النزوح جنوباً... مئات الآلاف من سكان غزة يواجهون المجهول

طفل فلسطيني ينظر من خلال منزله المتضرر إلى منزل دمر تماماً في قصف إسرائيلي (الأونروا)
طفل فلسطيني ينظر من خلال منزله المتضرر إلى منزل دمر تماماً في قصف إسرائيلي (الأونروا)
TT

النزوح جنوباً... مئات الآلاف من سكان غزة يواجهون المجهول

طفل فلسطيني ينظر من خلال منزله المتضرر إلى منزل دمر تماماً في قصف إسرائيلي (الأونروا)
طفل فلسطيني ينظر من خلال منزله المتضرر إلى منزل دمر تماماً في قصف إسرائيلي (الأونروا)

منذ أن أعلن الجيش الإسرائيلي، يوم الجمعة الماضي، قراره بضرورة إخلاء سكان مدينة غزة لمنازلهم والتوجه نحو جنوب القطاع، وجد مئات الآلاف ممن يقطنون المنطقة أنفسهم أمام مصير مجهول لم يسبق لهم أن عايشوه.

فعلى مدار الحروب والمواجهات العديدة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، كانت هذه المنطقة تُصنف باعتبارها مركز القطاع وملجأ النازحين من مختلف أنحائه.

فالنزوح في الماضي، منذ حرب غزة عام 2008، لم يكن ليتعدى بعض المناطق الحدودية مع إسرائيل إلى الشرق من مدينة غزة.

أما القصف الأخير الذي اشتعل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فلم تنجُ منه مستشفيات ولا منشآت ولا مراكز لجأ إليها المئات من المدنيين النازحين.

تقول فريال، إحدى النازحات من حي الرمال بغرب المدينة: «عندما تلقينا خبر الإخلاء سارعنا بأخذ الأوراق المهمة والقليل من الملابس دون التفكير بالخطوة التالية. كل ما كان يهمني أن أخرج بأطفالي نحو جنوب القطاع دون أن أفكر في الوجهة».

وعند الوصول، صُدمت بضخامة أعداد النازحين وطبيعة مراكز الإيواء التي كانت أول مرة تراها فيها. فخلال حملة القصف، وقعت مئات الغارات على مدينة غزة وضواحيها، ودُمرت مئات المباني والمرافق الحكومية والخدماتية، كما استهدفت الطرق الواصلة بينها، ما أدى إلى تغير ملامح مساحات واسعة من القطاع، وطغى الدمار على المشهد.

ومساء الثلاثاء الماضي، تعرض المستشفى الأهلي العربي، المعروف باسم مستشفى المعمداني، في غزة، الذي كان يؤوي مئات النازحين، لقصف أودى بحياة 500 فلسطيني، بحسب وزارة الصحة في القطاع.

الأونروا وعالم «فقد إنسانيته»

عادة ما تفتح وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) مدارسها ومرافقها الصحية لاستقبال النازحين خلال جولات القتال بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل.

لكن هذه المنشآت ما عادت في مأمن. ففي بث مباشر أمس الأربعاء، قال تلفزيون «فلسطين» إن رجال الإنقاذ انتشلوا «عشرات القتلى والمصابين» في قصف مدرسة تابعة للأونروا بمخيم المغازي في وسط غزة.

وكان فيليب لازاريني، المفوض العام للأونروا، قد ذكر في بيان في وقت سابق من أمس، أن مدرسة تابعة للوكالة تؤوي أربعة آلاف نازح تعرضت للقصف، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن ستة أشخاص على الأقل وإصابة العشرات.

واليوم، استهدف القصف منزلاً سكنياً في محيط مدرسة تابعة للأونروا تؤوي نازحين في حي الأمل بغرب خان يونس.

ورصد شاهد لوكالة أنباء العالم العربي (AWP)، وصول أربع جثث على الأقل وعدد من المصابين إلى مستشفى ناصر الطبي جراء الاستهداف.

وقالت الأونروا، هذا الأسبوع، إن أكثر من مليون شخص في غزة، أي ما يقرب من نصف عدد سكان القطاع، نزحوا منذ بدء المواجهات بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.

