صفران بولو.. جوهرة البحر الأسود الرابضة على طريق الحرير

تحفة ترعاها اليونيسكو وتحتفظ بعبق التاريخ العثماني

مدينة تشتهر ببيوتها الأثرية القديمة
مدينة تشتهر ببيوتها الأثرية القديمة
TT

صفران بولو.. جوهرة البحر الأسود الرابضة على طريق الحرير

مدينة تشتهر ببيوتها الأثرية القديمة
مدينة تشتهر ببيوتها الأثرية القديمة

تقف مدينة صفران بولو Safranbolu صامدة في وجه التغيير كأنها لم تتأثر بالزمن وتعاقب الأيام.. فظلت مدينة عثمانية تحمل عبق التاريخ بجدرانها الحجرية وطرقاتها ذات التصميم الألباني العتيق المعبدة الأحجار التي تعلو من الجانبين وتتجوف في المنتصف لتؤمن للناس طريق سيرهم إذا هطل المطر بغزارة في مدينة الزعفران.
«الشرق الأوسط» تجولت في صفران بولو أو مدينة الزعفران، وهي إحدى مدن محافظة كارابوك المطلة على البحر الأسود في شمال غربي تركيا. ويعود تاريخها إلى ما قبل 3 آلاف عام وترجع تسميتها بهذا الاسم إلى نبات الزعفران أو الصفران، باللغة التركية.
وتعد إحدى أهم المناطق في الشمال الغربي في منطقة الأناضول وكان يطلق عليها في السابق اسم «طريق الحرير» لأهمية موقعها الاستراتيجي وكان لها تاريخ حافل مع حضارات الحيثيين والفريك والرومان والسلاجقة الذين بنوا فيها أشهر قصر ضيافة في العالم.
* أسماء متعددة
تلقبت «صفران بولو» أو «الرعفران الكثير»، بالكثير من الأسماء، فقبل أن يطلق عليها اسم صفران بولو حملت أسماء كثيرة، ففي العهد الروماني سميت داديبرا وفي عهد السلاجقة «ذاليفري» وفي العهد العثماني بورلو ثم في القرن التاسع عشر سميت «ذاعفيران بولو» ثم في القرن نفسه «زعفران بولو» وأخيرا «صفران بولو» والاسم الأخير تيمنا بنبتة الزعفران التي تزرع في حقولها، ولهذه النبتة التي تزرع أهمية خاصة في صناعة مواد التجميل والمواد الغذائية والأدوية، كما تعد صفران بولو من أبرز المدن في إنتاج أجود وأفضل أنواع نبتة الزعفران في العالم.
والزعفران نبتة غالية الثمن جدا وتنتج منها المدينة كلها 10 كيلوغرامات فقط ويباع الغرام الواحد بنحو 20 دولارا، ومن أهم ما تشتهر به المدينة أيضا نوع من الكباب يسمى «كوا كباب» أو كباب البئر، وحلوى «الزردة» التي تعتمد على نبات الزعفران في صنعها ولونها أصفر بلون الزعفران إضافة إلى ملبن «صفران بولو» المتميز.
ويوجد في صفران بولو عدد من المعالم الأثرية العثمانية من بينها النزل التاريخية، والحمامات العثمانية، والجوامع، وأسبلة المياه، والجسور، والقصور الفريدة من نوعها.
* معالم تاريخية
وتشتهر صفران بولو بالبيوت التركية القديمة، وتضم نحو 1200 معلم ثقافي وأثري، أدرجت ضمن قائمة التراث والحماية باليونيسكو.
وتم تقسيم البيوت إلى مجموعتين، الأولى مجموعة البيوت الشتوية الواقعة في الجزء الذي توجد به السوق، والثانية تضم البيوت الصيفية في الجزء الذي توجد به الحدائق.
وتقع غالبية المعالم التاريخية القديمة والسياحية في جزء السوق. ويمكن مشاهدة هذا الجزء من فوق القلعة الموجودة في شمال البلدة، ومن أعلى هضبة «الخضر» الواقعة في الجهة الجنوبية لصفران بولو.
* وتقع في الجهة الشمالية القلعة التاريخية وأسوارها العتيقة وكانت هذه المنطقة أول أماكن الاستيطان في صفران بولو. ويعتبر مقر الحكومة القديم، وبرج الساعة الذي لا يزال يعمل إلى الآن بعد 200 سنة، بالإضافة إلى المبنى المهجور للسجن القديم من أبرز المعالم الأثرية التي يمكن زيارتها.
