بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

سيرة مليئة بالمغامرات والإثارة في كتاب يستعيد الذكريات

بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
TT

بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)
بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)

لا يزال اسم بديعة مصابني جذاباً لكثيرين ممن عرفوا شيئاً عن مسيرتها المثيرة. فنانة شاملة؛ تغنّي على المسرح، ترقص وتمثّل، حتى حار النقاد في وصفها. الآن، تعود السيدة التي تربّعت على عرش مسرح «الفودفيل» في مصر قرابة 40 عاماً، إلى الواجهة، مع صدور مذكراتها بعناية الباحث مروان فليفل في طبعةٍ ثانية عن دارَي «نلسن» اللبنانية و«ريشة» المصرية، بعد نصف قرن من صدورها للمرة الأولى.

تأتي أهمية سيرة مصابني المولودة عام 1892 في دمشق لأم سوريا وأب لبناني، من أحداث حياتها المليئة بالمغامرات، وتتمفصل مع أحداث سياسية وفنية مهمّة مرّت بها المنطقة. فقد عاصرت الدولة العثمانية أيام السلطان عبد الحميد الثاني، وشهدت الحرب العالمية الأولى، ثم سقوط الدولة العثمانية وحلول الانتدابين البريطاني والفرنسي، وتقسيمات «سايكس بيكو». كما عاشت الحرب العالمية الثانية، والاستقلالات العربية، وسقوط الملكية في مصر. وهي، خلال كل هذه السنوات، كانت تتنقل من بلد إلى آخر، وتعاني وتجاهد من أجل أن تجد أماناً، قبل أن تتمكن بالفن من نيل شهرة كبيرة في مصر، وإدارة أحد أهم الكازينوهات التي عرفتها القاهرة في تاريخها.

كتاب يروي سيرة بديعة مصابني المثيرة (الجهة الناشرة)

عائلتها متوسطة، من 7 أولاد، أصغرهم بديعة، يعيشون من مصبنة. يفارق الوالد الحياة وتحترق المصبنة ليبدأ طريق الآلام. فجأة، تصبح الصغيرة وديعة ابنة السنوات السبع، قبل أن تُسمّى بديعة، عاراً على العائلة بعد تعرّضها للاغتصاب، وتقرّر والدتها التشهير بالمغتصب وسوقه إلى المحكمة. لكنه لا ينال سوى حكم عابر، بينما صارت بديعة مَثارَ شفقةِ أهل الحي وثرثراتهم، وعبئاً على عائلتها، وسبب الغضب والعنف الدائمين لوالدتها. أمام هذا الوضع البائس لا ترى الأم حلاً مع ابنتها سوى الهجرة.

غادرت بديعة مع والدتها دمشق إلى بيروت، حيث انتظرهما باقي أفراد العائلة. «ركبنا أول باخرة صادفناها درجة رابعة، أي على (ظهر البابور)، وذلك من دون جوازات سفر. كانت السفرة سلسلة عذاب لا تنتهي. وجدني جميع أفراد أسرتي سبب ذُلّهم وفقرهم وتشرّدهم. كانوا يجاهرون بهذا الشعور أمام الجميع، فوالدتي تنتهرني باستمرار أمام الناس بلهجتها الشامية (الله لا يكبّرك، الله يقصف عمرك، حمَّى تسلقك...)، وتنهال عليّ ضرباً بقسوة. وكلما تذكّر أحد أشقائي بلاده وصعُبت عليه حالته، شتمني وضربني على مرأى من الركاب ومسمعهم، حتى أصبحتُ لخوفي من الضرب، أحتمي بالبحارة الذين كانوا ينقذونني من أهلي».

في الأرجنتين، تعلّمتْ ابنة الثامنة الإسبانية والرقص والغناء في المدرسة، وأُعجب بها أساتذتها، فاهتموا بموهبتها. لكنَّ الأم لم يهنأ لها البقاء، فعادت بابنتها طامعةً في إرث والدها الذي تُوفي، ولم تعثر على ما يستحق التضحية. من جديد، توجّهت ببديعة إلى لبنان هرباً من سوء المُقام في حيّهما، لكنَّ الرحلة كانت على الأقدام. تروي بديعة الألم والتشرد اللذين ذاقتاهما بينما وصلتا إلى بيت شقيقتها قرب مدينة جبيل. وهي لم تكن السفرة الأخيرة مشياً. فالمواصلات قليلة، والوالدة الحريصة تكره الإنفاق، فكانت النتيجة السير مع ابنتها من دمشق إلى جبل لبنان.

بديعة مصابني فنانة متعدّدة المواهب (مواقع التواصل)

لكن المُقام لم يَطِبْ للأم، فقررتا السفر إلى مصر. حلمُ الفن لم يفارق الصبية. في القاهرة، وبينما كانت بديعة في حديقة الأزبكية تمارس هوايتها في التزحلق، تعرّفت إلى شخص قادها إلى المسرح المجاور. «دخلنا مسرح الأزبكية، وكانت أول مرة تطأ فيها قدمي مسرحاً. وجدتُ نفسي في دنيا ثانية، جميلة، تختلف عن غرفتنا، وأمي وأخي توفيق... بسرعة البرق تصورتُ نفسي على المسرح أرقص وأُغنّي وأنا ألبس الحرير، وتُزيّن عنقي المجوهرات لتنعكس عليها الأضواء الساطعة. غبتُ في حلم لذيذ، كأنني أسمع تصفيق الجمهور وهتافه. لم أفق منه إلا عند انتهاء حفلة (الماتينيه)، فخرجتُ من أنوار المسرح إلى ظلمة الشارع».

هناك تعرّفت إلى جورج أبيض، وبدأت الرحلة. لم تُجِد بديعة العربية لاعتمادها الإسبانية في المدرسة بالأرجنتين، لكن جورج أبيض عهد بها إلى جورج سليم الذي علّمها لغتها الأم، وباتت قادرة على أن تقرأ النصوص وتحفظها، وتؤدي أدوارها.

حين بدأت التمثيل، كانت في الثالثة عشرة، وأخفت عن والدتها ما كانت تفعله. إلا أنّ تضييق الأم عليها، جعلها تسعى إلى التخلّص منها. تمكنت «العفريتة» من إقناع والدتها بأنّ العودة إلى دمشق أفضل. اشترت تذكرة قطار واحدة: «ذهبنا إلى المحطة وصعدنا القطار وأنا أتظاهر باللهفة عليها وعلى أمتعتها. وما إن شعرت بأنّ القطار بدأ يتململ ليُسرع في المسير، حتى نهضت وقلتُ لها ببساطة: (أنا ذاهبة أبحث لنا عن طعام... ونزلتُ منه)».

هكذا انطلقت بديعة وبدأت رحلتها الفنية بكامل الحرية. من بعدها، تعرفت إلى فرقة الشيخ أحمد الشامي التي تجول في الأرياف، وأدّت أدواراً متنوّعة، فيها التمثيل والغناء. تعرّفت مصادفة إلى نجيب الريحاني وتزوّجته عام 1943، وانطلقت معه في شراكة فنية ناجحة، دشّنتها بجولة في أميركا الجنوبية، وكانت أنجح أعمالها معه «الليالي الملاح». استمر الزواج 25 عاماً، لم تكن سهلة بين شخصين مختلفَي المزاج. لكنها تقول إنه كان لها عوناً فنياً كبيراً جداً.