وذكرت في بيان أن هناك نحو 600 ألف نازح في المنطقة الوسطى وخان يونس ورفح بقطاع غزة، من بينهم حوالي 400 ألف في مرافقها.

وأشارت إلى أنها أخلت 127 منشأة تابعة لها في مدينة غزة وشمال القطاع كان يوجد بها ما يقرب من 170 ألف نازح وقت صدور أمر الإخلاء الإسرائيلي.

وقال لازاريني، في تصريحات صحافية يوم الاثنين، إن الأونروا لم يعد بمقدورها تقديم المساعدة الإنسانية في غزة، مؤكداً أن عدد من يلتمسون المأوى في مرافقها الأخرى بجنوب القطاع «هائل للغاية».

وأضاف: «لم يتم السماح بدخول قطرة ماء واحدة، ولا حبة قمح واحدة، ولا لتر وقود إلى قطاع غزة خلال الأيام الثمانية الماضية. لم يعد زملائي في الأونروا في غزة قادرين على تقديم المساعدة الإنسانية».

وقال إن غزة تشهد «كارثة غير مسبوقة»، وإن العالم «فقد إنسانيته على ما يبدو».

«اليوم كلنا نازحون»

يروي محمد، النازح من تل الهوى جنوب غربي مدينة غزة، حكايته ويقول: «في بداية الأمر قررت الإخلاء نحو مستشفى القدس القريب من بيتي، ولم أستطع تحمل الأوضاع هناك».

فالمستشفى مكتظ بدرجة حالت دون قدرته هو وأفراد أسرته العشرة على البقاء به. يستطرد قائلاً: «ما زاد الطين بلة هو تهديد إسرائيل بقصف المشفى، والغارات الجوية المرعبة في محيطه وفي منطقة تل الهوى بالعموم».

قرر محمد مغادرة المنطقة والتوجه نحو إحدى مدارس الأونروا في مدينة دير البلح الواقعة على بعد 14 كيلومتراً جنوبي مدينة غزة.

وليد المصري نازح آخر، قال: «لم أشهد نزوحاً مثل هذا في قطاع غزة على مر حياتي التي نزحت خلالها خمس مرات»، مشيراً إلى أنه من سكان مدينة بيت حانون بشمال قطاع غزة.

وأضاف: «عادة ما كنا ننزح إلى المدارس القريبة من منطقتنا أو في مدينة غزة. لكن اليوم كلنا نازحون نحو الجنوب، في مشهد لم أره سابقاً وسيؤدي إلى كوارث إنسانية واجتماعية».

رفض التهجير

ووسط خضم أحاديث عن محاولات إسرائيلية لدفع أهالي غزة نحو الجنوب بغية «تهجيرهم» إلى سيناء بمصر، تعالت النبرات الرافضة والمحذرة من ذلك. ففي عمّان، أصدر الديوان الملكي الأردني، اليوم الخميس، بياناً جاء فيه أن الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شددا على رفض أي محاولة «للتهجير القسري» لسكان قطاع غزة إلى الأردن أو مصر.

وشدد البيان على موقف البلدين «الموحد الرافض لسياسة العقاب الجماعي من حصار أو تجويع أو تهجير» لسكان غزة، وحذر الزعيمان من أن «عدم توقف الحرب واتساعها وانتشار آثارها سينقل المنطقة إلى منزلق خطير ينذر بالتسبب في دخول الإقليم بكارثة تُخشى عواقبها».

وفي القاهرة، أعلن مجلس النواب اليوم تفويضه للسيسي في اتخاذ ما يلزم لحماية الأمن القومي ودعم الفلسطينيين. وكان مجلس الشيوخ المصري قد أعلن أمس دعمه للرئيس «في كل ما يتخذه من إجراءات لحماية الأمن القومي وتأمين حدود الدولة ودعم الشعب الفلسطيني».

جاء ذلك بعدما حذر الرئيس المصري أمس من أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء سيعني تحويلها إلى قاعدة تنطلق منها هجمات على إسرائيل، مما قد يستدعي رداً من الجانب الإسرائيلي، وهو ما من شأنه أن يبدد فكرة السلام.

