أدانت السعودية العمليات البرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وقالت إنها تتابع بقلقٍ بالغ التصعيد الإسرائيلي العسكري، مشددة على أن هذه العمليات «تهدد حياة المدنيين الفلسطينيين وتعرضهم لمزيد من الأخطار والأوضاع غير الإنسانية».
وحذرت وزارة الخارجية السعودية في بيان يوم السبت، من خطورة الاستمرار في الإقدام على هذه الانتهاكات التي وصفتها بـ«الصارخة وغير المبررة والمخالفة للقانون الدولي» بحق الشعب الفلسطيني، كما حذرت مما سيترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على استقرار المنطقة والسلم والأمن الإقليمي والدولي.
ودعت الرياض المجتمع الدولي للاضطلاع بمسؤولياته للوقف الفوري لهذه العملية العسكرية، وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر بتاريخ 27 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وحقناً لدماء الأبرياء، وحفاظاً على البنى التحتية والمصالح الحيوية واحتراماً للقانون الدولي الإنساني، ولتمكين المنظمات الإنسانية والإغاثية من إيصال المساعدات الإنسانية العاجلة والضرورية إلى المدنيين في قطاع غزة دون عوائق.
ويعتقد محللون تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، أن موقف السعودية تجاه القضية الفلسطينية أعطى مصداقية لرؤيتها بشأن ذلك، وجعل القيادات العالمية تتجه إليها نظراً لوزنها الدولي والإقليمي، ووضوح منهجها، مشيرين إلى أن البيان أظهر مدى خطورة تلك العمليات العسكرية على المدنيين في غزة.
أسس واضحة
تتحرك السعودية في كل ما يخص القضية الفلسطينية من أسس واضحة ومعيار يتمثل في «الشرعية الدولية التي اكتسبتها القضية»، يقول الأستاذ الدكتور عبد الله الرفاعي، أستاذ كرسي اليونسكو للحوار والإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود لـ«الشرق الأوسط»: «هذا محور مهم تحرص عليه المملكة للحفاظ على التأييد الدولي للقضية بشكل عام، ولذلك هي تدعم كل الجهود التي تعزز من الحق الفلسطيني، وتتصدى لكل محاولات القوى المناوئة لهذا الحق، سواء كانت تستخدم أسماء فلسطينية أو جهات فلسطينية».
ويقرأ الرفاعي تحرك السعودية من باب دعم القضية الفلسطينية من خلال دعم المشروعات الدولية التي تكون مسؤولة عنها بشكل مباشر السلطة الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو حتى في غزة، وزاد: «السعودية استطاعت أن تتعامل بذكاء سياسي، بحيث تصل المساعدات والدعم من خلال القنوات الرسمية الشرعية الدولية للفلسطينيين، وحشد الدعم الدولي للقضية الفلسطينية والمعاناة لسكان غزة. لذلك كانت لها مبادرات كثيرة في إعادة الإعمار، ودعم الخدمات التي يحتاجها سكان غزة بشكل مباشر».
وأشار إلى أن السعودية بذلت جهداً كبيراً مع المجتمع الدولي للتفريق ما بين ما تقوم به «حماس» والحقوق الفلسطينية التي يجمع عليها العالم، عادّاً ذلك «أكبر تحدٍ يواجه كل الملتزمين بالقضية الفلسطينية نتيجة التداخلات التي طرأت بعد فرض (حماس) هيمنتها على قطاع غزة، وهذا له دور كبير في زيادة المعاناة للشعب الفلسطيني هناك»، وأردف: «لذلك لو تابعنا جهود المملكة في الأمم المتحدة نجد محاولة عدم ربط القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأعمال المنظمات التي ليست تحت مظلة الشرعية الدولية».
الصورة الأكبر للعلاقات الدولية
وفي قراءة من منظور دولي، يقول براين كاتوليس نائب رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن: «يُظهر بيان السعودية الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار مدى قلقها بشأن المخاطر التي تشكلها هذه العملية العسكرية على المدنيين الفلسطينيين والمخاطر التي ترى أن هذه العملية تثير حرباً إقليمية أوسع».
