حرب غزة... ورقة بوتين لتصعيد حملته السياسية على الغرب

روسيا مستعدة لوساطة... وإعلامها منقسم بين الطرفين

الرئيس بوتين وخلفه وزير الخارجية لافروف في بشكيك، اليوم الجمعة (سبوتنيك - أ.ب)
الرئيس بوتين وخلفه وزير الخارجية لافروف في بشكيك، اليوم الجمعة (سبوتنيك - أ.ب)
TT

حرب غزة... ورقة بوتين لتصعيد حملته السياسية على الغرب

الرئيس بوتين وخلفه وزير الخارجية لافروف في بشكيك، اليوم الجمعة (سبوتنيك - أ.ب)
الرئيس بوتين وخلفه وزير الخارجية لافروف في بشكيك، اليوم الجمعة (سبوتنيك - أ.ب)

مهما بدا الموقف متناقضاً و«سوريالياً»، بحسب وصف دبلوماسي سابق، فإن روسيا التي فوجئت كما فوجئ العالم بقوة واتساع حجم هجوم «حماس» على مستوطنات غلاف غزة، السبت الماضي، اتخذت بعد تمهّل قصير موقفاً يشدد على الخط العام للرؤية الروسية للصراع في المنطقة. جوهر المدخل الروسي يقوم على ضرورة احترام القرارات الدولية والانطلاق من أهمية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى جانب إسرائيل.

التناقض يظهر في مسارعة بلد يواجه اتهامات كثيرة باحتلال مناطق في بلد مجاور، إلى الدفاع عن مبادئ القانون الدولي، عندما يتعلق الأمر بصراع تخوضه أطراف أخرى. لكن هذه الازدواجية، كما قال الدبلوماسي السابق، ليست حكراً على روسيا، فهي ظهرت عند الأوكرانيين الذين يواجهون «الاحتلال الروسي»، لكنهم «يدعمون استخدام القوة الإسرائيلية المفرطة ضد شعب آخر يعاني من الاحتلال منذ عقود. وظهرت أيضاً عند الغرب الذي يقاتل روسيا في أوكرانيا، بينما يرسل حاملات الطائرات لدعم بلد آخر يشن عدواناً مماثلاً على شعب أعزل».

نزوح من غزة اليوم في ضوء تحذير إسرائيلي بهجوم وشيك (أ.ف.ب)

هذه المقاربة لا يتطرق إليها الروس على صفحات إعلامهم الذي انقسم بشدة إلى طرف ينتقد تصرفات الغرب ويذكّر بالدعم الإسرائيلي لأوكرانيا، وفريق يمثّل الغالبية الكبرى ويمعن في عقد مقارنات بين الفلسطينيين و«نازيّي أوكرانيا».

أما الموقف الرسمي فهو يحمل بشدة انعكاسات المواجهة المتفاقمة مع الغرب. أول تعليق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ركّز على «فشل سياسات واشنطن في الشرق الأوسط». قال الرئيس الروسي خلال أعمال منتدى اقتصادي قبل يومين: «احتكرت الولايات المتحدة القرار بشأن التسوية، وأبعدت الأطراف الأخرى، ماذا كانت النتيجة؟ فشلت في تطبيق القرارات الدولية ووضع حد للمواجهة المتفاقمة وأسفرت سياساتها عن الوضع الحالي». كما انتقد بوتين، في عبارة لافتة، الوعود الأميركية الكثيرة بـ«رخاء اقتصادي» في مقابل التنازل عن حقوق وطنية، وقال إن تلك الوعود لم تنجح في إقناع شعب فلسطين بإنهاء جوهر المشكلة التي تقوم على احترام حقه في بناء دولته وتقرير مصيره.

وهكذا اتضح أن المدخل الروسي للتعليق على الحدث انطلق من ضرورات حشد كل الأدوات في تعزيز رزمة الانتقادات للمواقف الغربية. وكل ما تلا ذلك من تصريحات ودعوات جاء في هذا الإطار، من دون أن يحمل تلويحاً جاداً بتقديم عون اقتصادي أو إغاثي أو سياسي لحماية سكان غزة.