وشدد السيسي على أن مصر ترفض تصفية القضية الفلسطينية بالأدوات العسكرية، أو أي محاولات لتهجير الفلسطينيين قسراً «أو أن يأتي ذلك على حساب المنطقة».

ونظم آلاف المصريين بالفعل وقفات احتجاجية في عدة محافظات، أمس الأربعاء، تنديداً بالهجمات الإسرائيلية في قطاع غزة، ورفضاً لمحاولات تهجير سكانه لسيناء وتصفية القضية الفلسطينية. ووسط كل هذه الأحداث المتلاحقة، تبقى عيون النازحين معلقة على مصير مجهول.


مقالات ذات صلة

خليفة «أبو شباب» يتعهد بمواصلة مقاومة «حماس»

المشرق العربي ياسر أبو شباب في صورة نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية (أرشيفية)

خليفة «أبو شباب» يتعهد بمواصلة مقاومة «حماس»

أكدت «القوات الشعبية» التي كان يتزعمها ياسر أبو شباب، مقتله خلال محاولته فض نزاع عائلي، مشددةً على أنه لم يكن لحركة «حماس» أي علاقة بظروف مقتله.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص لسوريا توماس براك خلال مقابلة مع وكالة «رويترز» في بيروت - لبنان - 22 يوليو 2025 (رويترز)

براك: على لبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»

قال المبعوث الأميركي توم براك، اليوم (الجمعة)، إنه ينبغي للبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»، معبّراً عن أمله في ألا توسع إسرائيل هجماتها على لبنان.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي الحدود المصرية - الإسرائيلية (رويترز)

تصعيد جديد بين مصر وإسرائيل «لن يصل إلى صدام»

عدَّت مصر التصريحات الإسرائيلية الأخيرة عن فتح معبر رفح من الجانب الفلسطيني لخروج سكان قطاع غزة فقط، دون الدخول، عودة لمخطط التهجير المرفوض لديها.

محمد محمود (القاهرة)
المشرق العربي مقاتلون من «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس» يقفون حراساً أثناء البحث عن جثث رهائن إسرائيليين إلى جانب عمال الصليب الأحمر وسط أنقاض مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة يوم 1 ديسمبر 2025 (إ.ب.أ) play-circle

إسرائيل تعلن مقتل 40 مسلحاً محاصراً من «حماس» في أنفاق تحت رفح

قال الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، إنه قُتل نحو 40 من مسلحي حركة «حماس» الذين كانوا محاصرين في أنفاق تحت رفح بجنوب قطاع غزة داخل منطقة تسيطر عليها إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي القيادي الفلسطيني ياسر أبو شباب (وسائل التواصل) play-circle

مقتل ياسر أبو شباب في غزة

قالت إذاعة الجيش الإسرائيلي، اليوم (الخميس)، نقلاً عن مصادر أمنية، إن ياسر أبو شباب أبرز زعماء العشائر المناهضة لحركة «حماس» في قطاع غزة توفي متأثراً بجراحه.

«الشرق الأوسط» (غزة)

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
TT

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)

رفع الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، سقف خطابه السياسي، مؤكداً أنّ المشاركة برئيس مدني في لجنة وقف إطلاق النار تمثل «إجراءً مخالفاً للتصريحات والمواقف الرسمية السابقة»، التي كانت تشترط، حسب تعبيره، وقف الأعمال العدائية من قبل إسرائيل قبل إشراك أي مدني في آلية التنفيذ.

وفيما أعرب عن تأييده «خيار الدبلوماسية» الذي تتبعه السلطات اللبنانية، رأى أن تعيين السفير سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني، هو «تنازل مجاني لن يغيّر من موقف إسرائيل ولا من عدوانها ولا من احتلالها»، مشيراً إلى أنّ «المندوب المدني ذهب واجتمع فازداد الضغط، وأن إسرائيل ومعها أميركا تريدان إبقاء لبنان تحت النار».