ويعتقد كاتوليس أن «هناك بعض الاحتمالات بأن تعمل أميركا والسعودية معاً بشكل أوثق دبلوماسياً إذا تصاعد الصراع أكثر»، مشيراً إلى أن «المملكة تتمتع بعلاقات وروابط مهمة مع الجهات الفاعلة الرئيسية في جميع أنحاء العالم العربي، وحتى في إيران، وقد يكون مثل هذا التنسيق الدبلوماسي الثنائي مهماً للغاية في احتواء الصراع».
وأضاف أن «الفجوة بين المواقف السياسية للولايات المتحدة والسعودية في الوقت الحالي مؤشر على مدى الصعوبة التي تواجهها أميركا في بناء تحالف إقليمي متماسك»، ويرى أن «عام 2023 ليس عام 2014، عندما تتمكن أميركا من إيجاد قضية مشتركة مع شركاء مثل السعودية ضد (داعش)، أو عام 1991، عندما قامت أميركا ببناء تحالف واسع لإخراج العراق من الكويت».
زاد الغموض والتضارب بشأن إبعاد حركة «حماس» من عدمه عن إدارة قطاع غزة مستقبلاً، خاصة بعد تأكيدات من الحركة أن واشنطن لم تطلب منها الخروج من المشهد السياسي.
تواصل مصر استقبال الجرحى والمرضى الفلسطينيين من غزة عبر معبر رفح البري لتلقي العلاج فيما تتكدس شاحنات الإغاثة الإنسانية بعد تعليق إسرائيل دخولها إلى القطاع.
أحمد إمبابي (القاهرة)
عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخةhttps://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC/5120553-%D8%B9%D9%8E%D9%84%D9%8E%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B1%D9%81-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%AE%D8%A9
عَلَم المملكة... تاريخ يرفرف بالهوية السعودية الراسخة
عروض عسكرية احتفالاً بالعلم السعودي خلال العام 2023 (وزارة الثقافة السعودية)
في كل خفقة للراية الخضراء، تعيد قصة العلم سرد حكاية وطن تأسس على التوحيد وانطلق نحو المجد فكان علمه شاهداً على عزته، ورمزاً لا يُطوى في صفحات النسيان، فأعلام الدول ليست مجرد رايات ترفع، والعلم السعودي ليس مجرد رمز للدولة؛ بل تجسيد لهويتها وروحها.
في يوم العلم لا يحتفي السعوديون بقطعة من القماش؛ بل يحتفون بوطنٍ آمن أن القوة تكمن في وحدته، وأن الخلود يُكتب لمن يجعل من الراية رسالة؛ كونها قسم الولاء، وتاريخ الأجداد، وأمانة الأحفاد، التي لا تسقط أبداً لأنها رفعت في القلوب قبل أن ترفرف في السماء.
يتميز علم المملكة العربية السعودية بلونه ودلالاته ومضامينه، ويمثل القيم والمبادئ التي قامت عليها الدولة، ويجسد عمقها التاريخي وهويتها العربية الإسلامية، وظل هذا العلم واصلاً ورابطاً بين مراحل الدولة السعودية منذ تأسيسها قبل ثلاثة قرون، ودالاً على امتدادها واستمراريتها.
لكن السؤال لماذا أصدر الملك عبد العزيز أمره يوم 11 مارس (آذار) 1937 بالموافقة على قرار مجلس الشورى بتوحيد مقاس وشكل العلم، وهو الشكل الذي نراه اليوم، وما التطورات التي نشأت وتزامنت مع إقرار علم البلاد بشكله الحالي، وما علاقة العلم بشعار الدولة ونشيدها الوطني؟
فقد ورد في مشروع نظام علم الدولة وشعارها ونشيدها الوطني الذي درسه مجلس الشورى السعودي، لكنه لم يصدر رسمياً بعد: أن «العلم والشعار والنشيد رموز وطنية يجب احترامها وصونها والمحافظة عليها وحمايتها من التعدي».
لكن ما يثير الاستعجاب أن تاريخ شعار الدولة وتطوراته - ورغم أهميته - يُعد مما لم تمسه أقلام المؤرخين أو تتداركه بحوث الباحثين أو دراساتهم، الأمر الذي ولّد اجتهادات خاطئة عن تاريخ هذا الشعار وبداية استخدامه.
يرمز شعار الدولة عادة لهويتها الوطنية والسياسية ويُستمد من تاريخها وتراثها الحضاري ويكون علامة دالة عليها.
