خسائر متلاحقة و«حبس أنفاس» اقتصادية ومعيشية في لبنان

التضخم في حدود 250% ومعدلات الفقر تناهز 80 %

تراجع حركة المسافرين في مطار بيروت (أ.ف.ب)
تراجع حركة المسافرين في مطار بيروت (أ.ف.ب)
TT

خسائر متلاحقة و«حبس أنفاس» اقتصادية ومعيشية في لبنان

تراجع حركة المسافرين في مطار بيروت (أ.ف.ب)
تراجع حركة المسافرين في مطار بيروت (أ.ف.ب)

يعكس الإرباك السائد في حركة الركاب والطائرات بمطار بيروت (رفيق الحريري الدولي)، جانباً من تعمّق حال عدم اليقين من احتمالات توسع العمليات العسكرية الجزئية في الجنوب، بالاستناد إلى ضعف الركائز القائمة للأنشطة الاقتصادية والإنتاجية في لبنان، لا سيما بعدما تكفّلت المخاوف في الأسابيع القليلة الماضية، بإحداث انقلابات دراماتيكية في مؤشرات التحسن النسبي الذي بدأ بعض القطاعات الحيوية تسجله ومحاولات إعادة انتظام المالية العامة، والمترجَم عموماً في الاستعادة الخجولة للنمو الإيجابي في الناتج المحلي.

ووفق إيجاز مبكر ورد في تقرير مصرفي محدث، فإن أي توسّع للصراع نحو الأراضي اللبنانية يمكن أن تترتّب عليه خسائر اقتصادية جسيمة وتداعيات سلبية لافتة على الأوضاع المالية والنقدية الداخلية، إذ من المرجّح أن يؤدي إلى توسيع الفجوة بين الناتج المحلي الإجمالي الحالي والناتج المحتمل تحقيقه والتي تبلغ في الوقت الراهن نحو 70 في المائة. إضافةً إلى تفاقم التضخم الذي وصل بنهاية الفصل الثالث إلى نحو 250 في المائة، وزيادة معدلات الفقر التي تناهز 80 في المائة والبطالة التي تتعدّى و30 في المائة.

وفي الأساس، يعاني لبنان جراء تراكمات الانهيارات المتفاقمة على مدار أربع سنوات متتالية، من انكماش حاد في الناتج المحلي الذي اقترب من مستوى 16 مليار دولار مقارنةً بنحو 55 مليار دولار قبل انفجار الأزمات، وبتآكل مريع للعملة الوطنية بنسبة فاقت 98 في المائة قبيل تصحيحها حسابياً لتنخفض قليلاً إلى نحو 83 في المائة بعد تعديل سعر الصرف الرسمي بمضاعفته 10 مرات أوائل العام الحالي.

ومن شأن نفاد الاحتياطيات الحرة من العملات الصعبة (باستثناء الذهب) دون خط التوظيفات الإلزامية العائدة للودائع في البنوك، أن يَحول عملياً دون توفر أي إمدادات لتغطية المصاريف الطارئة للدولة. وواقع الحال أن المتبقي من صافي الاحتياطيات النقدية لدى البنك المركزي يقارب 7 مليارات دولار بعد احتساب قيود الخصوم. وهذا الرصيد يقل أساساً عن حقوق التوظيفات الإلزامية للمودعين في الجهاز المصرفي التي تناهز 13 مليار دولار، ومن دون احتساب التوظيفات الاستثمارية للجهاز المصرفي التي تفوق 85 مليار دولار.

وفي المقابل، فقد تسبب تأخير الحكومة وسائر السلطات المستمر، حسب مسؤول مالي رفيع تواصلت معه «الشرق الأوسط»، في اعتماد خطة الإنقاذ والتعافي وضرورات الشروع بتنفيذ الإصلاحات الهيكلية المطلوبة، بسدٍّ شبه محكم لكل مسارب المساعدات المالية الإقليمية والدولية على السواء باستثناء المخصص منها للأغراض الإنسانية ومعاونة النازحين. وذلك يشمل ما برز جلياً في إعاقة الاستجابة لشروط إبرام اتفاق منجَز مع صندوق النقد الدولي يتضمن برنامجاً تمويلياً بقيمة 3 مليارات دولار، وفتح أبواب الدعم الخارجي.