بديعة مصابني ونجيب الريحاني يوم زفافهما (ويكيبيديا)

بعد انفصالها عن الريحاني، أنشأت شركة إنتاج سينمائي، وخسرت بعد تراكم الضرائب عليها. أما مشروع العمر فهو «كازينو بديعة» الذي كان عالماً يضجّ بعشرات الموسيقيين والمغنّين والراقصين والموظّفين. كازينو، ومطعم ومقهى، و«روف غاردن». طبقات ثلاث تعجّ بالرواد طوال النهار. من هذا الكازينو، تخرّج فنانون كثرٌ. من هنا مرّت تحية كاريوكا وسامية جمال، وغنّى فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب، وعُقدت الجلسات الثقافية التي كان من بين جلسائها نجيب محفوظ.

لكنّ الحياة تبدّلت. سرق بريق السينما الفنانين، وبدأ «كازينو بديعة» يفقد وهجه ونجومه، وتراكمت الضرائب على صاحبته. يقال إن ثمة مَن دبّر لها مكيدة للتخلّص منها، فهربت إلى لبنان، لكنها أضاعت ثروتها، ولم يبقَ منها إلا القليل. وعملت في مدينة شتورة البقاعية ببيع الأجبان والألبان طوال 24 عاماً. عانت انطفاء الضوء، والوحدة، والعزلة طوال هذه الأعوام، إلى أن توفيت في يوليو (تموز) عام 1974 عن 86 عاماً.


مقالات ذات صلة

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق من ندوة حوارية بعنوان «دور الجمعيات المهنية في تنمية الصناعة الثقافية» (جدة للكتاب)

الجمعيات المهنية ترسم ملامح صناعة ثقافية منظَّمة بالسعودية

كيف تتحوَّل الثقافة من نشاط قائم على الموهبة والاجتهاد الشخصي إلى صناعة منظَّمة؟

أسماء الغابري (جدة)

وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
TT

وَصْف الخبز المكسيكي بـ«القبيح» يُفجّر جدلاً على وسائل التواصل

الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)
الخبز أكثر من طعام... لغة انتماء (أ.ب)

أثار انتقاد صريح وجَّهه خباز بريطاني إلى الخبز المكسيكي موجة واسعة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، انتهت باعتذار علني.

ففي مقابلة ضمن بودكاست عن الطعام أُعيد تداولها عبر الإنترنت، قال الشريك المؤسِّس لمخبز «غرين راينو» في مكسيكو سيتي، وأحد الأسماء المعروفة في عالم صناعة الخبز الدولية، ريتشارد هارت، إن المكسيكيين «لا يملكون في الحقيقة ثقافة خبز تُذكر»، مضيفاً: «إنهم يصنعون السندويتشات باستخدام لفائف بيضاء قبيحة، رخيصة الثمن ومصنَّعة على نحو صناعي».

وسرعان ما انتشرت تصريحاته عبر منصات «إنستغرام»، و«تيك توك»، و«إكس»، واتهمه كثير من المكسيكيين بالاستخفاف بتراث بلادهم من الخبز التقليدي وإهانته.

وذكرت «أسوشييتد برس» أنّ ما بدأ خلافاً حول الخبز سرعان ما تحوَّل إلى نقاش وطني أوسع حول هوية الطعام، ليس فقط بشأن مَن يُعرّف التقاليد المطبخية المكسيكية، بل أيضاً حول النفوذ المتزايد للأجانب في عاصمة تشهد توتراً متصاعداً بفعل تدفُّق المغتربين الأميركيين والسياح.

وقالت دانييلا ديلغادو، وهي طالبة جامعية في مكسيكو سيتي: «لقد أساء إلى مجتمع الخبازين في المكسيك، وإلى كلّ الناس هنا الذين يحبّون الخبز، وهم تقريباً الجميع».