الرئيس الروسي مستعد لـ«وساطة» بين إسرائيل والفلسطينيين (أ.ف.ب)

في وقت لاحق، أكّد الرئيس الروسي أن بلاده مستعدة لتقديم جهود «وساطة» بين الطرفين، من دون أن يوضح المدخل الذي سوف تنطلق منه إذا وافق الطرفان على تلك الجهود. وهو أمر له دلالاته، لأن روسيا كانت تقليدياً تعلن استعدادها لاستقبال مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ثم تتحدث لاحقاً عن أن هذا يتطلب «موافقة الطرفين»، وهو أمر لا يمكن تحقيقه عملياً. أيضاً، قال الرئيس الروسي: «يتعيّن علينا البحث عن حل سلمي لتفاقم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي نظراً لأنه في الوضع الراهن لم تعد هناك بدائل أخرى». هذه العبارة كانت لافتة أيضاً، ففي حين يراقب العالم تحضيرات متسارعة لحرب برية شاملة، وعملية تهجير شاملة جديدة للفلسطينيين من غزة، تركّز تصريحات الكرملين على تكرار خطاب سياسي صحيح من وجهة النظر القانونية، لكنه منفصل عن الواقع المتسارع في تدهوره وعن ألسنة اللهب المتصاعدة حول غزة.

سُئل الرئيس الروسي في ندوة حوارية عن موضوع التهجير، فقال: «إلى أين يذهبون؟ (...) هذه أرضهم». عبارة أخرى تعكس دقة الموقف الروسي في التعامل مع الملف وفقاً لمدخل مبدأي، لكنها لم ترتبط بإعلان موقف جدي من جانب روسيا لعرقلة التحرك الإسرائيلي، المستند كما يبدو إلى غطاء غربي شامل انطلاقاً من حق إسرائيل في «الدفاع عن نفسها».

لقاء سابق بين بوتين والرئيس الفلسطيني محمود عباس في سوتشي على البحر الأسود عام 2021 (سبوتنيك - أ.ب)

سألت «الشرق الأوسط» الدبلوماسي السابق الذي لا يخفي معارضته للحرب في أوكرانيا، عن تفسيره لهذه المواقف، فقال: «قد يعكس هذا في جانب مهم منه ضحالة الرهان الروسي والصيني على إقامة عالم جديدة متعدد الأقطاب، حتى الآن على الأقل».

لتفسير عبارته، قال الدبلوماسي إن «اللحظة العالمية» مواتية لموسكو وبكين لترسيخ فكرة هدم آليات هيمنة الغرب على اتخاذ القرار العالمي، لكن الطرفين فضّلا تكرار خطاب سابق على إطلاق أفكار جديدة أو إعلان تحرك ملموس لوقف التحركات العسكرية الإسرائيلية، ولمواجهة عمليات «حشد القوات الغربية في البحر المتوسط والمنطقة». ورأى أن هذا الحشد مهمته الرئيسية «تخويف أطراف إقليمية»، مشيراً إلى أن روسيا لم تقم بأي خطوة عملية لإعلان اعتراضها على ذلك.

في المقابل، قال بوتين الجمعة أمام قمة رابطة الدول المستقلة، في بشكيك عاصمة قرغيزيا، تعليقاً على العملية البرية المحتملة في غزة، إن «استخدام المعدات العسكرية الثقيلة في المناطق السكنية يحمل تداعيات، في الوقت الذي سيكون فيه تنفيذ تلك العملية من دون المعدات أكثر صعوبة». كيف يمكن فهم تلك العبارات؟ يظهر، كما يبدو، أن موسكو ما زالت تتعامل مع الملف ليس بصفته حدثاً كبيراً يمكن أن يغيّر المنطقة والعالم، بل باعتباره «ورقة من أوراق المواجهة مع الغرب». أي أن موسكو ليست مقتنعة بعد بأن التحرك الإسرائيلي الحالي المستند إلى دعم غربي واضح وكامل يقوم على وضع مقدمات لـ«حل نهائي» للمسألة الفلسطينية، بل باعتبار المواجهة الحالية «واحدة من حلقات الصراع المتكررة».