حتى النشيد الوطني السعودي، ونقصد به هنا السلام الملكي (موسيقى وكلمات)، وتاريخ نشأته وتطوراته، يعتريه اللبس كذلك، وتساق روايات غير موثقة عن بداياته والمراحل التي مر بها.
شعار الدولة... التاريخ والبداية
سنحاول هنا تتبع الحقائق واستجلائها من خلال الوثائق والمصادر التاريخية المتاحة، التي لم تُشر صراحة إلى وجود شعار خاص بالدولة في بدايات عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، لكن إضافة السيفين المتقاطعين على العلم، ثم استخدامه بتطبيقات متعددة، منها استخدامه بإضافة علمين على السيفين، مثلما ظهر في وثيقة تأسيس إدارة المطبوعات والمخابرات (أمر ملكي) صدر على مطبوعات (الديوان السلطاني) عام 1926. ثم استخدام السيفين على العملة النقدية عام 1927 مع إضافة نخلتين على الجانبين، وصدر الشعار ذاته على طوابع ذكرى الجلوس الملكي في يناير (كانون الثاني) 1930.
شعار المملكة كما ظهر في مختلف الطوابع (الشرق الأوسط)
النخلة تظهر كشعار في الريال السعودي (الشرق الأوسط)
مع الإشارة إلى استمرار استخدام السيفين المتقاطعين والنخلتين على النقود التي صدرت بعد ذلك التاريخ، لكن الواضح أن ذلك الشعار لم يكن متداولاً على نطاق واسع سواءً على الأختام الحكومية أو المطبوعات الرسمية خلال تلك السنوات، مع ذلك يمكن عده أول شعار رسمي للدولة.
وبعد إعلان توحيد البلاد عام 1932، واستكمال عدد من الأنظمة والإجراءات التي تعزز وحدة الدولة واستقراراها، وضمن الخطوات التي اتخذها الملك عبد العزيز لترسيخ الهوية الجامعة وتعزيز الانتماء الوطني، وصهر المجتمع الذي وحده من أقاليم ومكونات متعددة في الكيان الكبير (المملكة العربية السعودية) ولعدة أسباب أخرى، تم توحيد شكل ومقاس العلم، وتزامن مع ذلك القرار أو سبقه، أي في عام 1937، اعتماد السيفين والنخلة شعاراً للدولة.
يقول المستشار والوزير السعودي فؤاد حمزة في الطبعة الأولى من كتابه «البلاد العربية السعودية» الصادرة في شهر فبراير (شباط) 1937 وقبل أقل من شهر من صدور أمر الملك عبد العزيز باعتماد شكل العلم الحالي، وتحت عنوان «العلم العربي والشعار»: «للمملكة العربية السعودية علم واحد هو علم صاحب الجلالة الملك، الذي هو علم الجهاد المؤلف من أرضية خضراء عليها سيفان متقاطعان فوقهما جملة (لا إله إلا الله محمد رسول الله. أما الشعار فإنه مؤلف من سيفين متقاطعين بينهما نخلة». وتعد هذه السطور أول توثيق مكتوب عن شعار الدولة، ومنه نستنتج أن اعتماد السيفين والنخلة شعاراً للسعودية تم قبل اعتماد شكل العلم الحالي، وهذا يدل على عدم صحة القول إن شعار السيفين والنخلة تم اعتماده عام 1950، وهو ما يُتداول رواية وفي كثير من المواقع اليوم.
وبتتبع السيفين والنخلة شعاراً للدولة، وجدنا أنه ظهر على ختم لمديرية الشرطة العامة في عام 1938، وعلى وثائق أخرى في السنوات التي تلت، كما ظهر على مطبوعات زيارة الملك عبد العزيز لمصر عام 1946، وعلى مطبوعات رسمية عام 1948، وعلى مطبوعات لوزارة الخارجية عام 1949. كما تصدر الشعار الصفحة الأولى من العدد الممتاز الذي أصدرته جريدة أم القرى بمناسبة ذكرى مرور خمسين عاماً على دخول الملك عبد العزيز الرياض الصادر يوم 4 شوال 1369هـ - 19يوليو (تموز) 1950.