جدل يتجاوز الخبز إلى سؤال الهوية والذاكرة (أ.ب)

«لا تعبثوا بالبوليو»

امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بالميمات ومقاطع الفيديو الساخرة، والدفاعات الحماسية عن الخبز المكسيكي. وسارع المستخدمون إلى الإشادة بالأنواع اليومية الشائعة، من خبز «البوليو» القاسي المُستَخدم في شطائر «التورتا»، إلى خبز «الكونتشا» الشهير في المخابز الشعبية في الأحياء. وفي كثير من الأحيان، تُمثّل هذه الأطعمة البسيطة عنصراً جامعاً بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، وتمسّ جوهر الهوية الثقافية للبلاد.

ورغم أنّ خبز القمح أُدخل إلى المكسيك خلال الحقبة الاستعمارية، فإن هذا الغذاء الأساسي تطوَّر ليصبح تقليداً وطنياً مميّزاً، يمزج بين التقنيات الأوروبية والأذواق والمكوّنات المحلّية. ولا تزال المخابز الصغيرة في الأحياء تُشكّل اليوم جزءاً محورياً من الحياة اليومية في المدن والبلدات، بوصفها مراكز اجتماعية بقدر ما هي مصادر للغذاء.

وأثار الحادث تساؤلات واسعة حول سبب إقدام رائد أعمال أجنبي على انتقاد علني لعنصر غذائي مُتجذّر بعمق في الحياة المكسيكية. وبالنسبة إلى كثيرين، عكست تصريحات هارت إحباطات قديمة تتعلَّق بحصول الطهاة وأصحاب المطاعم الأجانب على مكانة واهتمام يفوقان نظراءهم المحلّيين، فضلاً عن المخاوف المُرتبطة بتسارع وتيرة «التحسين الحضري» في العاصمة.

وجاء في منشور لاقى انتشاراً واسعاً عبر «إكس»: «لا تعبثوا بالبوليو».

«فرصة للتعلّم»

ومع تصاعُد الانتقادات، أصدر هارت اعتذاراً علنياً عبر «إنستغرام»، قال فيه إنّ تعليقاته صيغت بشكل سيئ، ولم تُظهر الاحترام اللائق للمكسيك وشعبها. وأقرَّ بردّ الفعل العاطفي الذي أثارته، مُعترفاً بأنه لم يتصرّف بصفته «ضيفاً».

وقال في بيانه: «ارتكبت خطأً، وأندم عليه بشدّة».

وسبق لهارت أن عمل في مخابز فاخرة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكان جزءاً من مشهد الخبز الحِرفي المتنامي في مكسيكو سيتي، وهو سوق تستهدف في الغالب زبائن من الطبقتَين الوسطى والعليا، وكثيراً ما يكونون من الأجانب الباحثين عن خبز العجين المُخمّر والمعجنات الأوروبية بأسعار تفوق بكثير أسعار مخابز الأحياء الشعبية.

ولم يُسهم الاعتذار في تهدئة الجدل فوراً. ففي حين قبله بعض المستخدمين، رأى آخرون أنه لم يتطرَّق إلى القضايا الأعمق المُتعلّقة بالسلطة الثقافية، ومَن يملك حق انتقاد التقاليد المكسيكية.


حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
TT

حتى الدلافين تشيخ ببطء مع الأصدقاء!

الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)
الصداقة تحمي الجسد من الشيخوخة (شاترستوك)

بيَّنت دراسة علمية جديدة أنّ ذكور الدلافين قارورية الأنف التي تنسج صداقات قوية وطويلة الأمد تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ، مقارنة بأقرانها الأكثر عزلة، ممّا يسلّط الضوء على الدور المحوري للروابط الاجتماعية في تحقيق شيخوخة صحية لدى الثدييات.

وتُعرف الدلافين قارورية الأنف بقدرتها على تكوين صداقات تمتد لعقود، على غرار علاقات الرفقة التي يشهدها البشر. وقد أظهرت دراسات سابقة أنّ ذكور هذا النوع تقضي وقتها معاً في اللعب، وركوب الأمواج للمتعة، والراحة جنباً إلى جنب، وتشكيل روابط اجتماعية عميقة وطويلة الأمد.

