الجوع يفاقم ظاهرتي «التسوّل» و«نبش» حاويات القمامة في دمشق

السكان يعيشون أسوأ وضع معيشي و«الأغذية العالمي» ينهي مساعداته

ينتظرون شراء الخبز خارج مخبز على مشارف دمشق (رويترز)
ينتظرون شراء الخبز خارج مخبز على مشارف دمشق (رويترز)
TT

الجوع يفاقم ظاهرتي «التسوّل» و«نبش» حاويات القمامة في دمشق

ينتظرون شراء الخبز خارج مخبز على مشارف دمشق (رويترز)
ينتظرون شراء الخبز خارج مخبز على مشارف دمشق (رويترز)

مع تعمق تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى في دمشق وتضخم ظاهرتي «نبش» أكياس وحاويات القمامة و«التسوّل»، جاء قرار برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة بإنهاء برنامج مساعداته الغذائية العامة في جميع أنحاء سوريا اعتباراً من بداية العام المقبل، ليزيد أكثر من سوء تلك الأوضاع.

وتفاجأ سكان دمشق، مؤخراً، بإعلان برنامج الأغذية العالمي، انتهاء مساعداته العامة بجميع أنحاء سوريا في يناير (كانون الثاني) المقبل، بسبب نقص التمويل. وذكر البرنامج، في بيان، أنه سيواصل دعم الأسر المتضررة من حالات الطوارئ والكوارث الطبيعية في جميع أنحاء سوريا من خلال «تدخلات طارئة أصغر وموجهة أكثر»، دون تحديد طبيعة هذه التدخلات.

وبحسب الموقع الرسمي للبرنامج، فإنه كان يقدم شهرياً مساعدات غذائية إلى 5.6 مليون شخص في سوريا، من خلال الحصص الغذائية أو القسائم النقدية لشراء الطعام للعائلات، كما يوفر لأطفال المدارس في جميع أنحاء البلاد وجبات غذائية خفيفة، ويعمل على الوقاية والعلاج من سوء التغذية للأمهات والأطفال.

يأتي إعلان البرنامج، في وقت تعيش فيه الأغلبية العظمى من سكان دمشق، أسوأ أوضاع معيشية على الإطلاق منذ اندلاع الحرب في البلاد في عام 2011، بسبب موجات ارتفاع الأسعار المتتالية.

فعلى مدى عقود طويلة سبقت الحرب، كانت عملية «اقتراض» العائلة رغيفي خبز أو ثلاثة من جيرانها ومن ثم ردها مسألة طبيعية، لكن الأمر بات «تسوّلاً مجمّلاً» مع عدم رد المادة بسبب الفقر الشديد، وفق العجوز «أم يوسف» التي تسكن في غرب دمشق ومعروف عنها طيبة القلب وأنها ميسورة الحال.

تؤكد العجوز لنا أنها «لا تتردد بتلبية أي طلب للجيران إذا كان متوفراً لديها حبتي بندورة، أو كاسة رز أو برغل». وبالنسبة «للعائلات الفقيرة جداً أقوم بشراء كميات وأرسلها لهم».

مع طول أمد الحرب والسنوات اللاحقة التي انهار فيها الاقتصاد وقيمة الليرة السورية، تزايدت العائلات التي انضمت إلى شريحة الفقراء الأشد حاجة. ووصل الأمر وفق «أم يوسف»، إلى أن «أي حارة بات لا يوجد فيها سوى عائلتين أو ثلاث مكتفية ذاتياً». وتلفت إلى أن بابها يقرع أكثر من 20 مرة في اليوم من قبل متسولين يجوبون الشوارع، وتضيف: «يطلبون مالاً، أو خبزاً وطعاماً، ويبحثون في أكياس القمامة عن بقايا طعام».

في المقابل، تذكر «م. س» التي لديها 3 فتيات، أنها بعد موت زوجها عملت في تنظيف المنازل، لكن «الشغل خف». وتوضح السيدة وهي تحبس دموعها، أن العائلة كانت «تمشّي حالها» بالسلة الغذائية التي تستلمها من جمعية خيرية، وتضيف: «حالنا بالويل ونعيش من خير الجيران الخيّرين». وبعدما انفجرت بالبكاء، أقسمت أنها وبناتها يتناولن «سندويشة» واحدة في اليوم، وأحياناً «رغيف حاف».