تطورات الشعار في مختلف "الترويسات" الرسمية
تطورات الشعار في مختلف "الترويسات" الرسمية
تطورات الشعار في مختلف "الترويسات" الرسمية
لكن الملاحظ أنه لم يكن هناك أي شعار على مطبوعات جميع الدوائر الرسمية خلال تلك السنوات وما بعدها، إذ كان يكتفى بـ«المملكة العربية السعودية» واسم الجهة: كديوان جلالة الملك، أو وزارات المالية أو الدفاع، أو غيرها من الجهات.
كما أننا لم نعثر على أي نص نظامي يُفَصّل في ماهية شعار الدولة ومقاسه وتطبيقاته واستخداماته، وكانت أول إشارة له في أنظمة الدولة ما ورد في المادة الثانية من نظام العلم الصادر عام 1973 في وصف علم جلالة الملك ونصها:
«يكون لجلالة الملك علم خاص يُطابق العلم الوطني في أوصافِه ويُطرَّز في الزاوية الدُنيا مِنه المجاورة لعود العلم بخيوط حريرية مُذهبة شعار الدولة، وهو السيفان المُتقاطِعان تعلوهما نخلة».
صورة توضيحية لعلم الملك إذ يضاف أسفل العلم بخيوط حريرية مُذهبة شعار الدولة (الشرق الأوسط)
ثم نصت المادة الرابعة من النظام الأساسي للحكم الصادر عام 1992 على:
«شعار الدولة سيفان متقاطعان، ونخلة وسط فراغهما الأعلى، ويحدد النظام نشيد الدولة وأوسمتها»، وهنا أتت أول إشارة نظامية للنشيد الوطني.
فصيل الدمام والموسيقى العسكرية
للعلم ارتباط بالموسيقى العسكرية التي تعزف تحيته ونشيده ويتقدمها في المناسبات والاستعراضات، وهنا يتبادر سؤال عن بدايات وجود الفرقة العسكرية الموسيقية، إذ يرى الإعلامي والمؤرخ السعودي الدكتور عبد الرحمن الشبيلي أن «الموسيقى العسكرية كانت موجودة في الحجاز منذ العهدين العثماني والهاشمي، تستخدم في المناسبات الرسمية والعروض العسكرية، معتمدة بشكل رئيسي على الطبول والأبواق...»، بينما يشير المدير العام السابق للشؤون العامة في القوات المسلحة السعودية اللواء عقيل بن ضيف الله القويعي أنه نحو عام 1933 تأسست في مقر الجيش المسمى القشلة بحي جَرْوَل في مكة المكرمة فرقة باسم «فصيل الدمام» نسبة إلى صوت الدُم (الضرب على الطبل)، وكانت الفرقة تستخدم الطبول والأبواق والبوزات، ثم طورت وكالة الدفاع (قبل تحولها إلى وزارة) الفكرة وأسست فصائل أخرى بالاسم نفسه في الرياض والمدينة المنورة وجدة وأبها والأحساء.
ونحو عام 1948 تم استقدام خبير موسيقي من السودان يدعى أحمد محمود لتدريبهم وتطوير أدائهم، وتؤكد مصادر أخرى أنه تزامنت عودة الجيش السعودي من حرب فلسطين مع استقدام فرقة موسيقية حديثة بقيادة الموسيقي المصري أمين مرسي، فجرى توحِيد فصائل الدمام فيها، وبذلك تشكلت فرقة موسيقية عسكرية حديثة في عام 1950.
كان تأسيس تلك الفرقة تحولاً مهماً في تاريخ الموسيقى السعودية عموماً، إذ نقلت الموسيقى العسكرية من الطبل والبوق إلى الآت النحاسية ونقلت الأغنية السعودية من الربابة والعود إلى الآلات الوترية والايقاعية. ثم اختير النقيب في الجيش آنذاك طارق عبد الحكيم، الذي كان لديه ميل للموسيقى والغناء لدارسة الموسيقى وابتعث إلى مصر نحو عام 1951، وإثر عودته من مصر تأسست عام 1953 أول مدرسة لموسيقى الجيش، وذلك ضمن منظومة المدارس العسكرية التي تأسست في الطائف. تم كل ذلك بدعم واهتمام من وزير الدفاع آنذاك الأمير منصور بن عبد العزيز. انتقلت المدرسة في عام 1963 إلى الرياض، وتشكلت بعد ذلك إدارة موسيقات القوات المسلحة، وأنشئ معهد موسيقى القوات المسلحة الذي كانت نواته المدرسة ولا زال إلى اليوم يخرج دفعات من الموسيقيين العسكريين ويمد القطاعات العسكرية بخريجيه.