وتأتي مواقف قاسم في وقتٍ لم يعلن فيه رئيس البرلمان نبيه بري اعتراضاً على تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني، إنما أكد على ضرورة حصر دوره بالإطار التقني وعدم توسيعه إلى مستويات تفاوضية أو سياسية، وهو ما يعكس تمايزاً واضحاً حول هذا القرار بين الحليفين.

تقديم تنازلات في لحظة حساسة

ووصف قاسم في كلمة له خطوة تعيين مدني بـ«سقطة إضافية تُضاف إلى خطيئة 5 أغسطس (قرار الحكومة لحصرية السلاح)» معتبراً أنّه «بدلاً من اتخاذ خطوات إلى الأمام تُقدَّم تنازلات لن تنفع مع إسرائيل»، داعياً الحكومة للتراجع عن القرار، وأن «يجري تفاهم داخلي على قاعدة عدم السماح بأي تنازل حتى تطبق إسرائيل ما عليها».

مناصرون يحملون أعلام «حزب الله» اللبناني في بيروت (أرشيفية - رويترز)

«السفينة الغارقة»

واعتبر قاسم أنّ الحزب «قام بما عليه ومكّن الدولة من فرض سيادتها في إطار الاتفاق»، قبل أن ينتقل إلى تشبيه لبنان بـ«السفينة»، معتبراً أنّ «التماهي مع إسرائيل يعني ثقب السفينة، وعندها يغرق الجميع».

وقال إنه يجب مواجهة العدوان الإسرائيلي التوسعي بكل الوسائل والسبل، مضيفاً: «هناك اتفاق لم يتم الالتزام به رغم التزام لبنان، الاعتداءات ليست من أجل السلاح، بل من أجل التأسيس لاحتلال لبنان ورسم إسرائيل الكبرى من بوابة لبنان».

وفي المقابل، أكد قاسم أنّ «الدولة اختارت طريق الدبلوماسية لإنهاء العدوان، ونحن معها أن تستمر في هذا الاتجاه». لكنه شدد على أنّه «لا علاقة لأميركا وإسرائيل بكيفية تنظيم شؤوننا الداخلية، ولا علاقة لهما بما نختلف عليه أو نقرره في لبنان».

وشدّد على أنّ «الحدّ الذي يجب الوقوف عنده هو حدود الاتفاق الذي يتحدث حصراً عن جنوب نهر الليطاني، ولا وجود لما يسمى ما بعد جنوب نهر الليطاني».

وتابع قاسم: «هم يريدون إلغاء وجودنا»، لكن «سندافع عن أنفسنا وأهلنا وبلدنا، ونحن مستعدون للتضحية إلى الأقصى، ولن نستسلم».


الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
TT

الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)

شكر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «كندا على قرارها رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب». وأضاف، في بيان، اليوم (الثلاثاء): «نثمن دعم كندا لسوريا في مسيرتها الحالية نحو الاستقرار وإعادة الإعمار».

وتابع البيان: «إن هذا القرار يشكل لحظة مهمة لتعزيز العلاقات السورية – الكندية، ويمهِّد لمرحلة جديدة من الشراكات المتعددة... إن سوريا تشدد على استعدادها للعمل مع الشركاء الدوليين كافة والتواصل الإيجابي بما يسهم في دعم جهود التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، ويصبّ في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين».


توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
TT

توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)

أكّدت مصادر وزارية أنه لا خلاف بين الرؤساء الثلاثة، مع دخول المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية مرحلةً جديدةً بإدخال مدني إليها، هو سفير لبنان السابق لدى واشنطن، المحامي سيمون كرم، لترؤس الوفد اللبناني للجنة الـ«ميكانيزم»، بغية تفعيل اجتماعاتها للتوصل إلى اتفاق أمني، قاعدته الأساسية تطبيق وقف الأعمال العدائية، بخلاف اجتماعاتها السابقة التي غلبت عليها المراوحة، وتشاركت وقيادة القوات الدولية «اليونيفيل» في تعداد الخروق والغارات الإسرائيلية.

