سياسة «سوريا أولاً»... «براغماتية» أميركية سمحت باحتلال لبنان

ديفيد هيل عن إميل لحود: لم يشهد لبنان مطلقاً مثل هذا الرئيس المعادي لأميركا... كان الأسد سيّده و«حزب الله» حليفه الوحيد

الخط الأزرق ... الأمم المتحدة تفصل بين لبنان وإسرائيل عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب عام 2000 (أ.ف.ب)
الخط الأزرق ... الأمم المتحدة تفصل بين لبنان وإسرائيل عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب عام 2000 (أ.ف.ب)
TT

سياسة «سوريا أولاً»... «براغماتية» أميركية سمحت باحتلال لبنان

الخط الأزرق ... الأمم المتحدة تفصل بين لبنان وإسرائيل عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب عام 2000 (أ.ف.ب)
الخط الأزرق ... الأمم المتحدة تفصل بين لبنان وإسرائيل عقب انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب عام 2000 (أ.ف.ب)

تنشر «الشرق الأوسط» حلقة ثالثة وأخيرة من كتاب «الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان: ست محطّات وأمثولاتها» لوكيل وزارة الخارجية الأميركية السابق للشؤون السياسية ديفيد هيل، وهي تتناول كيف سمحت سياسة «سوريا أولاً» الأميركية بوضع لبنان تحت «الاحتلال السوري»، وكيف وافقت أميركا على وصول قائد الجيش العماد إميل لحود إلى موقع الرئاسة، قائلاً: «لم يشهد لبنان أبداً مثل هذا الرّئيس المعادي لأميركا. لم تكن السّياسات الأميركية تعجبه، ولا الشّعب، ولا الدّبلوماسيون الموفدون للتعامل معه».

سياسة سوريا أولاً

كانت سياسة الرّئيس كلينتون تجاه لبنان مُلحَقة باستراتيجيّته إزاء سوريا. فقد اعتبرها المفتاح الجيوسياسي لتحقيق السّلام العربي الشامل مع إسرائيل، ولتقليص النّفوذ الإيراني في المنطقة. ووضع لبنان جائزة لها، فيما لو أعادت توجيه سياستها، خلال العملية، نحو الغرب. وبما أنّ المحتلّين السّوريين هم من يحدّدون السّياسة الخارجية اللبنانية، لم يكن هناك سبب وجيه لواشنطن للتّعامل مع القادة اللبنانيين، الذين كان عليهم استشارة دمشق بأي حال. فإذا أقامت سوريا صلحاً مع إسرائيل؛ فإنّ لبنان حتماً سيتبعها، أو هكذا بدا منحى الأمور، الذي تعزّزه تأكيدات الأسد وبعض تصرّفاته.

قبل اجتماعه برئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في نيويورك في سبتمبر (أيلول) 1993، سأل كلينتون مساعد وزير خارجيّته إدوارد دجيرجيان عمّا يجدر قوله، فنصحه بِوُجوب التأكيد على دعم الولايات المتحدة لاستقلال لبنان وسيادته، وسلامة أراضيه. عملاً بالنصيحة، أكد كلينتون أنه لا اتّفاق لسلام إسرائيلي - سوري بوساطة أميركية سيأتي على حساب لبنان. كتب دجيرجيان، الذي ربّما كان صادقاً، لاحقاً: «إنّ هذا التأكيد عزّز من قوّة الرّئيس الحريري لكنّ الرسالة لم تعكس واقع السّياسة الأميركية كما تبيّن». كما كتب مارتن إنديك، مستشار كلينتون لشؤون الشّرق الأوسط آنذاك في وقتٍ لاحق: «إنّ الإدارة لم تضغط مطلقاً على الأسد لِسَحب قوّاته من لبنان، لأنّها قد تشكّل حاجة في حال التوصّل إلى اتّفاق سلام». وممّا كتبه: «في صفقة السّلام التي تصوّرها كلينتون، ستكون القوّات السورية في لبنان مسؤولة عن نزع سلاح (حزب الله)». لقد قدّرنا أنّ طردهم سيتحقّق مع مرور الوقت باعتبار أنّ السلام سيمكّن اللبنانيين من التفلّت من قبضة سوريا». هنا تكمن مشكلة العلاقات الأميركية مع لبنان خلال سنوات كلينتون، فقد كان الخطاب الأميركي صادقاً فيما خص التزامنا بالسّيادة اللبنانية، لكنّ سلوك الولايات المتحدة كان يعكس اعتماداً براغماتياً على الاحتلال السوري. وبينما كان يفترض ألا تأتي صفقة السّلام على حساب لبنان، شكّل هذا البلد الضحية الأولى لفشل التوصّل إليها.

الرئيس الراحل حافظ الأسد أبلغ الأميركيين أنّه إذا استجيبت شروطه في صفقة السلام مع إسرائيل، فإنّه سيهتمّ بإيران و«حزب الله»

أكّد الأسد للمسؤولين الأميركيين أنّه إذا استجيبت شروطه في صفقة السلام مع إسرائيل، فإنّه سيهتمّ بإيران و«حزب الله» (مسؤول أميركي). وازدادت ثقة المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين بتعهداته، عندما ساعد فعلياً في تهدئة لبنان بعد حربَي 1993 و1996، على الرّغم من الشّكوك بأن ثمّة يداً له في تحفيز الهجمات على إسرائيل سنة 1996. أخذت واشنطن بكلامه، علماً بأنّه لم يكن هناك صفقة سلام لاختباره. ووضع المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون ثقتهم برغبته، أو قدرته على تأمين حدود إسرائيل من ناحية جنوب لبنان، الحدود الإسرائيلية الوحيدة المفتوحة على التّهديدات المستمرّة منذ عام 1973. وافترضوا أنّ سوريا سوف تعتني بلبنان ثمناً ضرورياً للسّلام مع إسرائيل؛ لأنّ الأسد قال ذلك، إنّما لم يُحدّد معنى «العناية» أو الثمن الذي قد تدفعه سوريا، على الرّغم من الاعتقاد بأنّ الأسد يعرف جيّداً ما هي الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية.

يجدر بنا التوقف عند اهتمام واشنطن المحدود، خلال فترات التفاوض بين إسرائيل وسوريا، بما يمكن أن يحدث في لبنان، فيما لو تحقّق السلام بين سوريا وإسرائيل. لم يسبق للبنان وإسرائيل أن رسّما الحدود بينهما التي خطّتها فرنسا وبريطانيا، ما تسبّب بالكثير من الغموض واحتمالات وقوع نزاعات. علاوة على ذلك، كادت هجمات «حزب الله» من لبنان تُخرج السياسات الأميركية والإسرائيلية عن مسارها عامَي 1993 و1996. كان سلوك الأسد في تسهيل أمر التوصّل إلى وقف إطلاق النّار علامة مشجّعة. لكن إن كان يمتلك قدرة السّيطرة على لبنان، فلماذا وقعت بالأساس حلقات العنف هذه؟ ليس معروفاً إلى أيّ مدى كانت سوريا راغبة أو قادرة على المضي في نزع سلاح «حزب الله» في سياق السّلام مع إسرائيل، لكنّ الأسد كان مدركاً لمتطلّبات إسرائيل الأمنيّة لحماية شمالها، وانسحاب إسرائيل من الأراضي السّورية كان مشروطاً بتلبيتها. هل كانت سوريا ستحاول التحايل تجنّباً لمواجهة مع إيران، أو لخسارة ورقة ضغط على إسرائيل، يوفّرها «حزب الله» لها داخل لبنان؟ لا أحد يستطيع أن يعرف بالضّبط. لكن ما يبدو مرجّحاً أنّ سوريا كانت ستسعى إلى الاحتفاظ بنفوذها في لبنان، فقد تحمّلت ما يكفي من التهديدات الآتية من صوبه، بما في ذلك التحالف الإسرائيلي - الماروني، كيلا تترك ثغرة تعرّضها للخطر مرّة جديدة. ومن دون «حزب الله»، كيف لها أن تتأكد من عدم تكرار ذلك؟ في أيّة حال، لم يكن أمام المسؤولين الأميركيين الراغبين في السّلام سوى خيار الاعتماد على وعد الأسد بشأن لبنان، إذا أرادوا الوصول إلى نتيجة، ومن خلال تأجيل مناقشة ترتيبات ما بعد السلام المتعلّقة بلبنان بالتفصيل، والتقييم الصّادق للنتائج المحتملة، ربّما كان المسؤولون الأميركيون يحولون فقط دون وقوع أزمة حول لبنان يمكن أن تعرقل التوصّل إلى اتّفاق إسرائيلي - سوري. لم يحظ هؤلاء المسؤولون بالوقت الكافي لاكتشاف ذلك مطلقاً.

ديفيد هيل في بيروت في 13 أغسطس 2020 (رويترز)

الواضح أنّ سياسة واشنطن التي راعت الأسد وغضّت الطّرف عن سلاح «حزب الله» في لبنان على مدى ثماني سنوات في التّسعينات، مكّنت النّظام السوري من تشديد قبضته على البلد. واستغلّها «حزب الله» لتشديد قبضته وشرعيّته في أوساط العديد من اللبنانيين، فتحوّل من حالة إرهابية خطيرة إلى قوّة وطنيّة وإقليميّة كبيرة في الألفية الثّانية. كما ساهمت سياسة إدارة كلينتون تجاه إيران، عن غير قصد، في تعزيز المعسكر السوري - الإيراني في لبنان، مع التحوّل المفاجئ في السياسة الأميركية سنة 1997 من الضّغط والاحتواء إلى المغازلة العلنية لما سُمّي بالمُعسكَر المعتدل، مع انتخاب محمّد خاتمي رئيساً لإيران في ذلك العام. وإن استمرّت المغازلة حتّى نهاية إدارة كلينتون، فإنّها قوبِلَت بالرّفض من حكّام إيران. أمّا اللبنانيون السّاعون إلى التخلّص من هيمنة سوريا والوكيل الإيراني - السوري، «حزب الله»، فلم يتلقّوا أيّ التفاتة من واشنطن في التسعينات.

غلاف الكتاب

الطائف

بدأ الخلاف بين عون وسوريا بحَذَر وبالتدرّج. كان أثر عون تقسيمياً ليس فقط بين اللبنانيين بل داخل المجتمع المسيحي. ارتقى - وهو الآتي من خلفية فقيرة - إلى منصب القيادة عبر الرتب العسكرية بالإصرار والعناد. بفضل الدّعم المادّي من العراق، الخصم العربي الرئيسي لسوريا؛ أخذ عون يبالغ في تقدير قوّته. في مارس (آذار) 1989، أعلن الحرب على سوريا، واستمرّ تبادل القصف المدفعي والحصار شهوراً عدّة. تمكّنت سوريا بالاتّفاق مع الرياض من الحصول على دعم جامعة الدول العربية التي شكّلت اللّجنة الثّلاثية المؤلّفة من الجزائر والمغرب والمملكة العربية السعودية لمتابعة شأن الإصلاحات الدستورية اللبنانية. أصبح عون وأتباعه أكثر عدوانية حتّى ضدّ الأميركيين، وسيطروا على الطرقات المؤدّية إلى السّفارة الأميركية في عوكر. وخلقت الاحتجاجات والتحرّش بمواكب السيارات المسلّحة الأميركية، بيئة أمنية أرغمت السّفارة على إقفال أبوابها، وإجلاء كامل الموظّفين الأميركيين في سبتمبر 1989. وللمرّة الأولى منذ عام 1919، لم يكن للولايات المتحدة وجود دبلوماسي في بيروت.

أبصر اتفاق الطائف النّور في لحظةٍ نادرة، حين أنتج النظام العربي حلاً دبلوماسيّاً لمشكلة. ساهمت في إنتاجه أربع شخصّيات بارزة: الرئيس حسين الحسيني (...) والمبعوث الخاص للجامعة العربية الأخضر الإبراهيمي (...) ورفيق الحريري (...) وأخيراً، وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل.