وخلافاً لما يُتصور، فللموسيقى العسكرية أدوار حربية عدا دورها في السلم، وللجيش نشيده الخاص وكذلك لكل قوة من قواته.
وعن بث مقطوعات موسيقى الجيش عبر الإذاعة لأول مرة يروي الأديب والتربوي السعودي أحمد علي الكاظمي أنه في شهر فبراير 1950: «أذاعت محطة جدة تسجيلاً خاصاً عن وصول جلالة الملك للرياض ولأول مرة يذاع من محطة جدة موسيقى الجيش التي كانت تصدح الأناشيد».
وقال إنه في الشهر ذاته أقيم عرض عسكري في جدة لاستقبال الجيش السعودي العائد من حرب 1948 «ووقفت الموسيقى وفرقتها تصدح بأنغامها وطبولها ومزاميرها مدة استمرار العرض...»، وكأن الكاظمي هنا يشير إلى الفرقة التي تشكلت وقتذاك.
النشيد الوطني... اللحن والكلمات
أما عن النشيد الوطني، فلم ترد أي إشارة عنه، أو حتى بمسمى السلام الملكي في أي من المصادر التاريخية التي تم البحث فيها قبل عام 1946، وكانت أولى المرات التي يُنشر فيها عن السلام أو النشيد الملكي السعودي ضمن برنامج زيارة الملك عبد العزيز لمصر في شهر يناير 1946 الذي أعدته التشريفات الملكية المصرية، وحسبما ورد في برنامج الزيارة، يُعزف (السلام الملكي السعودي) عند وصول الملك عبد العزيز إلى سطح اليخت الملكي (محروسة) أثناء رسوه في ميناء جدة.
في غياب أي رواية أخرى يترجح أن المرة الأولى التي عزف فيها السلام الملكي السعودي أمام الملك عبد العزيز عند نحو الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الاثنين 7 يناير 1947. وتكاد تجمع الروايات على أن ملحن السلام الملكي هو الموسيقي المصري عبد الرحمن محمود كامل الخطيب، يؤكد ذلك وجود وثيقة مؤرخة في عام 1950 وهي نسخة من النوتة الموسيقية للسلام الملكي السعودي كتب في أسفلها (تأليف: عبد الرحمن الخطيب).
لكن التساؤلات التي تُطرح ليست عن الخطيب كملحن، إنما مَن هي الجهة التي كلفت الخطيب؟ ثم كيف لحَّن الخطيب السلام الملكي؟ وأيضاً هل لحنه دون كلمات أم كانت هناك كلمات؟ كل هذه الأسئلة ظلت دون إجابات أو لم تُسأل أساساً! لذا غابت معلومات دقيقة ومهمة، وغدت المعلومات المتداولة عن هذا الموضوع ناقصة ومتناقضة.
فمما يتداول أن الخطيب وضع لحناً بالبوق فقط دون نوتة موسيقية. فأولاً الخطيب موسيقار وأستاذ للموسيقى وليس ملحناً عادياً، ومن اختاره يعرف إمكاناته وقدراته، ولا يتصور أنه وضع اللحن دون نوتة، لأن السلام الملكي السعودي عزفته فرق مختلفة خلال تلك السنوات، فعدا الفرق الموسيقية المصرية التي عزفته أثناء الزيارة الملكية لمصر، تؤكد المصادر الرسمية عزفه من قبل فرقة عسكرية أميركية على ظهر بارجة أميركية خلال شهر أبريل (نيسان) 1948 في ميناء رأس تنورة أثناء زيارة ولي العهد (الأمير) سعود للأسطول الأميركي مما يؤكد وجود النوتة، كما عزفته فرقة موسيقى الجيش في الطائف أثناء حفل تخرج طلاب المدارس العسكرية تحت رعاية الأمير منصور وزير الدفاع في شهر مارس 1949، كما عُزف خلال العرض العسكري الذي أقامه الجيش السعودي أمام الملك عبد العزيز بساحة القصر الملكي بمكة المكرمة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1949، وهذا كله قبل صدور النوتة الموسيقية التي أشرنا لها، وتاريخها 15 فبراير 1950.