ويُخشى على نطاق داخلي واسع من حصول تحولات ميدانية ولوجيستية تؤثر على حركة تحويلات الأموال إلى الداخل، بوصفها الرئة شبه الوحيدة التي يتنفس من خلالها المواطنون والنازحون في لبنان، وتسهم تدفقاتها أيضاً في استدامة الاستقرار النقدي الهش تحت سقف 90 ألف ليرة للدولار. في حين يرتفع منسوب القلق من شحٍّ محتمَل لتوفر مواد أساسية أو تعثر إمداداتها وبالأخص بينها القمح والأدوية والمحروقات والأساسيات الغذائية المستوردة.

وتبلغ تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين نحو 7 مليارات دولار سنوياً، وفق تقارير البنك الدولي، أي ما يوازي نحو 44 في المائة من الناتج المحلي. ويوازي هذه الأرقام المرصودة قيودها عبر الجهاز المصرفي وشركات تحويل الأموال، تدفقات نقدية محمولة عبر الوافدين مقدَّرة بما يزيد على ملياري دولار. فضلاً عن تدفقات المواسم السياحية التي تعدّت مستوى 5 مليارات دولار هذا العام.

ولعل الأهم في توصيفات واقع الحال، يكمن في نسبة التضخّم الحقيقيّ، حيث سجّل لبنان أعلى نسبة تغيّر سنويّة في أسعار الغذاء في العالم التي بلغت 44 في المائة خلال العام الحالي. بينما سجّل ثاني أعلى نسبة تضخّم اسميّة في أسعار الغذاء حول العالم بين الفترة الممتدّة بين نهايتي الفصل الثالث للعامين الحالي والسابق، محققاً رقم 274 في المائة، نسبة تغيّر سنويّة في مؤشّر تضخّم أسعار الغذاء، مسبوقاً فقط بفنزويلا (318 في المائة) ومتبوعاً بالأرجنتين (134 في المائة) وتركيا (76 في المائة).

ووفق الرصد الأولي لانعكاسات المستجدات الميدانية للعمليات العسكرية، يقدّر رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق محمد شقير، أن الوضع الاقتصادي يتدهور بشكل دراماتيكي من سيئ إلى أسوأ بعد حرب غزة والأحداث الدائرة في الجنوب، مما ينذر بانهيار كل القطاعات الاقتصادية بعد أربع سنوات من المعاناة جراء الأزمة الاقتصادية والمالية.

ولفت شقير إلى أن كل ما جَنَته القطاعات الاقتصادية خلال موسم الصيف الماضي يجري استنزافه حالياً، بل إن «ما لم تستطع عليه الأزمة الاقتصادية في أربع سنوات، يجري الآن وبشكل متدحرج القضاء على القطاع الخاص اللبناني وارتطام الاقتصاد الوطني والبلد بقعر الهاوية». وفي إدراج أوّلي لمستجدات المعطيات والأرقام والإحصاءات التي جمعت من المعنيين في مختلف القطاعات الاقتصادية، يتبيّن أن الطلب على المواد الغذائية والمواد الضرورية يسجل ارتفاعاً لبعض الفترات نتيجة توجه مستهلكين إلى التخزين. وفي المقابل يجري تسجيل انخفاض كبير على طلب السلع الأخرى والكماليات، مما يعكس حرص المستهلكين على الاحتفاظ بأكبر قدر من السيولة النقدية. واستتباعاً، خسر القطاع السياحي فرصة ذهبية لاستدامة مسار التنشيط القوي الذي شهده موسم الصيف، وسُجل تراجع أكبر في حجم الأعمال في المطاعم والملاهي والسهر تراوحت نسبته بين 80 و90 في المائة. وبالمثل سجل قطاع الفنادق تراجعاً كبيراً إلى ما بين 5 و10 في المائة فقط من طاقته التشغيلية. وبالنسب عينها تراجع قطاع تأجير السيارات. كما يقدر أن التأثيرات تتزايد في القطاع الصناعي بسبب انكماش الطلب الداخلي والتصديري. ولم تَسْلَم قطاعات النقل الجوي والبحري من انكماشات مماثلة بحدود 30 إلى 35 في المائة.

كان الاقتصاد الوطني قد سجل تحسناً نسبياً في أدائه هذا العام، لا سيّما خلال الصيف مع توافد أعداد لافتة من المغتربين اللبنانيين والسياح. كما سجل الإنفاق الاستهلاكي نمواً يُستدَل عليه، وفق رصد تقرير مصرفي، من خلال زيادة ورود البضائع إلى مرفأ بيروت، وبالأخص منها المواد الغذائية والمشروبات والملبوسات والمجوهرات، مما يعكس تحسناً في الاستهلاك من المقيمين والوافدين.