وتتميز جميع الطرق والحارات المؤدية إلى الميدان الرئيسي الواقع في قلب المدينة، برصفها باستخدام الأحجار الصغيرة بدلاً عن الأسفلت. كما تتميز ساحات المناطق الأثرية والميادين العامة الأثرية أيضًا باستخدام الأحجار الصغيرة المقطعة في عمليات الرصف.
* طريق الحرير
دخلت صفران بولو تحت الحكم العثماني عام 1423 ميلاديا وبلغت في عهدهم ذروتها الاقتصادية والحضارية وكانت تعتبر أهم نقطة تجارية بين الشرق والغرب من خلال الطريق التجاري بين إسطنبول وسينوب الذي أطلق عليه طريق الحرير فكان التجار من مختلف أنحاء العالم يقيمون فيها ويتاجرون بأسواقها.
ونجح سكان هذه المدينة في الحفاظ على طابعها القديم ومعالمها الأثرية وعلى نمط الحياة فيها فوضعتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) تحت حمايتها حفاظا على جمال فن عمارة بيوتها.
حولت اليونيسكو إلى متحف كبير فوضعت تحت حمايتها 800 بيت من أصل ألفي بيت قديم، وساعدت بعض أصحاب الحرف القديمة مثل الحدادين والنحاسين وصانعي أحذية الجيش الجلدية المعروفة باسم «يمنى» على إعادة أحيائها لكي تضيف جوا تراثيا حيا وساعدت المنظمة على ترميم المعالم الأثرية مثل الخان العثماني، ومقر الضيافة وتحويله إلى فندق فخم يحمل اسم «جينجهان» إلى جانب بعض البيوت التي رممت وتم تحويلها إلى مطاعم واستراحات وأسواق تجذب السياح صيفا وشتاء.
* بيوت صفران بولو
تتميز بيوت صفران بولو بجمال معماري قديم حيث يزين الجبهة الخارجية للبيت نوافذ خشبية ضيقة وطويلة يحدد عددها حسب مساحة الغرفة.
وتضفي هذه النوافذ لمسة ساحرة لعمارة المنزل وكان السكان يتفاءلون بوضع قرن الغزال على زاوية السقف الخارجي للمنزل حيث كان حجم هذا القرن دلالة على الوضع المادي والاجتماعي لساكني المنزل والنظام الداخلي للمنزل الذي كان يعد في بعض الأحيان مبالغا به يهتم بتوفير الراحة لساكنيه ويتميز تصميمه بدقة متناهية فنظام التدفئة، على سبيل المثال، يعتمد على المواقد الموزعة على الغرف الرئيسية للمنزل، أما باقي الغرف فكان يستعمل لها مواقد متنقلة، والإضاءة كانت تتم بواسطة قناديل الزيت التي توزع على أركان البيت.
وابتكر البناؤون في ذلك الوقت نظاما خاصا للصرف الصحي في البيوت بوضع خزانة تحتوي على مكان للاغتسال في غرف النوم الرئيسية مع ربط تصريف المياه فيها بشبكة الصرف الصحي للحي أما المياه التي تخرج من المطبخ فقد كانت تنقل إلى حديقة المنزل لريها.
ويبدي المهندس المعماري أحمد طورون، وهو أحد سكان هذه المدينة سعادته باستمرار حماية هذا الطراز المعماري الفريد من قبل منظمة اليونيسكو، مشيرا إلى أن حرص سكان صفران بولو على الحفاظ على تقاليد عيشهم وحماية تاريخهم العريق يشكل حلقة وصل بين الماضي والمستقبل ويعكس عقلية واعية تحرص على أن تكون المدينة جسرا يربط الأجيال المتتالية بعضها ببعض.
شيدت كل البيوت الموجودة في البلدة بطريقة متناسقة مع المباني الحكومية والعامة الموجودة في مركزها، وكذلك دور العبادة والمعالم الأثرية القديمة. فقد شيدت المباني الموجودة في البلدة بطريقة معمارية خاصة تتيح الرؤية من جميع الاتجاهات.
* بيت الحاكم
يعد بيت الحاكم أو القائم بأعمال الوالي من أهم المباني الأثرية القديمة في صفران بولو، التي تعكس ماضي المجتمع التركي وثقافته، وأسلوب حياته وتطوره في الفترة ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
تذكر بعض المصادر التاريخية أن هذا البيت شيد في مطلع القرن الثامن عشر وتمكن من الحفاظ على تراثه المعماري الفريد ونسيجه الحضاري.
وبيت حاكم المدينة عزت محمد باشا، الذي كان قائدا عسكريا كبيرا في الجيش العثماني وتنقل بين مصر ودول أخرى كانت خاضعة للحكم العثماني، هو علامة من العلامات المتميزة ومن يتجول فيه يعود إلى هذه الأيام حيث التقاليد العثمانية وأجواء الحرملك والسلامليك، وتقاليد البيوت العريقة، ومسجده في المدينة أيضا هو شاهد آخر من شواهد التاريخ محافظا على الكتابة العربية وتداخل أحداث التاريخ.
* مقر الحكم
يوجد مقر الحكم القديم في المنطقة المعروفة بالقلعة. شيد عام 1904، بأمر من والي مدينة كاستامونو التي كانت تتبعها صفران بولو قبل أن تصبح كارابوك محافظة ويتم نقل تبعيتها إليها، أنيس باشا.
يتكون مقر الحكم من طابقين فقط، من أحد أنواع الحجارة الرائعة. ويقع على مساحة 800 متر مربع. واستخدم هذا البناء، على مر التاريخ، كمركز إداري للجيش والقضاء والقائم بأعمال الوالي في البلدة.
* برج الساعة
يقع برج الساعة فوق القلعة الشهيرة. وشيد عام 1797، من قبل الصدر الأعظم عزت محمد باشا، بأمر من السلطان سليم الثالث. وتتميز الساعة بنظام عملها دون الاستعانة بالزنبرك التقليدي.
* سوق المدينة
كانت صفران بولو تعتمد على نظام الطوائف الحرفية عند إقامة الأسواق المختلفة، لتجارة وتوزيع منتجات الحرفيين والصناعات اليدوية. وتتميز باستمرار العمل في محلات وورش الحدادين والنحاسين، وصنّاع القصدير، والسراجين حتى الآن. كما يمكن للزوار شراء الهدايا التذكارية الخاصة بالبلدة من سوق الهدايا الذي تحول إلى مركز لبيع الصناعات اليدوية، بعد عملية الترميم التي أجرتها السلطات التركية على السوق.
* جمال طبيعي
لا تتميز صفران بولو بالأماكن التاريخية والمعالم الأثرية القديمة فحسب، وإنما تتسم بطبيعة خلابة غاية في الروعة. وتتمتع بغاباتها الكثيفة، ووديانها الضيقة وسهولها المناسبة بشكل كبير للخروج في رحلات السفاري، وغيرها من الرحلات السياحية لممارسة رياضة المشي، أو استخدام الدراجات الهوائية، أو تسلق الجبال.
وهناك قرية الرحل التي تقع على الطريق الواصل بين صفران بولو وآراتش، على بعد 13 كيلومترا من صفران بولو. وتعتبر متحفا مفتوحا. وتتميز البلدة باحتوائها على عدد من البيوت والشوارع الأثرية الموضوعة تحت حماية اليونيسكو وتجري لها أعمال صيانة دورية.
ويوجد أيضا وادي وقنطرة إنجيكايا، القنطرة طولها 116 مترا، وعرضها يتراوح بين 110 و220 سنتيمترا، وتقوم بنقل المياه إلى صفران بولو من ينابيع المياه. ويعد نهر توكاتلي الذي يمر أسفل القنطرة، من أفضل وسائل الاستمتاع بالنزهة المائية داخل الوادي الضيق.
* تضم صفران بولو أيضا عددا من الكهوف والمغارات من أبرزها كهفي بولاك وهيزار، ومقابر صخرية بالإضافة إلى وادي دوزجه، ومرتفعات أولويايلا ومتنزه جورلييك.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».