لم تشارك الولايات المتحدة مباشرةً في بلوَرة الاتّفاق؛ لكنّها كانت موافقة عليه من منظور سياسي. عندما أُغلقت السّفارة في عوكر، انتقل المستشار السّياسي ديفيد ساترفيلد إلى الجزائر، حيث كان يلتقي بانتظام مع الإبراهيمي، ليأخذ علماً بالمستجدات بشكلٍ مقتضب. وكانت التعليمات الواردة إليه بالاكتفاء بالإصغاء، وعدم تقديم أفكار، وعدم التعبير عن دعم أو معارضة. وعندما وصل النوّاب اللبنانيون إلى الطائف في السّعودية، انضمّ إليهم ساترفيلد بتعليمات مماثلة، إلا أنّ السعوديين طلبوا منه المغادرة، بعد أن علموا بوجوده على اعتبار أنّ ذلك شأن عربي بالكامل.

في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1989، وقّع ثمانية وخمسون نائباً على اتّفاق الطائف. لم تكن مفاهيمه جديدة، لكنّ لم يسبق أن قَبِلَت بها كافّة الأطراف اللبنانية الرّئيسية ورعاتها الخارجيين، وخلاصتها: إضعاف الرئاسة، وإناطة السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء المتوازن طائفياً، بقيادة سنّي، وتعزيز نفوذ رئيس البرلمان الشيعي، ولامركزية السلطة، ومعالجة الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وخسارة المسيحيين لمعادلة 6 مقابل 5 للمسلمين في البرلمان، واعتماد معادلة 5 مقابل 5. (...)

رفض عون الطّائف، لكنّ السوريين والسعوديين نقلوا النوّاب اللبنانيين المتعاونين إلى قاعدة جوّية في شمال لبنان، حيث انتخبوا رينيه معوّض رئيساً في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. كان معوّض صديقاً لفرنجية، لكنّه انفصل عنه سياسياً. تميّز بشخصية توفيقية وسجلٍّ طويل بالخدمة العامة. وقد فُسّر اختياره على أنّه إشارة سورية محتملة لتسليف المعارضة المارونية. اغتيل معوّض في بيروت الغربية بعد ثمانية عشر يوماً من انتخابه (...)، ونُقل النواب إلى البقاع لانتخاب رئيس آخر هو إلياس الهراوي، وبقيَ عون محتلّاً القصر الرّئاسي في بعبدا.

في يناير (كانون الثاني) 1990، اندلعت الحرب بين عون والقوّات اللبنانية بزعامة سمير جعجع، وتسبّبت هذه المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية بدمار هائل. تمكّن عون من الصمود، إلا أنّ التحوّل الجيوستراتيجي النّاجم عن غزو صدّام للكويت في أغسطس (آب) 1990 هو ما سمح لسوريا بتضييق الخناق عليه. جرى لقاء بين وزير الخارجية بيكر والأسد في دمشق في 13 سبتمبر (أيلول)، انضمّ على أثره الأخير إلى التّحالف المناهض لصدّام، ووافق على السّعي للحصول على حياد إيران في الحملة المقبلة لإخراج القوات العراقية من الكويت. ويزعم بعض المراقبين أنّ بيكر أعطى الأسد الضّوء الأخضر لإنهاء الأزمة مع عون، ما دامت السلطات اللبنانية قد دعت إلى التدخّل السوري خطيّاً. في الواقع، أخبر المسؤولون الأميركيون السوريين أنّ الولايات المتحدة ليست في وارد تأييد العنف، ولكنّها ترغب برؤية عون يرحل. لا بدّ أنّ القادة السوريين قد قدّروا بناء على ذلك أنّ الولايات المتحدة لن تمنع الهجوم السوري على عون، ولن تعاقبهم عليه. في غضون أربعة عشر عاماً، انتقلت السياسة الأميركية تجاه سوريا في لبنان من تنسيق غير معلن كما في سنة 1976، إلى اشتباكات عسكرية مباشرة عام 1984، ثمّ إلى انفراج إبان حرب الخليج الأولى. التساهل الأميركي حيال الموقف السوري في لبنان ستكون له تداعيات طويلة الأمد.

في 13 أكتوبر، استولت القوات السورية على القصر الرئاسي في بعبدا، وفرّ عون إلى فرنسا حيث مكث في المنفى خمسة عشر عاماً. تسبّب سوء التقدير والانقسام الماروني بسلسلة من الأحداث التي عزّزت السيطرة السورية على لبنان. وقادت الهواجس الأميركية بشأن العراق واشنطن إلى قبول الخطوة السورية، وتبيّن لعون أن اعتماده على صدّام قد أطاح به.

رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري متوسطاً الرئيس إميل لحود ورئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2001 (أ.ف.ب)

لحود

إن للتحوُّل السّريع في السّياسة الأميركية تجاه إيران، من العداء إلى غزلٍ من طرف واحد، تأثيره على لبنان، فها هُم الدبلوماسيون الأميركيون؛ يكرّرون تعابير ممجوجة متعلّقة بالطّائف، مطالبين بتجريد الميليشيات من سلاحها (المقصود حزب الله) وبانسحاب القوّات الأجنبية (والمقصود إسرائيل وسوريا). إلا أن خواء هذه الأقوال كان واضحاً للجميع تقريباً في لبنان؛ إذ لم يكن فقط مجرَّداً من أيّ دعم جِدّيّ، بل أيضاً متناقضاً مع الدبلوماسية التّرقيعية المتمثّلة بفريق الرّصد الإسرائيلي - اللّبناني، الذي شَرْعَن الأمر الواقع حينها. رأى المسؤولون الأميركيون مصلحة أكبر في تأمين اتّفاق سلام سوري - إسرائيلي، وتوقّعوا أن تكون له مفاعيل إيجابية ثانوية على مستوى إرساء الاستقرار في لبنان، وإلزام «حزب الله» بوقف العنف، بالتالي تقليص النفوذ الإيراني في الشرق، وصولاً إلى إلغائه. وبالنّظر إلى عدم رغبتهم في تنفير الأسد، انتحى المسؤولون الأميركيون جانباً، فيما كانت سوريا تعزّز مصالحها في لبنان. كان تلاقي الانتهازية السورية والبراغماتية اللبنانية، والتساهل الأميركي مع الأسد، إيذاناً ببدء حقبة ضخّمت دور سوريا وحلفائها اللّبنانيين، وهمّشت خصومهم.

شكّل انتخاب إميل لحّود عام 1998، محطة مفصليّة في استراتيجية سوريا تجاه لبنان؛ (...) درس المسؤولون الأميركيون خياراتهم في صيف 1998، وكان أغلبهم مقتنعاً بأنّه ليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى الموافقة على اختيار سوريا لِلحّود. (...) على أي حال استنتج المسؤولون الأميركيون أن ليس بإمكان الولايات المتّحدة أن تأتي بمن هو أفضل من لحّود، مرتكزين على عوامل سطحيّة. لقد كان يتكلّم الإنجليزية بشكلٍ جيّد، وهي ميزة اختلطت على الزوار فظنّوها دلالة على أنّه مؤيّد للغرب. درس في الكلّية الحربية البحرية الأميركية في نيوبورت، إذن فهو قادر على الانسجام مع نظرائه العسكريين الأميركيين. استعاد الجيش اللّبناني حرفيّته ووحدته تحت قيادته، إذن بدا كأنّه شخص وطني قادر على إنجاز الأمور. ليس لديه سجل سياسي، وما كان الأميركيون يعلمون شيئاً عن آرائه في السياسة، فمما يشكو هذا الشخص؟

علّق لحّود بنفسه لكاتب سيرته كريم بقرادوني على الدّعم الأميركي غير المبرَّر له، «أوضح لحّود أنّ الولايات المتحدة المقتنعة بأنّه سيتبع بِشكلٍ تلقائيّ السّياسة الأميركية، ساعدت الجيش اللّبناني عبر تزويده بالأسلحة والعتاد بأسعار رمزية ودون شروط سياسية. لم يأخذ الأميركيون الوقت الكافي لِفهم شخصيّتي وأفكاري وخياراتي». كان محقاً بأنّ الولايات المتحدة أساءت فهمه، لكنّه خلط بين أدبيات الدّعم الأميركي للجيش، ( ) والدّعم لشخصه. كان سوء فهم لحّود مبرَّراً لأنّه كان يتلقّى إطراءات شخصية سخيّة من زوّار عسكريين أميركيين عازمين على «بناء علاقات». عكس موقف لحّود خبثه. فقد انتقد اللّبنانيين الآخرين لتقديم أنفسهم على الدّولة، في حين لم يستطع التّمييز بين الدعم الأميركي للجيش والدّعم الشخصي له. مهما يكن، فإنّ سياسة الولايات المتحدة كانت بالتّساهل مع سوريا في لبنان. وخيار سوريا للرئيس عام 1998 كان مقبولاً من واشنطن.

سرعان ما ظهرت عيوب التقييم الأميركي للحّود. لم يشهد لبنان أبداً مثل هذا الرّئيس المعادي لأميركا. لم تكن السّياسات الأميركية تعجبه، ولا الشّعب ولا الدّبلوماسيون الموفدون للتعامل معه. فبينما سعى الهراوي للظّهور مستقلاً، وأظهر مودّة شخصية تجاه أميركا، تخلّى لحّود عن هذه الإشارات. كان الأسد سيّده، و«حزب الله» حليفه الوحيد بين الأحزاب المنظَّمة. نظر إلى أميركا على أنّها عدوّته، سواء عن اقتناع أو لحاجته الشخصية لتعزيز علاقته مع دمشق. كان يزدري معظم السّياسيين اللّبنانيين، ويشعر بشكلٍ خاصّ بالغيرة من سهولة وصول الحريري إلى القادة الأميركيين والدوليين.


مقالات ذات صلة

دعم مصري للبنان... تحركات سياسية وإنسانية تعزز مسار التهدئة بالمنطقة

شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يلتقي رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي على هامش أعمال «القمة العربية الإسلامية» الأخيرة بالرياض (الرئاسة المصرية)

دعم مصري للبنان... تحركات سياسية وإنسانية تعزز مسار التهدئة بالمنطقة

تحركات مصرية مكثفة سياسية وإنسانية لدعم لبنان في إطار علاقات توصف من الجانبين بـ«التاريخية» وسط اتصالات ومشاورات وزيارات لم تنقطع منذ بدء الحرب مع إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
المشرق العربي النواب في جلسة تشريعية سابقة للبرلمان اللبناني (الوكالة الوطنية للإعلام)

التمديد لقائد الجيش اللبناني ورؤساء الأجهزة «محسوم»

يعقد البرلمان اللبناني جلسة تشريعية الخميس لإقرار اقتراحات قوانين تكتسب صفة «تشريع الضرورة» أبرزها قانون التمديد مرّة ثانية لقائد الجيش ورؤساء الأجهزة الأمنية.

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي تصاعد السحب الدخانية نتيجة القصف الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية في بيروت (رويترز) play-circle 00:25

الجيش الإسرائيلي: قصفنا 25 هدفاً للمجلس التنفيذي ﻟ«حزب الله» خلال ساعة واحدة

قال الجيش الإسرائيلي، الاثنين)، إن قواته الجوية نفذت خلال الساعة الماضية ضربات على ما يقرب من 25 هدفاً تابعاً للمجلس التنفيذي لجماعة «حزب الله» في لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي عناصر من خدمة الإسعاف الإسرائيلية في موقع إصابة شخص في نهاريا بشظايا صواريخ أطلقت من لبنان (نجمة داود الحمراء عبر منصة «إكس»)

إصابة شخص في إسرائيل بعد إطلاق 20 صاروخاً من لبنان

أعلنت خدمة الإسعاف الإسرائيلية، الإثنين، إصابة شخص بعد إطلاق 20 صاروخا من لبنان نحو مناطق الجليل الأعلى والغربي

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي كرة لهب ودخان تظهر في الضاحية الجنوبية لبيروت نتيجة غارات إسرائيلية (أ.ف.ب)

وزير التعليم اللبناني يعلن تعليق الدراسة الحضورية بالمدارس غداً في بيروت

أعلن وزير التربية والتعليم العالي اللبناني عباس الحلبي تعليق الدراسة حضورياً في المدارس والمعاهد المهنية الرسمية والخاصة، ومؤسسات التعليم العالي الخاصة.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل يشمل 3 مراحل تبدأ بانسحابات متزامنة

دمار في ضاحية بيروت الجنوبية حيث اغتيل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ف.ب)
دمار في ضاحية بيروت الجنوبية حيث اغتيل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ف.ب)
TT

اتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل يشمل 3 مراحل تبدأ بانسحابات متزامنة

دمار في ضاحية بيروت الجنوبية حيث اغتيل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ف.ب)
دمار في ضاحية بيروت الجنوبية حيث اغتيل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ف.ب)

كشفت مصادر وثيقة الاطلاع على المفاوضات الجارية لهدنة الأيام الـ60 بين لبنان وإسرائيل عن أن الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، موافق على الخطوات التي تتخذها إدارة الرئيس جو بايدن لإخراج مقاتلي «حزب الله» وأسلحتهم من منطقة عمليات القوة المؤقتة للأمم المتحدة في لبنان «اليونيفيل» مقابل انسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما وراء الخط الأزرق، على أن يترافق ذلك مع مفاوضات إضافية عبر الوسطاء الأميركيين.

وأفادت مصادر خاصة لـ«الشرق الأوسط» بأن «مباركة» ترمب لجهود بايدن حصلت خلال لقائهما في البيت الأبيض قبل أسبوعين.

وبينما سادت حالة الترقب للمواقف التي ستعلنها الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو والبيان المشترك «الوشيك» من بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علمت «الشرق الأوسط» أن اللجنة الخماسية التي تقودها الولايات المتحدة، وتضم أيضاً فرنسا بالإضافة إلى لبنان وإسرائيل و«اليونيفيل»، ستُشرف على تنفيذ عمليات إخلاء «حزب الله» من مناطق الجنوب «على 3 مراحل تتألف كل منها من 20 يوماً، على أن تبدأ الأولى من القطاع الغربي»، بما يشمل أيضاً انسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي احتلتها في هذه المنطقة بموازاة انتشار معزز لقوات من الجيش اللبناني و«اليونيفيل». وتشمل المرحلة الثانية في الأيام الـ20 التالية بدء عمليات الإخلاء والانسحاب من مناطق القطاع الأوسط، وتُخصص الأيام الـ20 الأخيرة لتطبيق المبدأ نفسه في القطاع الشرقي. وسُربت معلومات إضافية عن أنه «لن يُسمح لسكان القرى الأمامية في جنوب لبنان بالعودة على الفور إلى هذه المناطق بانتظار اتخاذ إجراءات تحفظ سلامتهم، بالإضافة إلى التأكد من خلو هذه المناطق من أي مسلحين أو أسلحة تابعة لـ(حزب الله)». ولكن سيسمح بعودة السكان المدنيين الذين نزحوا مما يسمى بلدات وقرى الخط الثاني والثالث جنوب نهر الليطاني.