وهذا في الواقع ما بدا من تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عندما قال إن روسيا «تأمل أن يأخذ الجميع على محمل الجد الالتزام بإنشاء دولة فلسطين، بعد انتهاء المرحلة الساخنة من الصراع الحالي في الشرق الأوسط». وشدد على «ضرورة التزام طرفي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي باحترام القانون الإنساني وتجنب الاستخدام العشوائي للقوة وأن يتحلى الجميع بالمسؤولية الجدية لتنفيذ قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن إنشاء دولة فلسطينية على أساس المبادئ التي وافقت عليها الأمم المتحدة».

لقاء سابق بين بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكرملين عام 2020 (أ.ب)

حملت تلك العبارات تكراراً حرفياً لكلام بوتين أمام قمة الرابطة المستقلة، عندما قال إن «هدف المفاوضات المقبلة يجب أن يكون تنفيذ صيغة الأمم المتحدة، التي تنطوي على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، تتعايش في سلام ووئام مع إسرائيل (...) التي نرى أنها تعرضت لهجوم غير مسبوق في قسوته، وبالطبع لها الحق في الحماية، ولها الحق في ضمان وجودها السلمي، وفي الوقت نفسه، فإن الخسائر في صفوف المدنيين (...) غير مقبولة على الإطلاق». اللافت هنا ليس أن بوتين تعمّد أمام نظرائه الرؤساء إعلان تفهمه لخطوات إسرائيل خلافاً لتصريحات سابقة أمام وسائل الإعلام، بل الأهم من ذلك أنه تحدث عن «مفاوضات مقبلة» ليس مفهوماً كيف يمكن أن تنضج مقوماتها في الظروف الراهنة.

في هذه الأثناء، تواصل وسائل الإعلام الروسية محاولة تلمّس آفاق تطور الموقف، وسط قناعة كاملة بأن الحرب على غزة ستكون حاسمة هذه المرة.

ونقلت وكالة أنباء «نوفوستي» الرسمية عن مستشار السياسات، فلاديمير بروتر، إن الغرض الرئيسي من جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في المنطقة وضع ترتيبات المرحلة بعد العملية البرية في غزة، ملاحظاً أن واشنطن لم تبدِ حماسة مباشرة للعملية، لكن إسرائيل سعت إلى إقناعها بأنها تشكل نقطة تحول أساسية ومهمة في الصراع. وزاد: «ستضطر واشنطن إلى الموافقة على تنفيذها، لأنه لا يوجد حل آخر للوضع الإسرائيلي الراهن».


مقالات ذات صلة

عشرات جنود الاحتياط يرفضون الخدمة في إسرائيل

المشرق العربي جنود في مقبرة بالقدس يوم 6 أكتوبر الحالي خلال تشييع عسكري قُتل بهجوم بطائرة مسيّرة يُعتقد أنها أُطلقت من العراق (أ.ف.ب)

عشرات جنود الاحتياط يرفضون الخدمة في إسرائيل

كشفت مصادر إعلامية في تل أبيب عن اتساع ظاهرة التذمر في صفوف الجيش، وسط معلومات عن رفض 130 جندياً الخدمة في جيش الاحتياط.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي القيادي بحركة «حماس» خالد مشعل (وسط الصورة) خلال كلمة له في الدوحة (رويترز - أرشيفية)

خالد مشعل: السابع من أكتوبر أعاد إسرائيل إلى «نقطة الصفر»

قال خالد مشعل، رئيس حركة «حماس» في الخارج، إن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 «جاء نتيجة تصاعد جرائم التنكيل بالأسرى، وزيادة التضييق على الفلسطينيين».

«الشرق الأوسط» (كوالالمبور)
تحقيقات وقضايا سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

الغزيون مرهقون بأسئلة صعبة: مَن يعيد الأحبة والبلاد؟ من يبني البيوت؟ أين يجدون جثامين أحبائهم لدفنهم؟ غالبيتهم يبحثون عن الهجرة ولا يفكرون بمن يحكم القطاع غداً.

