هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

باريس تواجه شللاً سياسياً وديوناً تتجاوز 110 % من الناتج المحلي الإجمالي

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT
20

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.


مقالات ذات صلة

مصر: الاقتصادات الناشئة تحتاج لأدوات تمويلية جديدة

الاقتصاد وزير المالية المصري خلال لقائه مع أعضاء غرفة التجارة الأميركية بواشنطن (وزارة المالية المصرية)

مصر: الاقتصادات الناشئة تحتاج لأدوات تمويلية جديدة

أكد وزير المالية المصري، أحمد كجوك، انفتاح بلاده على كل الخبرات والتجارب الدولية لاستكشاف أدوات تمويل مبتكرة تساعد في خفض المديونية وتكلفة خدمتها.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد شباب يعملون في إحدى الأسواق بوسط القاهرة قبل شهر رمضان (رويترز)

معدل البطالة في مصر يتراجع إلى 6.6 % عام 2024

قال الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، السبت، إن معدل البطالة بلغ 6.6 في المائة في عام 2024 بانخفاض قدره 0.4 في المائة عن العام السابق.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الاقتصاد منظر عام لمركز مدينة خاركيف وسط الهجوم الروسي على أوكرانيا (أرشيفية - رويترز)

أوكرانيا تفشل في التوصل لاتفاق بشأن إعادة هيكلة سندات الدين

أعلنت الحكومة الأوكرانية، يوم الخميس، فشلها في التوصل إلى اتفاق مع حاملي سندات الدين المرتبطة بالناتج المحلي الإجمالي بشأن إعادة هيكلة هذه الأدوات المالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الاقتصاد ندوة ضمن اجتماعات الربيع 2025 لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمناقشة تقرير الراصد المالي العالمي (إ.ب.أ)

صندوق النقد الدولي يحذر: ديون عالمية تلامس 100% من الناتج بسبب الرسوم

حذّر صندوق النقد الدولي، يوم الأربعاء، من أن الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة ستُفاقم الضغوط الاقتصادية وتدفع الدين العام العالمي إلى مستويات قياسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد مقر البنك المركزي المصري بوسط القاهرة (تصوير: عبد الفتاح فرج)

«إتش سي» تتوقع تخفيض سعر الفائدة في مصر 150 نقطة الخميس المقبل

توقعت إدارة البحوث المالية بشركة «إتش سي» للأوراق المالية أن يخفض البنك المركزي المصري سعر الفائدة بنحو 150 نقطة أساس في اجتماعه المقرر الخميس المقبل


السعودية تتصدر الدول العربية في العمل الإحصائي

جانب من المنتدى السعودي الأول للإحصاء في الرياض (الشرق الأوسط)
جانب من المنتدى السعودي الأول للإحصاء في الرياض (الشرق الأوسط)
TT
20

السعودية تتصدر الدول العربية في العمل الإحصائي

جانب من المنتدى السعودي الأول للإحصاء في الرياض (الشرق الأوسط)
جانب من المنتدى السعودي الأول للإحصاء في الرياض (الشرق الأوسط)

كشف وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للإحصاء، فيصل الإبراهيم، عن أن المملكة هي الأولى عربياً في العمل الإحصائي، وتسعى الحكومة إلى رفع كفاءة المؤشرات وتسهيل الوصول إلى المعلومات.

كلام الإبراهيم جاء في المنتدى السعودي الأول للإحصاء، الذي ينعقد بالتزامن مع مرور 65 عاماً على تأسيس العمل الإحصائي الرسمي في المملكة.

تحقيق التحول الرقمي

وأكد رئيس الهيئة العامة للإحصاء، فهد الدوسري، خلال كلمته الافتتاحية، أن الهيئة عملت على تطوير نحو 39 منتجاً جديداً لتوفير بيانات أكثر تفصيلاً، وتغطية قطاعات ومناطق أوسع. وقال إنها تعمل على تحقيق التحول الرقمي الكامل في العمليات الإحصائية، مستفيدةً من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، لضمان موثوقية البيانات وشموليتها. كما شدد على أن الإحصاءات لم تعد أداة مساندة فقط، بل أصبحت في قلب العمل التنموي، داعماً لتحقيق التنمية المستدامة وضمان كفاءة الإنفاق وجودة الخدمات.

رئيس الهيئة العامة للإحصاء فهد الدوسري (الشرق الأوسط)
رئيس الهيئة العامة للإحصاء فهد الدوسري (الشرق الأوسط)

من جانبه، شدد فيصل الإبراهيم على أهمية الشفافية في دعم القرارات المبنية على الأدلة والبيانات الدقيقة، لا سيما في ظل الأزمات والتحديات الدولية المتسارعة، لافتاً إلى أن القطاع شهد تحولات كبرى جعلته أكثر نضجاً في جودة الإحصاءات ودقة المعلومات.


وأكد أن العمل الإحصائي يعيش مرحلة استثنائية بدعم قيادة الحكومة، مما مكّن المملكة من تصدّر المؤشر العربي للأداء الإحصائي والتقدم 22 مرتبة عالمياً خلال عام 2023.

وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم (الشرق الأوسط)
وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم (الشرق الأوسط)

وأوضح الإبراهيم أن تطوير منظومة البيانات الوطنية يمثل أولوية، حيث تسعى المملكة لتكون نموذجاً عالمياً في قياس الأداء ومعرفة أثر السياسات عبر المؤشرات الإحصائية الدقيقة، حيث تستضيف الرياض منتدى الأمم المتحدة العالمي السادس للبيانات عام 2026.

جذب الاستثمارات النوعية

وخلال جلسة حوارية، أكد وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي، بندر الخريف، أن المملكة تمتلك منظومة معلومات قوية تمكّن متخذي القرار من اتخاذ قرارات مبنية على أسس سليمة، مشدداً على أن قوة البيانات لا تقل أهمية عن البنية التحتية.

وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر الخريف (الشرق الأوسط)
وزير الصناعة والثروة المعدنية السعودي بندر الخريف (الشرق الأوسط)

وأضاف أن المعلومات الدقيقة تمثل ركناً أساسياً لدعم الاستثمارات الصناعية والتعدينية، خصوصاً في ظل التحول الذي تشهده المملكة لتحقيق مستهدفات «رؤية 2030». وأشار إلى أن مركز المعلومات الصناعية والتعدينية يلعب دوراً محورياً في توفير هذه البيانات لدعم تنافسية المملكة وجذب الاستثمارات النوعية.

وعلى هامش المنتدى، وقعت الهيئة العامة للإحصاء مذكرات تفاهم أبرزها مع المركز الاتحادي للتنافسية والإحصاء في دولة الإمارات العربية المتحدة، ومركز الإحصاء الوطني في دولة قطر، لتعزيز التعاون وتبادل الخبرات في مجال الإحصاء.