ظاهرة التسوّل موجودة في سوريا منذ القديم، لكن الظاهرة ازدادت حدة منذ اندلاع الحرب وما خلفته من فقر ومآس ونزوح، تكاثرت جداً مع ارتفاع الأسعار المتتالية وتدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي الذي يسجل حالياً نحو 14 ألف ليرة بعدما كان في عام 2010 50 ليرة.

شكل ذلك أزمة جوع كبيرة في مناطق سيطرة الحكومة السورية، إذ لا يتعدى راتب موظف الدرجة الأولى لدى الدولة 180 ألف ليرة، وفي القطاع الخاص قد يصل إلى مليون ليرة، على حين باتت العائلة المؤلفة من 5 أفراد تحتاج إلى 6 ملايين ليرة في الشهر.

ينتظرون شراء الخبز خارج مخبز على مشارف دمشق (رويترز)

وأكد برنامج الغذاء العالمي، الشهر الماضي، أن 12.1 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي في سوريا، بعدما أعلن في بداية العام الجاري، أن سوريا باتت تعاني من مستويات قياسية في الجوع.

في ظل هذه الحال، باتت شوارع وأسواق وحدائق دمشق، تعج بعشرات المتسولين (أطفال، ونساء، ورجال)، فيما يفترش الكثير أرصفة الشوارع يسألون المارة المساعدة. وأُضيف إلى المشهد تسوّل الرغيف أمام الأفران والأغذية من أصحاب وزبائن البقاليات ومحال الخضراوات، والدواء من الصيدليات.

صحيفة «تشرين» الرسمية نشرت بداية عام 2021 إحصائية من الدراسات الاجتماعية تقدر عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول.

وفي 22 الشهر الماضي، ذكرت صحيفة «الوطن» المقربة من الحكومة، أن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تعكف على إعداد مسودة قانون رادع خاص بمكافحة التسوّل.

النبش في الحاويات في أحد شوارع دمشق

وتترافق مسألة تضخم آفة «التسوّل» مع تزايد ظاهرة «نبش» أكياس وحاويات القمامة، إذ يلاحظ المتجول في دمشق، انتشار مجموعات من الأطفال والفتيات والنساء والشباب وكبار السن، في كل الأوقات بعدما كان الأمر يتم في الصباح الباكر ومن قبل أعداد قليلة.

ويقوم البعض بنبش أكياس وحاويات القمامة، بحثاً عن بقايا طعام، بينما اتخذ كثيرون من الأمر وسيلة للارتزاق عبر جمع بقايا الخبز والبلاستيك والكرتون وبيعها لمحال مختصة بشراء هذه النفايات.

وأدى تزايد هذه الظاهرة إلى حصول تسابق بين العاملين فيها على نبش الحاويات ووقوف البعض عندها لساعات بانتظار من يجلبون إليها أكياس القمامة، ويصل الأمر أحياناً إلى حصول مشاجرات بين «النابشين».

امرأة تتسول في ظاهرة تفاقمت في السنوات الأخيرة

يوضح لنا خبير في الشؤون الاجتماعية بدمشق، أن هناك عدة أسباب لتضخم واستفحال ظاهرة التسوّل في مناطق الحكومة، فهناك من يمتهنها لرفد دخله، والبعض تشغّلهم «مافيات»، لكن السبب الأبرز هو «الظروف المعيشية الصعبة التي تزداد صعوبة بشكل يومي».

يضيف: «الدراسات تؤكد أن 94 في المائة يعيشون في حالة فقر، وبالتالي يرجح أن كثيرين يندفعون إلى التسوّل بسبب الجوع. المشهد يؤكد أن عدد المتسوّلين يفوق عشرات أضعاف ما تتحدث عنه وسائل إعلام الحكومة».

ويرى الخبير، أن المعالجة تكون من خلال إيجاد حل من قبل الحكومة للأزمات الاقتصادية المتراكمة، ومنح رواتب تتناسب مع الأسعار الحالية، وتوفير المواد الأساسية بأسعار مقبولة.