«الشرق الأوسط» (غزة)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)

ماكرون يطالب بالكفّ عن تسليم الأسلحة للقتال في غزة

دعا الرئيس الفرنسي، السبت، إلى الكفّ عن تسليم الأسلحة للقتال في غزة، لافتاً إلى أن الأولوية هي للحلّ السياسي للحرب المستمرة منذ عام بين إسرائيل وحركة «حماس».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي عائلات إسرائيليين محتجزين في غزة ترفع صورهم خلال احتجاج قرب مقر إقامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في القدس يوم 30 سبتمبر (إ.ب.أ)

عائلات إسرائيليين محتجزين في غزة تنفّذ إضراباً عن الطعام

بدأ أفراد في عائلات الإسرائيليين المحتجزين في أنفاق حركة «حماس» بقطاع غزة إضراباً عن الطعام، متهمين حكومة بنيامين نتنياهو بأنها أهملت قضيتهم في ظل حرب لبنان.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

الضابط إسرائيلي... فما علاقته بعمر البشير وجواد ظريف؟

ميكي بيرغمان على نهر الليطاني جنوب لبنان خلال خدمته في الجيش الإسرائيلي (كتاب «في الظلال»)
ميكي بيرغمان على نهر الليطاني جنوب لبنان خلال خدمته في الجيش الإسرائيلي (كتاب «في الظلال»)
TT

الضابط إسرائيلي... فما علاقته بعمر البشير وجواد ظريف؟

ميكي بيرغمان على نهر الليطاني جنوب لبنان خلال خدمته في الجيش الإسرائيلي (كتاب «في الظلال»)
ميكي بيرغمان على نهر الليطاني جنوب لبنان خلال خدمته في الجيش الإسرائيلي (كتاب «في الظلال»)

الضابط إسرائيلي. ميكي بيرغمان. ولكن ما علاقته بالرئيس السوداني عمر البشير؟ أو بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف؟ أو حتى بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو؟ الجواب بسيط: إنها القناة الخلفية للتفاوض على إطلاق سجناء أميركيين محتجزين حول العالم.

لا يدّعي بيرغمان، في كتابه «في الظلال»، أنه الشخصية الرئيسية في مفاوضات إطلاق السجناء. المفاوض الرئيسي، في الواقع، كان بيل ريتشاردسون، حاكم ولاية نيو مكسيكو المندوب الأميركي الدائم في الأمم المتحدة (سابقاً). بيرغمان كان عضواً في فريقه وشارك بالتالي في الجهود التي كانت تجري بعيداً عن الأنظار وعبر قناة غير رسمية من أجل تحرير سجناء أميركيين ولو تطلب ذلك إجراء عمليات تبادل مع سجناء من الدول التي تحتجزهم.

يروي بيرغمان في كتابه قصة هذه القناة الخلفية التي نشطت من خلال «مركز ريتشاردسون للتواصل العالمي»، وهو مركز غير حكومي وغير ربحي. كانت جهود ريتشاردسون تسمح للإدارة الأميركية بالقول إنها ليست طرفاً في ما يفعله بوصفه مواطناً عادياً لا يمثّل حكومته، وهو نفي صادق.

لكن الحقيقة أيضاً أن الإدارات الأميركية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، كانت على دراية بكل ما يقوم به. فهو كان يُطلع كبار مسؤولي البيت الأبيض ووزارة الخارجية على اللقاءات التي يقوم بها مع قادة أجانب، وعروض تبادل المحتجزين التي يتمكن من رسم خطوطها العريضة والتي كان تنفيذها يتطلب في غالب الأحيان المرور عبر قنوات التواصل الرسمية بين الولايات المتحدة وحكومات أجنبية.

يبدأ «في الظلال» بقصة نشأة بيرغمان (الاسم يعني «رجل الجبل») في إسرائيل. عائلته تتحدر من يهود بولندا. فرّت إلى ليدز بشمال إنجلترا قبل أن تشملها عمليات ترحيل اليهود إلى معسكرات الإبادة النازية. انتقل جده إلى فلسطين كي يعيش «الحلم الاشتراكي»، حسب وصفه.