ويقتصر هذا النمط من الترابط الاجتماعي على الذكور، إذ يُعرف أنّ صداقات إناث الدلافين تتأثّر بوجود صغار متقاربين في العمر.

وقالت عالمة الأحياء البرية، ليفيا غيربر، من منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية في أستراليا: «يُذكّرني ذلك بصديقَيْن في روضة الأطفال يلازمان بعضهما بعضاً طوال سنوات الدراسة، ثم في مسيرتهما المهنية وحتى التقاعد، ويتقاسمان أفراح الحياة وتحدّياتها».

وفي الدراسة الجديدة، حلَّل الباحثون 50 عيّنة من أنسجة الجلد مأخوذة من 38 دلفيناً قاروري الأنف في «شارك باي»، أو «خليج القرش». كما قيَّم العلماء بيانات الروابط الاجتماعية بين الدلافين في الخليج، استناداً إلى سنوات طويلة من الملاحظات الميدانية.

وخلصوا إلى أّن ذكور الدلافين التي تمتلك علاقات اجتماعية قوية تتقدَّم في العمر بوتيرة أبطأ مقارنة بأقرانها التي تعيش حياة أكثر وحدة.

وقالت غيربر، المؤلّفة الرئيسية للدراسة المنشورة في مجلة «نيتشر كوميونيكيشنز بيولوجي» التي نقلتها «الإندبندنت»: «كنا نعلم بأنّ الروابط الاجتماعية تساعد الحيوانات على العيش مدّة أطول، لكن هذه هي المرة الأولى التي نُظهر فيها أنها تؤثّر في عملية الشيخوخة نفسها». وأضافت: «الروابط الاجتماعية مهمّة إلى حدّ أنها تُبطئ الشيخوخة على المستوى الخليوي».

وأوضح الباحثون أنّ الدلافين الأكثر عزلة قد تضطرّ إلى الصيد بمفردها، والتنافُس على التزاوج من دون دعم، ومواجهة أسماك القرش وغيرها من المفترسات، وهي عوامل قد تُسهم في حياة مليئة بالتوتّر، على نحو يشبه ما يحدث لدى البشر.

وقالت غيربر: «وجود الأصدقاء يعني أنكم تصطادون معاً، وتحرسون ظهور بعضكم بعضاً، وتتقاسمون الأعباء».

وحتى الآن، ركّزت معظم البحوث المتعلّقة بتأثير الصداقات في الشيخوخة على العمر الزمني للحيوان منذ ولادته، أو على متوسّط عمره. وإنما الدراسة الأخيرة قدَّرت العمر البيولوجي الحقيقي للدلافين استناداً إلى مؤشرات فردية في الحمض النووي.

وأظهرت الدراسات أن ما يُعرف بـ«الساعة فوق الجينية» (Epigenetic clock) يوفّر مؤشراً أدقّ على الصحة العامة وحالة الشيخوخة لدى الحيوان. وفي دراسات سابقة، ساعدت هذه الساعات فوق الجينية في كشف كيفية تأثير عوامل مثل التلوّث، والاكتئاب، والروابط الاجتماعية الإيجابية أو السلبية في العمر البيولوجي.

وتخلُص النتائج، حسب العلماء، إلى إبراز أهمية الاستثمار في علاقات إنسانية ذات معنى، إلى جانب التغذية الصحية وممارسة الرياضة، من أجل حياة أطول وأكثر صحة.


«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
TT

«كويبُوكا»… يذكّر بحروب الإبادة في رواندا

نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)
نال الفيلم إشادات عدة خلال عرضه في مهرجان البحر الأحمر (الشركة المنتجة)

في فيلمه «كويبُوكا، تذكَّر»، الذي شارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يعود المخرج البلجيكي–الرواندي جوناس داديِسكي إلى موطنه رواندا لا بوصفها مسرحاً لمأساة تاريخية فحسب، بل إنه فضاء حيّ يعيد طرح أسئلة الذاكرة، والهوية، والانتماء من منظور جيلٍ عاش الإبادة الجماعية من بعيد، لكنه ظل يحمل آثارها في داخله.