يضيف: «قبل الحرب كان راتب موظف الدرجة الثالثة لدى الحكومة نحو 300 دولار، حالياً راتب موظف الدرجة الأولى لا يتجاوز راتبه 15 دولاراً!».


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة: نشهد انهيار القانون والنظام في قطاع غزة والنهب المسلح لإمداداتنا

المشرق العربي من شبه المستحيل إدخال حتى ولو جزء بسيط من المساعدات الضرورية إلى الأراضي الفلسطينية المحاصرة (إ.ب.أ)

الأمم المتحدة: نشهد انهيار القانون والنظام في قطاع غزة والنهب المسلح لإمداداتنا

حذر المنسق الجديد للشؤون الإنسانية الطارئة التابع للأمم المتحدة، توم فليتشر، من انتشار الجريمة الخارجة عن السيطرة في قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
العالم بلغت نسبة الضحايا المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة 70 % من مجموع القتلى المسجلين لدى وكالات الأمم المتحدة (رويترز)

الأمم المتحدة: 40 % من ضحايا الحروب نساء... و30 % أطفال

يرسم تقرير أممي صورة قاتمة جداً لما عانته النساء في الأزمات المسلحة خلال عام 2023، فقد شكّلن 40 % من مجموع القتلى المدنيين؛ أي ضعف النسبة في 2022.

شوقي الريّس (بروكسل)
أوروبا مظاهرات أوكرانية في كييف تطالب بتبادل الأسرى (أ.ف.ب)

أوكرانيا: القوات الروسية أعدمت 5 من أسرى الحرب

قال مفوض البرلمان الأوكراني لحقوق الإنسان، ديميترو لوبينيتس، اليوم الأحد، إن القوات الروسية أعدمت 5 من أسرى الحرب الأوكرانيين.

«الشرق الأوسط» (كييف)
شمال افريقيا البرهان لدى استقباله نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي السبت (مجلس السيادة السوداني/إكس)

الخريجي يؤكد للبرهان: السعودية حريصة على استقرار السودان

تشهد مدينة بورتسودان حراكاً دبلوماسياً مطرداً لإنهاء الاقتتال بوصل المبعوث الأممي، رمطان لعمامرة، ومباحثات خاطفة أجراها نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي.

أحمد يونس (كمبالا)
الخليج مندوب فلسطين رياض منصور يتحدث خلال اجتماع لمجلس الأمن في مقر الأمم المتحدة (أ.ب)

السعودية ترحب بقرار أممي حول التزامات إسرائيل

رحّبت السعودية بقرار للأمم المتحدة يطلب رأي محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل تجاه الفلسطينيين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«عاصمة فلسطين» في سوريا... ضحية «القضية»

يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)
يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)
TT

«عاصمة فلسطين» في سوريا... ضحية «القضية»

يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)
يحاكي الدمار بين جنبات المخيم مشاهد الحرب في غزة (الشرق الأوسط)

كان مخيم اليرموك، الذي أنشئ عام 1957 على أطراف دمشق وكان يوصف بـ«عاصمة فلسطين في سوريا»، سوقاً تجارية كبيرة، وسكنه نحو مليون ونصف المليون شخص من السوريين والفلسطينيين وبعض العراقيين، لكن، وفق تقديرات الـ«أونروا»، ليس فيه حالياً سوى نحو 8 آلاف نسمة.

«الشرق الأوسط» جالت على المخيم ورصدت دماراً يحاكي دمار غزة.

يعاني السكان الإهمال التام، وعدم معرفة مصيرهم ومصير ذويهم من المفقودين، ومآلات منازلهم، ووضعهم العام في المرحلة المقبلة، إلا إنَّ الأصعب بالنسبة إليهم يبدو في شكواهم المتكررة من أنَّهم في حالة ضياع، ومتروكون لمصيرهم، دون أي مرجعية اجتماعية أو خدمية أو سياسية، كأنهم أصبحوا فجأة أيتام النظام السابق والفصائل المسلحة والثورة والتحرير دفعة واحدة.