التقى والده باروخ، الإسرائيلي، معلمة يهودية - إنجليزية تُدعى غاي، قررت الانتقال إلى إسرائيل «متطوعة خلال حرب الأيام الستة» عام 1967. يقول ميكي: «طوال عمره، كان والدي (باروخ) يحب أن يُخبر الناس أنه فلسطيني، وكانت لديه وثيقة ولادة تثبت ذلك، إذ تنص على أنه (مولود في فلسطين). بعد سنوات، عندما كنت أتفاوض في الشرق الأوسط وأحاول أن أكسر الجليد مع زملائي الفلسطينيين، كنت أقول لهم، بصدق: والدي فلسطيني».

عندما بلغ ميكي 18 سنة تم استدعاؤه للخدمة العسكرية، مثل بقية الإسرائيليين. بعد تدريب عسكري أساسي دام ثلاثة أشهر، بدأ التدرب كطيّار. تعلّم قيادة طائرة صغيرة بمحرك واحد. بعد 8 أشهر من التدرّب على الطيران، لم يتم اختياره ليصبح طياراً، فانتقل إلى القوات البرية – سلاح المدفعية. وهناك نُقل للخدمة في جنوب لبنان، عام 1995.

كانت إسرائيل وقتها تسيطر على شريط حدودي داخل الأراضي اللبنانية. يقول: «إذا تحدثنا بموضوعية، لقد كنا محتلين في لبنان. لا يمكن إنكار ذلك. كنا في أرض ليست أرضنا. لكن كان لدينا اقتناع قوي بسبب وجودنا هناك (...) عشنا في قرية مدمرة وسط السكان اللبنانيين. درّبنا وقاتلنا جنباً إلى جنب مع جيش لبنان الجنوبي»، وهي ميليشيا مدعومة من إسرائيل.

يتحدث عن المواجهات التي شارك فيها ضد «حزب الله» على مجرى نهر الليطاني عام 1997، وكيف قُتل رفاقه في سقوط مروحيتَي «سيكورسكي» في الجليل خلال إجلاء جنود من قلعة الشقيف بجنوب لبنان. قُتل في ذلك الحادث 65 جندياً و8 من أفراد طاقمي الطائرتين.

بعد ثلاثة أشهر من حادث المروحيتين، التحق ميكي بوحدة مؤلفة من 24 فرداً من قوات العمليات الخاصة. كانت مهمتهم الاختباء خارج الحزام الأمني وزرع متفجرات في جبل يُتوقع أن يسلكه قيادي في «حزب الله». لكن المهمة كُشفت وبدأ مقاتلو الحزب هجوماً على الجنود. طلب ميكي إسناداً مدفعياً لوقف الهجوم، لكن بيني غانتس، قائد فرقة المظليين وقتها، رفض الطلب خشية سقوط القذائف على الجنود. فمقاتلو «حزب الله» كانوا على مسافة قريبة جداً منهم. لكن أميرام ليفين، قائد قوات الشمال، تدخل وأمر بتلبية الطلب على أساس أن القائد الميداني على الأرض يعرف الوضع أكثر من غيره.

وبالفعل، أرغم القصف «حزب الله» على التراجع، الأمر الذي سمح بنافذة فرصة كي تصل طائرات هليكوبتر وتُجلي الجنود. قال ميكي: «خلال ساعات قليلة مجنونة، خسرنا ثلاثة من وحدة المظليين المؤلفة من 24 فرداً، بما في ذلك نائب القائد... قائد الوحدة مع سبعة آخرين من جنوده أصيبوا بجروح».

بعد عملية الإنقاذ، استُدعي ميكي إلى جلسة استجواب أمام وزير الدفاع إيهود باراك، وبحضور بيني غانتس الذي لم يكن سعيداً بأن قائد قوات الشمال ألغى قراره بعدم تلبية طلب القصف المدفعي. قال له القائد ليفين إن طلبه كان مثيراً للجدل، وفي مثل هذه الحالات تكون النتيجة إما إنزال رتبته أو منحه ميدالية، وعلى رغم أنه أنقذ الوحدة المحاصرة نتيجة طلبه القصف المدفعي، إلا أن الخسائر التي لحقت بها لا تسمح بمنحه ميدالية.

أظهرت الفحوص الطبية أن قذائف «حزب الله» تسببت في شظايا داخل جسده. بعد فترة نقاهة، عاد إلى قوات الجيش والتحق، عام 1999، بوحدة ضباط، حيث كان تحت إمرته 120 جندياً من قوات المدفعية. لكن مساره العسكري كان على وشك أن يتغير إلى غير رجعة. فقد أرسله الجيش ليمثله في مخيم تدريبي للشباب اليهود في كاليفورنيا.

خلال الإقامة هناك، اكتشف ميكي، كما يقول، التنوع اليهودي في الولايات المتحدة. ففي إسرائيل، هناك تياران أساسيان: يهود أرثوذكس أو علمانيون، وهو ينتمي إلى عائلة علمانية. أما في الولايات المتحدة، فهناك طيف واسع من اليهود الذين ينتمون إلى مدارس مختلفة. وهكذا، بعمر 23 سنة، اكتشف ميكي جوانب لم يكن يعرفها عن يهوديته.

الاستخبارات الإسرائيلية

ليس هذا فقط ما اكتشفه. في المخيم تعرّف على شابة يهودية أميركية تدعى روبين ليفين. أحبّا كل منهما الآخر، فلحقت به إلى إسرائيل. هناك تم تسريحه من الخدمة العسكرية. ينقل ميكي عن والده قوله: «الآن وبعدما تسرحت من الجيش، سيتم تجنيدك في الاستخبارات الإسرائيلية. أعرف أنك ستريد أن تعرف هل يمكنك القيام بذلك. قم بالاختبار، ولكن عليك أن تعدني بأنك لن تعمل أبداً في مجتمع الاستخبارات. إن هذا العمل سيطلب منك أن تكذب على عائلتك. إنه عمل سيعني أن الجميع سينفي معرفته بك إذا تم اعتقالك». تابع ميكي: «كان تنبؤه صحيحاً، بالطبع. تم تجنيدي (جاسوساً). كان عليَّ أن أُجري امتحاناً، وأخضع لمقابلة تدوم 8 ساعات، تتضمن اختباراً لكشف الكذب».

لم يكن هناك من مجال لتجنب العمل في الاستخبارات الإسرائيلية إلا من خلال زواجه وسفره إلى الولايات المتحدة... وهذا ما حصل.

تابع ميكي تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة. قبل تخرجه في جامعة جورج تاون، اتصل به روبرت مالي، من مجموعة الأزمات العالمية، وعرض عليه العمل ضمن برنامج «مبادرة كلينتون العالمية» التي سيطلقها بيل وهيلاري كلينتون. من خلال عمله في هذه المبادرة، سافر ميكي إلى تشاد عام 2006 حيث قام بمهمة لمساعدة النازحين السودانيين من دارفور.

لكن قبل انخراطه في أزمات السودان، كان ميكي في إسرائيل في يوليو (تموز) 2006 حينما نشبت فجأة الحرب مع «حزب الله». يقول إنه اتصل بصديق دراسة لبناني في جامعة جورج تاون وبدآ في تبادل نقل رسائل بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي بهدف وقف الحرب: اللبناني كان يتواصل مع السلطات في بيروت، وهو مع الجنرال آمي يعالون الذي كان يشغل منصب عضو في الكنيست.

تتضمن مزاعم ميكي تفاصيل على عروض مزعومة تبادلها الجانبان اللبناني والإسرائيلي بخصوص وقف النار. يشرح أن الإسرائيليين درسوا العرض اللبناني لكنّ حكومة إيهود أولمرت انقسمت بشأنه. وزيرة الخارجية تسيبي ليفني وافقت عليه، لكنَّ وزير الدفاع أمير بيرتز، رفضه. وقف أولمرت في صف وزير الدفاع. دامت الحرب سبعة أسابيع. قُتل فيها 55 جندياً إسرائيلياً، وآلاف اللبنانيين. رعت الأمم المتحدة في النهاية اتفاقاً لوقف النار كان «نسخة مطابقة للمسودة اللبنانية» التي نقلها إلى الإسرائيليين، حسبما يقول.

ميكي بيرغمان مع الرئيس عمر البشير في الخرطوم (كتاب «في الظلال»)

...مع عمر البشير

بعد حرب لبنان، عاود ميكي الانخراط في النزاع السوداني حيث كان يجمع تبرعات من الجالية اليهودية في أميركا لدعم نازحي دارفور. في يناير (كانون الثاني) 2007، عرض عليه بيل ريتشاردسون العمل معه في مهمة بالسودان. كان «تحالف أنقذوا دارفور» قد طلب من حاكم نيو مكسيكو السفر إلى الخرطوم للتفاوض مع الرئيس عمر البشير على وقف النار بين الجيش السوداني وفصائل التمرد في دارفور. تساءل ميكي: «هل كان يعرف (ريتشاردسون) أنني إسرائيلي؟ ويهودي؟ كيف سيتعامل جنرالات الجيش الإسلاميون في السودان مع ذلك؟». قرر أن يشرح له مباشرة مخاوفه: «عليّ أن أخبرك بشيء. لست فقط إسرائيلياً. أنا ضابط في جيش الدفاع الإسرائيلي. لا أريد أن أهدد المهمة».

لكنّ ريتشاردسون لم يقبل اعتذاره. قال له: «سأدافع عنك... إذا احتجّ البشير سأقول له إننا نعرف بعضنا منذ سنوات. لديك جواز بريطاني، أليس كذلك؟ إذا كانت لديهم مشكلة معك فلديهم مشكلة معي أيضاً». وأضاف ريتشاردسون: «هل تعرف بمَ أنا مشهور؟ إنني أُخرج الناس من السجون. في أسوأ الحالات، ستقضي بضعة أشهر في سجن سوداني. فكّر بما يمكن أن يفعله ذلك بمستقبلك المهني؟».

يروي ميكي هنا تفاصيل عن المفاوضات التي جرت مع الرئيس عمر البشير في الخرطوم والتي انتهت بموافقة الرئيس السوداني على هدنة في دارفور لمدة 21 يوماً.

بعد السودان، شارك ميكي في الرحلات كافة التي قام بها ريتشاردسون من أجل الإفراج عن أميركيين حول العالم. في فنزويلا، كان الهدف إطلاق سجناء أميركيين تحتجزهم حكومة الرئيس نيكولاس مادورو. في كوريا الشمالية، سعى ريتشاردسون إلى الإفراج عن المبشّر الكوري - الأميركي كينيث باي الذي اعتُقل في بيونغ يانغ عام 2012، وكذلك عن الطالب الأميركي أوتو وارمبير.

وفي ميانمار، قام ريتشاردسون بمسعى للإفراج عن صحافيين سجناء. يروي ميكي بيرغمان، في هذا الإطار، قصة الجهود التي قاموا بها هناك، بما في ذلك تفاصيل لقاءات متوتر مع الزعيمة البورمية أونغ يان سو كي، التي اتهمت الغرب بأنه يحاول «فرض الإسلام علينا»، في إطار رفضها ضغوطاً غربية لوقف قمع مسلمي الروهينغا.