أما عن وجود الكلمات، ففي برنامج الزيارة الملكية لمصر ظهرت عبارة «النشيد الملكي» وكذلك «السلام الملكي»، مما يوحي بوجود كلمات، وجاءت أكثر وضوحاً في حفل استقبال الملك عبد العزيز في جدة عند عودته من مصر يوم الجمعة 25 يناير 1946، إذ كان هناك فقرة في برنامج الحفل بالنص الآتي: «ينشد تلامذة المدارس المصطفون أمام بهو الاستقبال النشيد الوطني...»، وهنا الإشارة واضحة إلى أن هناك نشيداً، أي كلمات.
أما في احتفال نادي ضباط الجيش في الطائف لتكريم ولي العهد الأمير (سعود) خلال شهر أكتوبر 1952، فجاء في نص الخبر الرسمي المنشور عن المناسبة: «تشنفت الآذان بسماع النشيد الملكي من تلاميذ المدرسة العسكرية مقترناً بتوقيع موسيقى الجيش». وهنا العبارة جلية بأن هناك كلمات ولحناً. لكن يبقى السؤال أين هذه الكلمات ومن كتبها؟
يتضح مما سبق أنه كان هناك نشيد يؤدى مع السلام الملكي، ولكن تبقى الاحتمالات أن ذلك النشيد لم يعد يناسب المرحلة فرؤي تغييره، أو أنه حصل تعديل موسيقي على اللحن
فتوقف استخدام الكلمات ولم يتوفر البديل المناسب، فاستمر الحال دون اعتماد نشيد رسمياً حتى عام 1984 كما سيرد معنا تفصيلاً.
عبد الرحمن الخطيب (الشرق الأوسط)
يؤيد هذه الاحتمالات ما تردد في عدة مصادر أن الفنان طارق عبد الحكيم هو من أعاد توزيع اللحن، وأن الشاعر محمد طلعت كتب نشيداً مصاحباً للسلام الملكي تقول كلماته:
يعيش مليكنا الحبيب ... أرواحنا فداه حامي الحرم
هيا اهتفوا عاش الملك... هيا ارفعوا راية الوطن
اهتفوا ورددوا النشيد... يعيش يعيش يعيش الملك
وذكرت مصادر أن هذا النشيد أعد لحفل أقامه نادي ضباط الجيش بالطائف تحت رعاية الملك سعود في صيف عام 1958، وظل يُردد لسنوات، لكنه لم يعتمد رسمياً كنشيد وطني، ويؤيد ذلك الدكتور الشبيلي، كما يضيف: «أن هناك وثيقة صادرة من الإذاعة السعودية تعد عبد الرحمن الخطيب ملحناً وتعتبر طارق عبد الحكيم هو من قام بطبعه وتوزيعه موسيقياً».
وعلى أي حال يتضح أن هناك محاولات مبكرة وتسلسلاً تاريخياً لهذا الملف يمكن تلخيصه في الآتي:
في شهر يوليو 1949 أعلنت وزارة الدفاع عن مسابقة شعرية لكتابة «النشيد الملكي» و«نشيد العلم»، لكننا نجد أنه صدر في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه خطاب تكليف من مكتب وزير الدفاع للشاعر خير الدين الزركلي بوضع قصيدة باسم «النشيد الملكي»، ولا نعلم ماذا حصل مع الزركلي. لكن الأديب والشاعر السعودي عبد الله بن إدريس يقول عن مسابقة أخرى أجريت عام 1964 وفازت قصيدة الشاعر محمد بن علي السنوسي بنشيد الجيش بينما فازت قصيدة ابن إدريس نفسه بنشيد الملك ومطلعها:
من بلادي منبع المجد التليد... من شعاع النور من نفح الخلود
من ربى نجد ومن خفق البنود... مَلِكي ينمى إلى عز الجدود
وتلقى كل شاعر ألف ريال مكافأة من وزارة الدفاع.
إعلان مسابقة وزارة الدفاع الشعرية (الشرق الأوسط)
قبل ذلك يقول السفير والشاعر السعودي محمد الفهد العيسى إنه في أوائل عهد الملك سعود طلب منه عبد الرحمن الحميدي أحد كبار رجالات الديوان الملكي والمكتب الخاص للملك سعود كتابة نشيد وطني فكتب نشيداً مطلعه:
«ردد الزمن وانجلى الوسن... فليعش سعود لرفعة الوطن»
ولحنّه أيضاً وسجلته الإذاعة السعودية وأصبح يتكرر عبر أثيرها وكان هناك فكرة ليكون السلام الملكي لكنها لم تتم.
وهنا يشير العيسى إلى أن فكرة تغيير السلام الملكي كانت مطروحة، يؤيد ذلك روايات عن ترشيح عدد من الأغنيات الوطنية التي كان يتكرر بثها في الإذاعة خلال تلك السنوات لتكون هي النشيد الوطني، لكن أياً منها لم يعتمد رسمياً.
تلى ذلك في شهر يونيو (حزيران) 1968، تشكيل لجنة من وزارات الدفاع والطيران والمعارف والإعلام السعودي، ورفعت توصية بضرورة اختيار كلمات تناسب لحن السلام الملكي، وأصدر مجلس الوزراء موافقته على تلك التوصية بقراره رقم 1277 وتاريخ 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1973.
ثم رفعت وزارة الإعلام مقترحاً باعتماد نشيد وطني رسمي للمملكة العربية السعودية من خلال منافسة بين الشعراء، ووافق مجلس الوزراء على المقترح بموجب قراره رقم 1223 وتاريخ 10 يوليو 1976.
ويشير الدكتور الشبيلي إلى أنه وردت للوزارة مشاركات كثيرة وشكلت لتقويمها لجنة من الأدباء، لكن الأمر بقي معلقاً عدة سنوات أخرى، لأن المنافسة - وإن أتت بكلمات مقبولة - غير أنها كانت تتطلب الإتيان بلحن جديد، ويؤكد أنه جرت محاولات عدة لتغيير لحن السلام الملكي، وتمت الاستعانة بالفنان محمد عبد الوهاب لاختيار لحن آخر، لكن اللحن الذي تقدم به جاء طويلاً، فضلاً عن كونه مغايراً للحن تعودت عليه الأذن وألفه الناس، وعندما أجريت مسابقة لاختيار كلمات معتمدة ودائمة للسلام الملكي، كانت الفكرة تقوم على الإتيان بلحن جديد يتناسب مع الكلمات التي سيتم اختيارها. ويضيف أن الرأي استقر - مع اقتراب مشاركة المملكة في دورة لوس أنجليس الأولمبية عام 1984 - على الإبقاء على لحن السلام الملكي دون تغيير، وتكليف الشاعر الغنائي السعودي إبراهيم خفاجي بوضع كلمات تتلاءم معه موسيقياً، وقد شكلت لجنة وزارية لمراجعته. ويقول الشاعر عبد الله بن إدريس إن النص أحيل إليه لمراجعته شعرياً وإنه أدخل عليه بعض التعديلات بحيث صارت جميع كلماته فصيحة ووزنه مستقيماً من غير إخلال بعموميته المفصلة على اللحن القائم. وتقول كلمات النشيد:
سارعي للمجد والعلياء
مجدي لخالق السماء
وارفعي الخفاق أخضر
يحمل النور المسطر
رددي الله أكبر... يا موطني
موطني عشت فخر المسلمين
عاش الملك للعلم والوطن
وقد قام الموسيقار السعودي سراج عمر بإعادة توزيع لحن السلام الملكي ليتناغم مع الكلمات.
وهذا غيض من فيض، وهناك بالتأكيد وقائع لم نرصدها، وتساؤلات بقيت دون إجابات. لذا ومن كل ما تقدم يتضح أن شعار المملكة العربية السعودية ونشيدها الوطني، وقبل ذلك علمها الوطني، مروا بمراحل وتطورات تاريخية؛ لا زالت بحاجة إلى أبحاث جادة تنقب في أوراق التاريخ ووثائقه وتستجلي حقائقه وتجمع شتات المعلومات، فهذه الرموز الوطنية وغيرها من صفحات تاريخنا الوطني تستحق مزيدا من الاهتمام، من قبل الباحثين ودارسي التاريخ.