زمن بعيد بالنسبة إلى أعداء العراق والأمة ولكنه قائد وابن بار للعراق وللأمة.

تسألني إن كنت عوقبت لأنني صهر الرئيس وجوابي هو نعم. بقائي لمدة 18 سنة ونصف السنة في السجن هذا أحد أسبابه. هم بطريقتهم وفهمهم وحقدهم جاءوا فقط لأغراض الانتقام، لذلك هذا شيء بالنسبة إليهم جريمة، جريمة كبرى. دفعت ثمناً، ولكن هم حاولوا أن ينتقموا مني بهذه الطريقة وأبقوني طوال هذه المدة في السجن. وحقيقة لم تبق تهمة لم يوجهوها لي وبينها أنني أقود المقاومة من داخل المعتقل.

الزنزانة والاتهامات

لفقوا لي تهماً كثيرة. قالوا لكونك صهر صدام حسين وعندك علاقات متميزة مع شيوخ عشائر ورياضيين ومواطنين يمكن إذا طلعت أن تعمل علينا انقلاباً، لذلك يجب أن تكون في السجن ولا تخرج منه، بل يجب أن تموت فيه. هذا الكلام قاله عراقيون. الأميركيون قالوا لن تخرج للأسباب التالية التي ذكرتها لك، لكن العراقيين أضافوا: «يجب أن تموت في السجن لأنهم جاءوا لأغراض الانتقام، وهم لم يبقوا تهمة لم يتهموني بها منها، أنني قائد المقاومة، وقائد (ثوار العشائر) وقائد (جيش عمر) وقائد (جيش أبو بكر) وقائد (جيش محمد)».

أكثر من 10 تهم، يأخذونني إلى المحكمة ثم أدافع عن نفسي بقوة وثبات وشجاعة، وحين تتأكد براءتي يطلقون تهمة أخرى. كانت الهيئة الاستشارية للأمن الوطني مسؤولة عن 3 أجهزة هي المخابرات، والأمن الوطني، والاستخبارات. هذه الأجهزة الثلاثة كانت تراقبني داخل السجن، وتراقب كل خطواتي وكان لديهم عناصر داخل السجن لمراقبتي. هذه الأجهزة كانت تتهمني. مثلاً يتهمني جهاز المخابرات بقضية وعندما تنتهي يبدأ جهاز الأمن الوطني بقضية، ثم يبدأ جهاز الاستخبارات بقضية، وهكذا. عزلوني عن جماعتي - جماعة النظام السابق - لمدة 7 سنوات لكوني صهر صدام حسين والأخطر من بين كل السجناء، عزلة كاملة. لا ألتقي بسجين ولا بأيٍّ كان.

كان طول الزنزانة 3 أمتار ونصف المتر وعرضها 3 أمتار، والمرحاض. ساهم في مساعدتي عدد من الحراس الذين كانوا يحترمونني كثيراً ويقدرونني ويتعاملون معي باحترام كبير لأنهم يعرفونني من خلال عملي في الرياضة وعلاقاتي الواسعة في هذا الوسط. أتذكر في 2018، جاء مدير جديد للسجن اسمه عبد الرحمن، إنسان عراقي أصيل ليست لديه أدران وأحقاد تجاهنا. كان رجلاً مهنياً. زارني وقلت له إن المعتقلين والسجناء في هذا السجن كلهم محكومون بالإعدام. أنا لست معهم ومعزول عنهم ولا ألتقيهم، ولكن في هذا السجن الذي تعدونه مهماً جداً لكم وتعدونه رقمَ واحد تضعون فيه كل المحكومين بالإعدام. كلهم محكومون بالإعدام ورغم ذلك تعطونهم تليفونات وتسمحون لهم بالتواصل مع عوائلهم هاتفياً وتصل إليهم رسائل ولديهم مواجهات مع عوائلهم وكذلك لديهم محامون يلتقون بهم، بينما أنا لا أحصل على أي شيء من هذا.

قلت له: «أنا لا أتحدث عن حقي بصفتي سجيناً. على الأقل لصالحكم لتقولوا نحن نسمح له بأن يبعث رسائل، أنا أريد أن أبعث رسائل من خلالكم إلى أخي. فقال: طبعاً هذا حقك، حق مشروع، ثم بعثت رسائل، اثنتين أو ثلاثاً، من خلاله إلى أخي، ثم بعد فترة، حسبما فهمت، جهاز الاستخبارات الذي يراقب اتهمه بأنه أوصل لي رسائل. كان الأمر قانونياً والرجل لم يخترق القانون. فاعتقلوه ووضعوه في السجن، ثم بدأوا يحققون معه. حاولوا أن يتهموه بأنني أعطيته رشوة وحاولوا اتهامه بأنني أسرّب من خلاله رسائل إلى المقاومة وسعوا إلى تحويله شاهداً ضدي، لكن أراد الله شيئاً آخر فتوفي الرجل في السجن من التعذيب والأذى الذي حصل له. كان كثيرون من العراقيين متفانين في مساعدتي، لأنهم يعرفونني عن قرب ويعرفون أن وجودي كله (في المعتقل) ظلم وافتراء.

تصوّر أنني اتهمت بجريمة قتل في أثناء وجودي في المعتقل. زعموا أنني كلفت شخصاً بإعداد سيارة مفخخة وتفجيرها بالمقدم محمد الموسوي وهو يعمل في الشرطة أو المرور. يعرفون أنني في المعتقل ولكن أعتقد أن الحقد أعماهم. أنا لا أعرف من هو الموسوي ولم يسبق أن سمعت به».

كتمت القيادة دموعها وشاركنا طارق عزيز في صلاة الغائب

سألته عن لقاء آخر مع الرئيس فأجاب: «أنا رأيته مرتين (بعد الاعتقال). وكان ألمي كبيراً عندما رأيته لأن السيد الرئيس بالنسبة لي شيء عظيم، هو قدوتي. وألمي الشديد لأنني وجدته في مكان يحاول فيه بعض العملاء إيذاءه. كان رجلاً كالأسد وثابتاً على مبادئه التي نشأ عليها وناضل وضحّى من أجلها، حقيقة هذا أول لقاء. واللقاء الثاني، مثلما ذكرت لك، كان في قاعة المحكمة.

اللقاء الأول كان في السجن. معنوياته كانت عالية، وهو معروف بشجاعته وثباته أنه رجل لا تلقى إنساناً بمستواه من الشجاعة والثبات والإقدام.

نعم الرئيس تعرض للتعذيب. أعلن في المحكمة أنه تعرض للتعذيب. وأيضاً آخرون من القيادات العراقية تعرضوا للتعذيب مثل الأستاذ طه ياسين رمضان الذي كنت بين فترة وأخرى أتحدث إليه. تعرض للتعذيب. وبعض الإخوان تعرضوا للتعذيب أيضاً. في البداية على يد الأميركيين لأننا كنا لدى الأميركيين ولمدة طويلة حتى 2008 عندما التحق القسم الأول بالعراقيين، ثم القسم الثاني في 2010، ثم القسم الآخر في 2011 و2012. الأستاذ طارق عزيز تعرض أيضاً للتعذيب النفسي».

صدام خلال محاكمته في قضية الدجيل (غيتي)

متى عرفت وأنت في المعتقل أن صدام حسين قد أعدم، وهو عمك ووالد زوجتك ورئيس العراق؟

أجاب: «كنا في قاطع أغلب الموجودين فيه لهم صلة بالرئيس، الله يرحمه. مثلاً كان معي الفريق الركن كمال، أخي، حجي عبد، خالي علي حسن المجيد، ابن عم الرئيس، سبعاوي إبراهيم، إضافة إلى بعض الموجودين من الأقرباء الآخرين، والقياديين طارق عزيز، سلطان هاشم، طه ياسين رمضان، عواد البندر. نحن عادة نشعر بشيء يحصل أو سيحصل. كان لدينا راديو أعطانا إياه الأميركيون نسمع به أخباراً. عندما استيقظنا صباحاً لم نجد الراديو في مكانه. وبالوقت نفسه وجدت أن بين الحراس مترجماً. هذا يعطيك مؤشراً بأن هناك حدثاً ما حاصل.

نعم، المترجم كان جالساً مع الحراس. في الأيام الاعتيادية يوجد الحراس فقط من دون مترجم، ولكن وجود المترجم يعطيك مؤشراً آخر أن هناك حدثاً. ثم غياب الراديو. هذان الأمران يعطيانك مؤشراً. القاطع الذي أمامنا لم يأخذوا منه الراديو. سمعنا بعض الكلام منهم وبعض الانزعاج، سمعنا منهم أن هذا اليوم تم تنفيذ حكم الإعدام واستشهاد السيد الرئيس القائد الله يرحمه. حقيقة، تألمنا كثيراً، وأنا أول الموجودين ورحت أمشي في المكان والمترجم قريب مني والحرس، وقلت التالي: صدام حسين خالد خلود عمر المختار والقادة العرب الكبار، ومن الآن فصاعداً هو رمز وأيقونة للشجاعة والبطولة والتضحية والفداء لكل العراقيين والعرب والمسلمين، وهو خالد خلود كل قادة العرب. المترجم كان يسمع ويترجم لهم لكنه كان رجلاً هادئاً وكان الحراس هادئين ولم يصدر منهم أي شيء. الفريق كمال أيضاً شاطرني الكلام نفسه وراح يتحدث بالروحية نفسها والطريقة نفسها، ثم صلينا صلاة الغائب عليه، رحمه الله.

كلنا حضرنا صلاة الغائب بمن فينا طارق عزيز، وهو رجل مسيحي، لكنه كان من قادة العراق البارزين. كان لدى الجميع شعور عارم بالصدمة. استشهاده كان صدمة لكل العراقيين الوطنيين الشرفاء والعرب والمسلمين وكانت في الوقت نفسه خسارة عظيمة لأنه هو جدار الصد للأعداء. فكان الكل بانياً عليه أملاً، وفي الوقت نفسه كانت خسارة عظيمة. فالكل كان يشعر بهذا الشعور والألم.

حاول الجميع ضبط مشاعرهم أمام الخسارة. ولكن حقيقة، نحن الرجال، نخجل من أن نبكي رغم أنه أمر طبيعي. وعندما يريد أحد أن يقوم بهذا الموضوع يعزل نفسه في جانب ما حتى لا يُشاهد.

لم يكن خالي علي حسن المجيد في تلك اللحظة إلى جانبي لأنه كان في قاطع آخر، لكن هو أيضاً كان محكوماً بالإعدام وكانوا بين فترة وأخرى يأخذونه لتنفيذ الحكم، ولكنني رأيته رجلاً ثابتاً وشجاعاً وكان هو أيضاً يعطيني شيئاً من الاطمئنان. كان يقول نحن كلنا سائرون على هذا الدرب، ولطالما شعرنا بأننا سنستشهد في أي لحظة، ليس الآن بل منذ كنا مناضلين ونقاتل في كل الحروب التي خضناها.

وبصورة عامة كل من شارك في تلك المرحلة نجا من الاستشهاد مرات عدة. ليس مرة ومرتين، مرة نجوا من قنبلة ومرة من رصاص لكننا نجونا بفضل الله سبحانه وتعالى. تعرضنا لمخاطر كثيرة، لذلك الكل يشعر بهذا الأمر، أنه مؤمن والقدر مكتوب. إذا كتب لك الله أن تستشهد فتستشهد».

قبور صدام وعدي وقصي في عهدة رجال موثوقين

سألته عما إذا كان لتوقيت عملية الإعدام وقع خاص وعما تردد عن الجثة والقبر، فأجاب: «مؤكد كان لتاريخ تنفيذ الإعدام وقع خاص وكان القصد إذلال العرب والمسلمين لأن الإعدام نفّذ يوم عيد الأضحى، فكل العرب والمسلمين يتأثرون تأثراً كبيراً لأن المقصود إيذاؤهم نفسياً وإذلالهم. هذا هو الموضوع.

الجثة نقلت في وقتها إلى مكان، حسبما وصلنا من روايات وسمعنا، هو منزل نوري المالكي (رئيس الوزراء السابق)، وهو من التابعين لإيران، وكان عنده حفل زفاف لابنه، حسبما يدّعون. نُقلت إلى المكان للانتقام، وأشير إلى هذه النقطة لأنهم لم يأتوا لخدمة العراق وتقديم شيء للعراق غير الانتقام وتدميره.

بعدها نُقلت الجثة إلى تكريت إلى صلاح الدين، وتحديداً العوجة مسقط رأس الرئيس ودُفن هناك. كان العزاء موجوداً وكان زوّار من كل أنحاء العالم والعراق يزورونه، الله يرحمه، لفترة طويلة. مكان القبر الآن غير معروف ولأسباب معروفة، لأننا نتعامل مع صغار القوم وفي الوقت ذاته أكبر الناس الحاكمين. هدفهم وغايتهم وغرضهم القتل والانتقام. الأمر نفسه بالنسبة إلى قبرَي عدي وقصي. القبور موجودة في عهدة أناس موثوقين مائة في المائة».

أرسلت إلى الرئيس المحتجز الكتب وأرسل لي السيجار مع توقيعه

جمال مصطفى السلطان