تدور أحداث الفيلم حول «ليا»، لاعبة كرة سلّة بلجيكية–رواندية، تواجه نهاية مسيرتها الاحترافية في أوروبا، قبل أن تتلقى دعوة غير متوقعة للانضمام إلى منتخب رواندا الوطني، والمشاركة في بطولة تُقام في كيغالي. الرحلة التي تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، تتحول تدريجياً إلى مواجهة داخلية مع الذاكرة، والمنفى، وصمت العائلة، وهوية ممزقة بين مكانين وزمنين.

يقول داديِسكي لـ«الشرق الأوسط» إن «الدافع الأساسي لصناعة الفيلم كان رغبتي الشخصية في إعادة الاتصال برواندا، البلد الذي أنتمي إليه عبر والدي، رغم أنه وُلد ونشأ في بلجيكا»، مشيراً إلى أنه لم يُرِد العودة بصفة أنه سائح، بل من خلال مشروع يتيح له خوض تجربة إنسانية حقيقية مع الناس هناك، وهو ما تحقق عبر الفيلم، الذي أعاده مراراً إلى رواندا، وفتح أمامه علاقات، واكتشافات غيّرت نظرته إلى البلد، وإلى نفسه.

صور الفيلم بالعديد من المواقع الحقيقية داخل رواندا (الشركة المنتجة)

ويوضح أن شخصية «ليا»، بطلة الفيلم، جاءت انعكاساً جزئياً لتجربته الذاتية، فهي تنتمي إلى الجيل نفسه، وتحمل الهوية المختلطة ذاتها، وتعود إلى رواندا ليس بدافع الحنين، بل عبر مهمة محددة، وهي الانضمام إلى منتخب كرة السلة الوطني. ومع ذلك، فإن هذه العودة تفتح أسئلة مؤجلة حول العائلة، والماضي، والإبادة الجماعية.

وأكد أن الفيلم انطلق من الشخصية أولاً، لكن استحالة فصل العودة إلى رواندا عن تاريخها جعلت ذاكرة ما بعد الإبادة حاضرة بوصفها سياقاً لا يمكن تجاهله، مشيراً إلى أنه تعامل مع كرة السلة باعتبارها فقاعة تحتمي داخلها «ليا»، فالحياة الاحترافية القاسية سمحت لها بالتركيز على الحاضر، وتجنب مواجهة ماضيها. غير أن دعوة المنتخب الرواندي شكّلت أول شرخ في هذه الفقاعة، إذ سمحت لها بالعودة إلى البلد من دون أن تكون مطالبة فوراً بمواجهة أسئلتها العائلية.

ولفت إلى أن الفيلم يتعمد كسر صورة «الفيلم الرياضي الكلاسيكي»، إذ تبدأ «ليا» باعتبارها نجمة منتظرة، وقائدة للفريق، لكنها تنتهي بالتنازل عن موقعها، وإقناع المدرب بأن الفريق قادر على الفوز من دونها، في موازاة رمزية مع رواندا التي أعادت بناء نفسها بعد الإبادة.

عاد المخرج إلى رواندا عدة مرات للتحضير للفيلم (الشركة المنتجة)

وعن تجنب الميلودراما يقول داديِسكي إن «قوة الشخصية المهنية كانت عنصراً أساسياً في موازنة هشاشتها الداخلية. فالفيلم يقدّمها أولاً كلاعبة ناجحة، قبل أن يكشف تدريجياً تعقيدات ماضيها»، مؤكداً أن وعي البطلة بأنها لم تعش الإبادة بنفسها منح الشخصية تواضعاً أخلاقياً، منعها من إصدار الأحكام، وهو ما انعكس على نبرة الفيلم العامة، القائمة على الصمت، والكلمات القليلة، والانفعالات المكبوتة.

وفي تناوله للإبادة الجماعية، يوضح المخرج أنه اختار الابتعاد عن الصور المباشرة، أو الأرشيف، مفضّلاً تثبيت الفيلم في الحاضر، مشيراً إلى أن «الصمت والغياب كانا عنصرين أساسيين في السرد، قبل أن تأتي فكرة استخدام الرسوم المتحركة بوصفها وسيلة عضوية لاستعادة الذاكرة، فالبطلة لا تملك صوراً واضحة عن الماضي، بينما يحمل والدها ذكريات مؤلمة عبّر عنها عبر رسومات، وعندما تكتشف الابنة هذه الرسومات، تبدأ في إسقاط ذاكرتها المتخيلة عليها، في عملية إعادة بناء غير مكتملة، تعكس هشاشة الذاكرة، وتشوهها»، على حد تعبيره.

ويؤكد داديِسكي أن الرسوم المتحركة كانت خياراً أخلاقياً، وجمالياً، لأنها تبتعد عن إعادة تمثيل العنف، وتسمح بتجسيد الإحساس بدل الحدث، كما أنها شكّلت جسراً عاطفياً بين الأب، والابنة، وهي العلاقة التي يراها جوهر الفيلم.

وحول فكرة «العودة» إلى الوطن، يشدد على أن الفيلم لا يتعامل معها بوصفها حنيناً، لأن «ليا» لا تمتلك ذاكرة واضحة عن رواندا، فهي لا تتقن اللغة، والبلد تغيّر جذرياً، حتى ملاعب كرة السلة أصبحت أكثر تطوراً مما عرفته في أوروبا، لافتاً إلى أن وجودها في رواندا لاعبة، لا سائحة، منح السرد ديناميكية، وحوّل العودة إلى رحلة اكتشاف وبحث، لا استرجاع للماضي.

قدم الفيلم صورة عن واقع رواندا اليوم بنظرة جيل عاش خارجها (الشركة المنتجة)

ويرى المخرج أن البطلة تمثل جيلاً كاملاً من أبناء الشتات الرواندي، الذين غادروا البلاد خلال الإبادة، ونظروا إلى وطنهم لسنوات طويلة من خلال مأساة واحدة، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الشخصية تتجاوز خصوصيتها، لتعبّر عن تجربة إنسانية أوسع، تشمل كل من عاش انكسار الهوية بسبب الحرب، أو المنفى، أو التبني القسري.

وعن التناقض بين ماضي رواندا الجريح وحاضرها النابض، يقول داديِسكي إن هذه المفارقة كانت من أقوى الصدمات التي عاشها شخصياً عند زيارته الأولى للبلد، بعدما اكتشف عاصمة حديثة، وطبيعة خلابة، وحياة يومية مليئة بالطاقة، لافتاً إلى أنه أراد نقل هذه الصورة إلى الفيلم، من دون إنكار الماضي، عبر لغة بصرية ملوّنة، وحيوية، تقابلها معالجة متقشفة وصامتة لأماكن الذاكرة، وقال إن «الفيلم يعكس قناعتي بأن الجيل الذي كان طفلاً وقت الإبادة يمتلك اليوم مسافة كافية تسمح له بمساعدة جيل الآباء على تفكيك صدماتهم».

وفي ختام حديثه، يشير داديِسكي إلى أن اسم الفيلم لا يعني التذكّر بوصفه عودة جامدة إلى الماضي، بل باعتبار أنه تفاعل حيّ بين الماضي والحاضر، معرباً عن أمله في أن يخرج المشاهد من الفيلم برغبة في مواجهة عقده الخاصة قبل فوات الأوان، وبإيمان حقيقي بإمكانية إعادة البناء، سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي، حتى بعد أكثر التجارب الإنسانية قسوة.