مقالات ذات صلة

جعجع: «محور الممانعة» يزجّ بلبنان في حرب عبثيّة لا أفق لها

المشرق العربي رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في احتفال «ذكرى شهداء المقاومة اللبنانية» (القوات اللبنانية)

جعجع: «محور الممانعة» يزجّ بلبنان في حرب عبثيّة لا أفق لها

أكد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، أن «اليوم التالي للحرب يجب أن يكون يوماً لإعادة النظر في كلّ شيء ما عدا حدود لبنان ووحدته».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي نزلاء سجن رومية ينتظرون قانون العفو العام (الوكالة الوطنية للإعلام)

وفاة سجين في «رومية» تحيي قضية «الموقوفين الإسلاميين»

عادت قضية «الموقوفين الإسلاميين» إلى الواجهة مع وفاة سجين السبت جرّاء أزمة قلبية والتأخر في تقديم الإسعافات له ما دفع برفاقه إلى التحرّك داخل سجن رومية المركزي.

يوسف دياب (بيروت)
المشرق العربي سيدات يقفن إلى جانب أحد المنازل المدمرة في بلدة الخيام (أ.ف.ب)

غالانت: سنواصل ضرب «حزب الله» حتى إعادة سكان الشمال

جدّد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت تأكيده على مواصلة المواجهات مع «حزب الله» حتى إعادة سكان الشمال إلى منازلهم.

«الشرق الأوسط»
تحليل إخباري سفراء «اللجنة الخماسية» خلال اجتماع لهم بسفارة قطر في بيروت (السفارة القطرية)

تحليل إخباري تبادل الشروط يبقى تفصيلاً أمام توافر النيات لانتخاب رئيس للبنان

يتجدد الرهان في لبنان على إمكانية إخراج الوضع السياسي من مرحلة تقطيع الوقت بانتخاب رئيس للجمهورية وظهور بوادر تشير إلى اعتزام «اللجنة الخماسية» استئناف جهودها.

محمد شقير (بيروت)
المشرق العربي النازحون السوريون في لبنان تحوّلوا إلى مادة سجال داخلي (أ.ب)

معظم القوى اللبنانية لا تمانع حواراً مع النظام السوري لإعادة النازحين

عاد ملف النازحين السوريين في لبنان إلى الموائد السياسية اللبنانية.

بولا أسطيح (بيروت)

وزير الدفاع السوري لنظيره الإيراني: نحن في القارب نفسه

رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقر يستقبل وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس في يناير 2023 (أرشيفية)
رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقر يستقبل وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس في يناير 2023 (أرشيفية)
TT

وزير الدفاع السوري لنظيره الإيراني: نحن في القارب نفسه

رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقر يستقبل وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس في يناير 2023 (أرشيفية)
رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقر يستقبل وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس في يناير 2023 (أرشيفية)

قال وزير الدفاع السوري، العماد علي محمود عباس، إن سوريا ودول محور المقاومة في «القارب نفسه» وعلى «الجبهة نفسها» يقاتلون إسرائيل، وإن «التعاون المشترك» سيجعلهم أقوى في مواجهة «المحور المتغطرس»، وفق ما أفادت به وسائل إعلام إيرانية قالت إن وزير الدفاع السوري هنأ، في اتصال هاتفي اليوم الأحد، نظيره الإيراني، العميد عزيز نصير زاده، بتعيينه وزيراً للدفاع وإسناد القوات المسلحة الإيرانية.

وفي حين لم تشر وسائل الإعلام السورية الرسمية إلى خبر الاتصال بين الوزيرين حتى إعداد هذا التقرير، فقد أفادت وكالة «مهر» الإيرانية بأن الوزير الإيراني أكد دعم بلاده «إرساء الأمن واحترام وحدة الأراضي السورية»، مشيراً إلى القواسم المشتركة بين البلدين، لا سيما دعم سوريا محور المقاومة، لافتاً إلى أنه «يجب تنفيذ الاتفاقيات بين البلدين؛ بما في ذلك نتائج زيارتكم إلى طهران».

اللجنة الاقتصادية المشتركة السورية - الإيرانية في دمشق خلال أبريل الماضي (سانا)

يُذكر أن وزير الدفاع السوري، العماد علي محمود عباس، زار طهران في مارس (آذار) الماضي في ظل ازدياد احتمالات توسع الحرب مع إسرائيل وتصعيد الضربات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية التي تستهدف القوات الموالية لـ«الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله».

وعلق الوزير الإيراني، العميد عزيز نصير زاده، على نتائج الزيارة الماضية من وزير الدفاع السوري إلى طهران، بالقول: «سوف يتوسع التعاون بسرعة أكبر».

رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقر يستقبل وزير الدفاع السوري العماد علي محمود عباس في يناير 2023 (أرشيفية)

كما عبر الوزير الإيراني عن أسفه لعدم رؤية بلاده «أي رد فعل مناسب من المجتمع الدولي تجاه جرائم الكيان الصهيوني»، مشدداً على أنه يجب أن يستمر التعاون بين إيران وسوريا، وأن هذا «التعاون سيؤدي حتماً إلى هزيمة الكيان الصهيوني».

ونقلت «مهر» عن وزير الدفاع السوري تطلعه إلى استمرارية العلاقات بإيران، وبذل القوات المسلحة في البلدين «مزيداً من الجهود بما يتماشى مع أهداف البلدين». وقال: «نحن معكم، وعلى الجبهة نفسها. إن أمن البلدين واحد»، وإن «محور المقاومة في القارب نفسه، ويقاتلون كيان الاحتلال الذي ارتكب كثيراً من الجرائم ضد الإنسانية في غزة وسوريا واليمن». وشدد على أن التعاون المشترك «سيجعلنا أقوى في مواجهة هذا المحور المتغطرس» متمنياً تطوير هذا التعاون والاتفاقيات، والاستمرار على «هذا المنوال في مواجهة قوى الشر» وفق «مهر».

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (أ.ف.ب)

الاتصال الهاتفي بين وزيرَي الدفاع الإيراني والسوري، جاء بعد ساعات من تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن «موسكو مهتمة بتطبيع العلاقات بين النظام السوري وتركيا»، مؤكّداً أنّ «اجتماعاً جديداً سيُعقد في المستقبل القريب».

ورأت مصادر متابعة في دمشق أن «طهران، ومع كل تطور إيجابي تحققه موسكو فيما يخص ملف التقارب السوري ـ التركي، تبعث برسائل تؤكد نفوذها في سوريا، وتذكّر الجانب السوري بـ(وجوب تنفيذ الاتفاقيات المشتركة وتسديد الديون المستحقة عليه)، في نوع من الضغوط على دمشق حتى لا تمضي في ملف التقارب بعيداً عن المصالح الإيرانية».

منطقة البوكمال نقطة استراتيجية للمسلّحين المُوالين لإيران شرق سوريا (أ.ف.ب)

ولفتت المصادر إلى أن ضغوطاً قوية تمارَس على دمشق من الحليفين: الروسي؛ للدفع باتجاه التقارب مع تركيا، والإيراني؛ للتريث واستثمار هذا الملف في إعادة صياغة التوازنات في المنطقة؛ لا سيما مع الجانب الأميركي.

ورجحت المصادر تصدير دمشق موقفين لحليفيها: الأول إظهار التجاوب مع مساعي موسكو وبث رسائل إيجابية تجاه التقارب مع تركيا، والموقف الثاني يهادن الضغوط الإيرانية ويظهر التمسك بثبات الموقف من «محور المقاومة» والالتزام بسياساته، وإظهار التريث تجاه التقارب مع تركيا.

ولفتت المصادر إلى ما سبق أن تناولته وسائل إعلام عربية عن «زيارة سرية من رئيس الأركان السوري، العماد عبد الكريم محمود إبراهيم، إلى إيران دون إبلاغ الرئيس بشار الأسد، وذلك في الأسبوع الأول من أغسطس (آب) الماضي. ورغم خطورة تلك المعلومات، فإنه لم يصدر رد فعل من دمشق؛ بل جرى تجاهلها تماماً. وهذا يضعنا أمام احتمالين: إما وجود انقسام داخل القيادة في سوريا، وإما هي (عملية توزيع أدوار، وتصدير مواقف عدة للتحايل على ضغوط الحليفين)».

اقرأ أيضاً

اقرأ أيضاً