ولفتت إلى أن توافق الرؤساء على إخراج الـ«ميكانيزم» من الدوران في حلقة مفرغة، تلازم مع رسم حدود سياسية للتفاوض، محصورة بوقف الخروق والاعتداءات الإسرائيلية، والانسحاب من الجنوب، وإطلاق الأسرى اللبنانيين، وإعادة ترسيم الحدود وتصحيحها، انطلاقاً من التجاوب مع تحفّظ لبنان على النقاط المتداخلة الواقعة على الخط الأزرق والعائدة لسيادته.

رئيس الحكومة نواف سلام مجتمعاً مع السفير سيمون كرم (رئاسة الحكومة)

وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن لبنان يصر على حصر جدول أعمال المفاوضات ببنود أمنية لا يمكن تجاوزها للبحث في تطبيع العلاقات اللبنانية - الإسرائيلية، والتوصل إلى اتفاقية سلام بين البلدين، وهذا ما أجمع عليه رؤساء «الجمهورية»، العماد جوزيف عون، و«الحكومة»، نواف سلام، و«المجلس النيابي»، نبيه بري، الذي كان أول من اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، ومن ثم أصروا على تكرار موقفهم في هذا الخصوص استباقاً لانعقاد الجولة الأولى من المفاوضات، بحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس ومشاركة كرم فيها، بما يتعارض مع جدول أعمالها الذي حدده رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.

وقالت إن نتنياهو يريد تكبير الحجر لتحريض «حزب الله» على الدولة وإرباكها، فيما يواصل جيشه خروقه واعتداءاته لتأليب بيئته عليه، وهذا ما تبين باستهدافه عدداً من المنازل الواقعة بين جنوب نهر الليطاني وشماله، رغم خلوها من مخازن لسلاح الحزب. ورأت بأنه يواصل ضغطه بالنار لإلزام لبنان بالتسليم لشروطه، وإن كان يدرك سلفاً أنه لا مجال أمام المفاوضات لخروجها عن جدول أعمالها التقني - الأمني، بالتلازم مع إصرار الحكومة اللبنانية على تطبيق حصرية السلاح بيد الدولة، ولا عودة عنه.

وتوقفت المصادر أمام تأكيد بري أنه كان أول مَن اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، وسألت، أين يقف الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم من اقتراحه؟ وهل سبق أن اعترض على اقتراح «أخيه الأكبر» في هذا الخصوص؟ رغم أنه في كتابه المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة أكّد رفضه للمفاوضات مع إسرائيل، ليعود لاحقاً إلى تصويب ما حمله كتابه هذا، بتكليفه قيادياً في الحزب بأن ينقل رسالة إليه مفادها أنه لم يكن هو المقصود به، لقطع الطريق على افتعال مشكلة داخل البيت الشيعي.

كما سألت قاسم، ألم يوافق الحزب على اجتماعات الـ«ميكانيزم»، ما دام «أخوه الأكبر» هو مَن يفاوض باسمه وكان وراء التوصل لاتفاق وقف النار مع الوسيط الأميركي آنذاك أموس هوكستين؟ وقالت إنه ليس لدى الحزب من أوراق سوى رفع سقف اعتراضه على المفاوضات، ولم يعد يملك ما يسمح له بأن يعيد خلطها في ضوء اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، بعد أن أفقده إسناده غزة منفرداً توازن الردع وقواعد الاشتباك.

الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)

ولفتت المصادر إلى أن الحزب يفتقد إلى أي بدائل لقلب موازين القوى، ويكتفي بتسجيل اعتراض من العيار الثقيل على المفاوضات، من دون أن يكون في وسعه ترجمته عسكرياً، رغم إصراره على تمسكه بسلاحه واتهامه حكومة سلّام بارتكاب خطيئة بموافقتها على حصرية السلاح التي يُفترض أن تتقدم بدءاً من شمال الليطاني حتى حدود لبنان الدولية مع سوريا، بالتلازم مع تسجيل تقدم في المفاوضات.