ميكي بيرغمان مع جواد ظريف في نيويورك (كتاب «في الظلال»)

قصة المفاوضات مع جواد ظريف

يتناول الفصل 13 من «في الظلال» قصة المفاوضات مع وزير خارجية إيران، محمد جواد ظريف، وأركان السفارة الإيرانية في الأمم المتحدة. التقى ميكي مع ظريف في فندق شهير بنيويورك عام 2019. كان الإيرانيون يحتجزون طالب الدكتوراه الأميركي (الصيني الأصل) كسيو وانغ الذي يدرس التاريخ في جامعة برينستون وكان يتعلم اللغة الفارسية ويُجري أبحاثاً في معهد بشمال طهران. اتُّهم بالتجسس. كان الأميركيون مهتمين بالإفراج عنه، وعن مايكل وايت وهو عنصر من قوات البحرية الأميركية اعتُقل خلال زيارته صديقته الإيرانية عام 2018. كان الأميركيون مهتمين أيضاً بمعرفة مصير روبرت ليفنسون العميل في مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) الذي اختفى في جزيرة كيش الإيرانية خلال مهمة مزعومة لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) عام 2007.

لم تكن المفاوضات مع الإيرانيين سهلة، خصوصاً في ظل سياسات إدارة دونالد ترمب المتشددة ضد نظام الحكم في طهران. في أحد اللقاءات، قال ظريف: «لا أفهم... عرضنا تبادلاً عالمياً للسجناء، وترمب يرفض ذلك. من دون تفسير. فقط يرفض ذلك. ألا يريد عودة الأميركيين إلى بلادهم؟».

في إطار المفاوضات، قدّم ظريف عرضاً آخر: «نرغب بتبادل للسجناء يبدأ بوانغ في مقابل مسعود سليماني وهو عالم إيراني اعتقلته أميركا عام 2018».

وهنا يروي ميكي قصة تسريب صورته مع ظريف عقب اغتيال قائد «لواء القدس» قاسم سليماني في بغداد عام 2020، مشيراً إلى أن الهدف من تسريبها، كما يبدو، كان إثارة خلافات داخل أركان الحكم الإيراني من خلال القول إن ظريف، المحسوب على التيار الإصلاحي، يلتقي مع «جاسوس إسرائيلي» في الوقت ذاته الذي تقوم أميركا فيه بقتل قاسم سليماني. ويشير ميكي، في هذا الإطار، إلى أن الصورة سرّبها موقع محسوب على أجهزة الأمن الإسرائيلية.

بايدن وهاريس يستقبلان سجناء أفرجت عنهم روسيا بموجب صفقة تبادل تاريخية (رويترز)

يكرّس ميكي بيرغمان أجزاء طويلة من كتابه لجهود الإفراج عن الأميركيين المحتجزين في روسيا. بول ويلان، وهو من مشاة البحرية (المارينز). والداه بريطانيان. مولود في كندا. يحمل جنسيات كل من الولايات المتحدة وآيرلندا وبريطانيا. عام 2018 كان بول في موسكو لحضور حفلة زفاف حين اعتقلته أجهزة الأمن بتهمة التجسس. كان قد حصل لتوّه على حافظة معلومات تحوي أسماء كل موظفي وكالة أمن روسية. كرَّت سبحة الاعتقالات بعده: تريفور ريد. بريتني غراينر... فتح ريتشاردسون قناة تواصل خلفية مع الروس من خلال صديقه وزير الخارجية سيرغي لافروف (عملا معاً في الأمم المتحدة).

كان ريتشاردسون يُطلع البيت الأبيض على كل لقاءاته مع الروس خصوصاً في ظل العلاقات المتوترة بين البلدين عشية غزو أوكرانيا. تمت اللقاءات مع الروس في مطاعم أو شقق لأفراد، مما يرفع عنها أي صفة رسمية. لقاء أصدقاء فقط. سعى ريتشاردسون إلى استمزاج آراء الروس بخصوص مطالبهم لقاء الإفراج عن الأميركيين. أشاد ميكي ببراعة الروس في المفاوضات. كانوا ينطلقون من مبدأ واضح وهو المعاملة بالمثل؛ سجين من عندنا مقابل سجين من عندكم. كانت البداية من خلال خطوات صغيرة متبادَلة. في نهاية المطاف، كان القرار الأخير بخصوص عمليات التبادل يتم من خلال القناة الرسمية بين البلدين، وهو ما تُوّج بعملية تبادل السجناء الضخمة خلال الصيف الماضي. لم يتضمنها كتاب ميكي الذي طُبع قبل اكتمال الصفقة.