منذ بداية عام 2014، بدأ المستثمرون يقلقون - وينبغي عليهم ذلك - في ما يخص الأسواق الناشئة. في بداية فترة التعافي الاقتصادي، ثبطت الأرباح المنخفضة من عزيمة المستثمرين الذين ضخوا استثماراتهم في أسواق الدول النامية، وعليه فقد سارعوا للاستثمار في أسهم وسندات الأسواق الناشئة، التي تبشر بمعدلات نمو سريعة للغاية.
وخلال عامي 2009 و2010، حققت الاقتصادات الناشئة معدلات نمو أسرع بكثير مما حققته الولايات المتحدة الأميركية، حيث ارتفعت أسعار الأسهم بنسبة 46 في المائة سنويا، أي أكثر من ضعف المكاسب التي حققتها الأسهم الأميركية. كما تدفقت الأموال الساخنة على الأسواق الناشئة، وواصلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة - رغم صعوبة إخراجها من تلك البلدان - تدفقها أيضا على تلك الأسواق. وفي العام الماضي، حققت الاستثمارات الأجنبية المباشرة نموا قدره 6 في المائة في بلدان العالم النامي لتصل إلى 759 مليار دولار، أو 52 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة على مستوى العالم.
وخلال تسارعهم العشوائي نحو الاستثمار في الأسواق الناشئة، لم ينتبه المستثمرون إلى نقطتين على قدر كبير من الأهمية: أولا: تعتمد جميع تلك الاقتصادات في المقام الأول – من دون استثناء – على الصادرات لتحقيق معدلات النمو، مما يعني أنه يجب على اقتصادات الدول المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة، أن تكون قادرة على شراء إنتاج وبضائع تلك الدول. ثانيا: لا تقف جميع الأسواق الناشئة على قدم المساواة.
بالنسبة للنقطة الأولى، لن يكون نموذج العالم النامي، في ما يخص النمو القائم على الصادرات والذي حقق نجاحا كبيرا خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، قابلا للحياة خلال أربع سنوات أخرى أو نحو ذلك في حال واصلت الولايات المتحدة تخفيض ديونها من خلال التوقف عن استيراد إنتاج الأسواق الناشئة. في الوقت نفسه، ورغم خروج أوروبا من حالة الركود الاقتصادي، من المحتمل أن يظل النمو الاقتصادي ضعيفا في أحسن الأحوال.
قاد الانخفاض في معدل ادخار الأسر الأميركية - من 12 في المائة في أوائل ثمانينات القرن العشرين إلى 2 في المائة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين – النمو للارتفاع في الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي. وخلال الفترة التي انخفض فيها معدل الادخار، زاد الإنفاق الاستهلاكي بنحو 1.5 في المائة في العام أسرع من زيادة الدخل (بعد خصم الضرائب)، وهو ما أدى إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 0.5 في المائة.
أما الآن، فتتحرك جميع المؤشرات في الاتجاه المعاكس، فقد اتجه القطاع العائلي للادخار مرة أخرى بسبب حالة عدم اليقين في ما يخص محافظ الأوراق المالية، وضعف الأسهم المحلية، بالإضافة إلى فقدان الأموال التي ذهبت كأصول تقاعد لمواليد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان لتحرك المؤشرات في الاتجاه المعاكس أثر كبير وقوي في الخارج، فكل ارتفاع مقداره نقطة مئوية في الإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة، يقابله زيادة تقدر بـ2.8 في المائة في الواردات الأميركية - أو صادرات العالم الخارجي - في المتوسط سنويا. لذلك، عندما يقف الأميركيون عن الإنفاق، فإن بقية العالم يعاني كثيرا.
أما بالنسبة للنقطة الثانية، فيشعر المستثمرون، الذين هرعوا إلى ضخ أموالهم في الأسواق الناشئة وفشلوا في التفريق بين النوعين، بألم كبير بسبب ذلك الخطأ. ويمكن تقسيم الاقتصادات الناشئة إلى نوعين: يمكن أن نطلق على النوع الأول «الخراف»، وهي الدولة النامية مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وتايوان والفلبين. وتدار تلك الاقتصادات بشكل جيد، وهو ما يظهر بوضوح من خلال قياس فوائض الحساب الجاري وانخفاض التضخم وأسعار العملات المستقرة وأسواق الأسهم وأسعار الفائدة. أما النوع الثاني فيمكننا أن نطلق عليه «الماعز»، مثل تركيا والهند وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين والبرازيل، حيث تعاني تلك الدول عجزا في الحساب الجاري، وعملات ضعيفة غير مستقرة ومعدلات تضخم مرتفعة وانخفاضا في أسعار الأسهم، بالإضافة إلى معدلات أسعار فائدة عالية.
لا تمتلك «الماعز» الأموال الكافية لتغطية هجرة الأموال الساخنة التي بدأت الربيع الماضي. بالتالي، اضطرت «الماعز» لرفع أسعار الفائدة لجذب واستبقاء الأموال الأجنبية. وتعاني «الماعز» من مشاكل أخرى، بما في ذلك الاضطرابات العمالية في جنوب أفريقيا، التي أجبرت الحكومة على رفع الأجور خلال فترة التباطؤ الاقتصادي. أما تركيا والهند، فلديهما إرث كبير من المشاكل في ما يتعلق بالفساد الحكومي.