ورأت أن الحزب مضطر لوزن موقفه، لأنه ليس وارداً كسر علاقته بعون وتهديد تحالفه ببري، ما يُسبّب انكشافه فيما هو بأمس الحاجة لحماية الداخل، إضافة لما يترتب على «خدش» علاقته بهما من تداعيات سلبية على الطائفة الشيعية، لا يريدها ويتفداها، وما هو المانع من أن يضع ما لديه من أوراق بعهدة بري، كونه الأقدر منه على مراعاته للمزاج الشيعي الذي ينشد تحرير الجنوب، وإفساحاً في المجال أمام عودة أهله إلى قراهم، ولا يرى من منقذ غيره، ويتطلع إليه خصومه على أنه الممر الإلزامي للتوصل إلى تسوية تُعيد إدراج لبنان على لائحة الاهتمام الدولي، وتفتح كوّة لإعادة إعمار البلدات المدمرة، خصوصاً أنه يحظى بعلاقات دولية وعربية، بخلاف الحزب الذي لم يعد له سوى إيران.

وأكدت المصادر أن دخول المفاوضات في مرحلة جديدة كان وراء الضغط الأميركي على إسرائيل لمنعها من توسعتها للحرب، بعد أن استجاب لبنان لطلبها بتطعيم الـ«ميكانيزم» بمدني كُلّف برئاسة وفده، وتمنت على «حزب الله» الوقوف خلف الدولة في خيارها الدبلوماسي، وأن مخاوفه من أن تؤدي إلى ما يخشاه بالتوصل مع إسرائيل إلى اتفاقية سلام ليست في محلها، ما دام أن حليفه بري هو أول من أيد تطعيمها بمدنيين، وبالتالي ما المانع لديه من أن يعطيها فرصة ليكون في وسعه بأن يبني على الشيء مقتضاه لاحقاً، بدلاً من أن يُبادر من حين لآخر إلى «فش خلقه» بسلام، رغم أنه ليس فاتحاً على حسابه، وينسق باستمرار مع عون، ويتعاونان لتطبيق حصرية السلاح التي نص عليها البيان الوزاري للحكومة.

وكشفت أن التواصل بين عون وبري لم ينقطع، وهما قوّما قبل انعقاد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء الأجواء التي سادت اجتماع الـ«ميكانيزم» في الناقورة، وقالت إن بري كان أوصى النواب المنتمين لكتلته النيابية، والمسؤولين في حركة «أمل»، بعدم التعليق لا سلباً ولا إيجاباً على كل ما يختص بالمفاوضات، وأن توصيته جاءت بناءً على رغبته في حصر الموقف به شخصياً لتفادي إقحام محازبي الطرفين في سجال، سرعان ما يتحول إلى مناوشات في الشارع، فيما الحزب يحرص، كما تقول قيادته، على تحصين علاقته بحليفه الأوحد في الساحة اللبنانية، بعد أن تفرّق عنه شركاؤه السابقون في محور الممانعة بتأييدهم حصرية السلاح.

وقالت المصادر إن الحزب يدرك جيداً أن الأبواب ما زالت مقفلة أمام تصويب علاقاته العربية والدولية، بخلاف بري. وسألت على ماذا يراهن، بعد أن رفضت قيادته المبادرة المصرية إصراراً منها، حسب مصادر دبلوماسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، بأن ترهن موقفها بالمفاوضات الأميركية - الإيرانية، ليكون بمقدورها أن تضعه في سلة إيران، لعلها تتمكن من الحفاظ على نفوذها في لبنان بعد تراجع محور الممانعة في الإقليم؟

لذلك، سيأخذ الحكم والحكومة علماً باعتراض «حزب الله»، من دون أن يكون له مفاعيل تصعيدية بتحريك الشارع لتفادي الاحتكاك مع محازبي «أمل»، ما دام أن انطلاقة المفاوضات لا تلقى اعتراضاً من بري، وتبقى تحت سقف تحرير الجنوب تطبيقاً للـ«1701»، إلا إذا ارتأى الدخول في مزايدة شعبوية مع حليفه لا طائل منها، وستؤثر سلباً على حمايته، على الأقل داخل طائفته.