الرئيسان الأميركيان جو بايدن ودونالد ترمب خلال اجتماعهما في البيت الأبيض 13 نوفمبر الماضي (أ.ب)

بقاء اللجنة الثلاثية

وتوقع مصدر أن تضطلع الولايات المتحدة بـ«دور فاعل» في آلية المراقبة والتحقق من دون أن يوضح ما إذا كانت أي قوات أميركية ستشارك في هذه الجهود. ولكن يتوقع أن تقوم بريطانيا ودول أخرى بـ«جهود خاصة موازية للتحقق من وقف تدفق الأسلحة غير المشروعة في اتجاه لبنان». ولن تكون الآلية الخماسية بديلاً من اللجنة الثلاثية التي تشمل كلاً من لبنان وإسرائيل و«اليونيفيل».

وتعامل المسؤولون الأميركيون بحذر شديد مع «موجة التفاؤل» التي سادت خلال الساعات القليلة الماضية، آملين في «عدم الخروج عن المسار الإيجابي للمفاوضات بسبب التصعيد على الأرض».

ومن شأن اقتراح وقف النار، الذي توسط فيه دبلوماسيون أميركيون وفرنسيون أن يؤدي إلى إحلال الاستقرار في جنوب لبنان «إذا وفت كل الأطراف بالتزاماتها». غير أن العديد من الأسئلة حول الاقتراح لا تزال من دون إجابة، بما في ذلك كيفية ممارسة الجيش اللبناني سلطته على «حزب الله».

ونقلت صحيفة «واشنطن بوست»، عن دبلوماسي غربي مطلع على المحادثات، أن الجانبين مستعدان للموافقة على الاتفاق. لكنه «حض على توخي الحذر» بعدما «عشنا بالفعل لحظات كان فيها الاتفاق وشيكاً قبل اتخاذ خطوات تصعيدية كبيرة»، كما قال منسق الاتصالات الاستراتيجية لدى مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، مضيفاً أن المسؤولين الأميركيين «يعتقدون أن المسار يسير في اتجاه إيجابي للغاية».

الوسيط الأميركي آموس هوكستين (أ.ب)

قرار أممي جديد؟

وكانت «الشرق الأوسط» أول من نقل، الاثنين، عن مصادر واسعة الاطلاع أن الرئيسين الأميركي والفرنسي يستعدان لإعلان الهدنة بعد ظهور مؤشرات إلى «تفاؤل حذر» بإمكان نجاح الصيغة الأميركية لـ«وقف العمليات العدائية» بين لبنان وإسرائيل على أساس الإخلاء والانسحاب المتبادلين لمصلحة إعادة انتشار «اليونيفيل» والجيش اللبناني في المنطقة بإشراف «آلية مراقبة وتحقق» جديدة «تحدد بدقة كيفية تنفيذ القرار 1701 الذي أصدره مجلس الأمن عام 2006».

ويتوقع أن يصدر مجلس الأمن «قراراً جديداً يضع ختماً أممياً على الاتفاق الجديد» ويتضمن «لغة حازمة» حول الالتزامات الواردة في الاتفاق، من دون أن يشير إلى أنه سيكون بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يخوّل المجتمع الدولي اتخاذ «إجراءات قهرية» لتنفيذ ما ورد في القرار 1701.

ويتضمن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه انسحاب القوات الإسرائيلية إلى الحدود الدولية طبقاً لما ورد في القرار 1701، أي إلى حدود اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل في 23 مارس (آذار) 1948، على أن «تجري عملية إخلاء مقاتلي (حزب الله) وأسلحتهم من منطقة عمليات (اليونيفيل) طبقاً للقرار نفسه الذي ينص أيضاً على وجوب عدم وجود مسلحين أو أسلحة غير تابعين للدولة اللبنانية أو القوة الدولية على امتداد المنطقة بين الخط الأزرق وجنوب نهر الليطاني. وبالإضافة إلى التحقق من تنفيذ الاتفاق، ستبدأ محادثات للتوصل إلى تفاهمات إضافية على النقاط الحدودية الـ13 التي لا تزال عالقة بين لبنان وإسرائيل، بما فيها الانسحاب الإسرائيلي من الشطر الشمالي لبلدة الغجر والمنطقة المحاذية لها شمالاً. وينص الاتفاق على «وقف الانتهاكات من الطرفين» مع إعطاء كل منها «حق الدفاع عن النفس».