الأكثر من ذلك، تسببت معدلات الإنفاق الهائلة على بنود الدعم الحكومي في الأرجنتين وفنزويلا في زيادة معدلات التضخم وعجز الحساب الجاري. وكان من نتائج ذلك فرض قيود على تداول العملة المحلية، وحدوث نقص في العملات الأجنبية في السوق المحلية، والتي زادت أسعارها بشكل كبير بالمقارنة بأسعار السوق السوداء، حتى بعد تخفيض قيمة العملة بنسبة 15 في المائة في الأرجنتين.
يؤدي انخفاض قيمة العملة المحلية إلى زيادة تكلفة خدمة الديون الخارجية، وكذلك زيادة معدل التضخم بسبب ارتفاع فاتورة الواردات. غير أن انخفاض قيمة العملة ربما يساهم في زيادة الصادرات من خلال تخفيض قيمتها، لكن السؤال يبقى: إلى أي دول ينبغي على الاقتصادات الناشئة توجيه صادراتها؟
وقد انخفضت صادرات أوروبا وأميركا الشمالية، في الوقت الذي يجعل تباطؤ النمو في الصناعات التحويلية في الصين بيئة الأسواق الناشئة صعبة على كل من المتنافسين وموردي المواد الخام. وربما يثبت أن المشاكل التي تعاني منها الأسواق الناشئة، والتي تمثل 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العالم، تنتقل عن طريق العدوى إلى بلدان أخرى.
وقد بدأت عملية إعادة التقييم المؤلمة للاقتصادات الناشئة من قبل المستثمرين عندما ظهر حديث مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي عن تخفيض إجمالي التيسير الكمي. لم يعبر المسؤولون في الأسواق الناشئة عن امتنانهم قط لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بخصوص مساعدته في خلق كل تلك التدفقات المالية الميسرة، لكنهم الآن يلقون عليه باللوم في هجرة الأموال لبلادهم.
ومع ذلك، لا يظهر مجلس الاحتياطي الفيدرالي أي نية لعرض مساعدات لإنقاذ تلك الدول. في عام 2011، قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق، بن برنانكي، إن «الأمر يتعلق بالفعل بقدرة الأسواق الناشئة على إيجاد الأدوات المناسبة التي تساعدها في تحقيق التوازن في معدلات النمو الخاصة بها». وردا على الأزمة الحالية التي تشهدها الأسواق الناشئة، قالت رئيسة الاحتياطي الفيدرالي، جانيت يلين، خلال جلسة استماع في الكونغرس في شهر فبراير (شباط)، إن مشاكل الاقتصادات الناشئة لا تمثل خطرا في الوقت الحالي بالنسبة لتعافي الاقتصاد الأميركي، مشيرة إلى عدم حدوث أي تغيير في سياسة المجلس في ما يخص تخفيض إجمالي التيسير الكمي. لكن الشركات الأميركية تبدو معرضة بشدة للتأثر بما يحدث في الاقتصادات الناشئة. في عام 2011، كان 34 في المائة من إجمالي مبيعات فروع الشركات الأميركية متعددة الجنسيات في الأسواق الناشئة، في مقابل 25 في المائة في عام 2000. كما تظهر الأرقام المتعلقة بالأسواق الناشئة بوضوح خطط الشركات الأميركية للتوسع في الخارج. وفي عام 2011، استحوذت البلدان النامية على 42 في المائة من إنفاق فروع الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات في الخارج، مقارنة بـ30 في المائة في عام 2000.
وكما أشرت سابقا، وجد المستثمرون أنفسهم مجبرين على الفصل بين «الخراف» و«الماعز» في ما يخص الأسواق الناشئة، ولا سيما منذ أن دشن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسته الخاصة بتخفيض إجمالي التيسير الكمي، حيث تمتلك «الخراف» - كوريا الجنوبية وماليزيا وتايوان والفلبين - فوائض في حساباتها الجارية (أي فائض الادخار المحلي عن الاستثمار المحلي) من 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب من 12 في المائة اعتبارا من أواخر عام 2013. وتقوم «الخراف» بتصدير ذلك الفارق، وهو ما يسمح لها بتغطية هجرة الأموال الساخنة. وتساعد تلك الفوائض «الخراف» على عدم اتخاذ أي خطوات لرفع أسعار الفائدة، وهو ما يعزز قدرتها على الاحتفاظ بأموال المستثمرين داخل أسواقها. كما تتمتع «الخراف» باستقرار عملاتها مقابل الدولار الأميركي، مع بقاء أسعار الصرف من دون تغيير نسبيا منذ عام 2009. وقد ظل معدل التضخم المعتدل في «الخراف»، الذي يصل إلى أقل من 4 في المائة، هو القاعدة على مدى عدة سنوات. وقد ظلت أسواق الأسهم في اقتصادات «الخراف» مستقرة نسبيا خلال العقد الماضي، على عكس اقتصادات «الماعز»، التي شهدت أسواق الأسهم فيها انخفاضا شديدا. في الجزء الثاني من هذا المقال، سأشرح بالتفصيل ما الذي يدخل بعض الأسواق الناشئة ضمن فئة «الماعز».
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
الأسواق الناشئة.. استثمر في «الخراف» ولا تستثمر في «الماعز»
تشهد معدلات نمو أسرع من الولايات المتحدة.. وأسعار الأسهم تزيد 46 في المائة سنويا
الأسواق الناشئة.. استثمر في «الخراف» ولا تستثمر في «الماعز»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة