مع إنهاء الحرب الدائرة في غزة أسبوعها الثالث، بدا من الواضح أنها لن تكون «جولة» عادية من جولات القتال، المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فإسرائيل أعلنتها حرباً «طويلة»، بينما يجهد الفلسطينيون لالتقاط الأنفاس ووقف الحرب، علّهم يخرجون بمحصلة سياسية، يمكن أن تشكل الحاضنة لمستقبل القطاع. وهذا، بعدما بات واضحاً أن شطب «حماس» من المعادلة هو قرار قيد التنفيذ، مع إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرح فكرة تشكيل «تحالف دولي» لمقاتلة «حماس»، يشبه التحالف الدولي الذي يقاتل «داعش». منذ اليوم الأول لتفجّر الحرب، كان من الواضح أن الولايات المتحدة هي التي تولت زمام الرد على هجوم «حماس» الذي نسبت إليه أهداف عدة، من بينها محاولات «قلب الطاولة»، على المفاوضات الجارية في المنطقة، سواء في ملف التطبيع مع إسرائيل، أو الملف النووي الإيراني. والهجوم الذي هزّ صورة إسرائيل واستقرارها، كشف عن نقاط ضعف، كان يغطيها غرور غير محدود مع حكومة يمينية، بات من شبه المؤكد أنها لن تستمر مع رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو في الحكم، حتى لو تعمّقت يمينية المجتمع الإسرائيلي أكثر. فما هي الملفات المطروحة في هذه الحرب؟ وما هي تأثيراتها على المستويين الإقليمي والدولي، وكذلك على الولايات المتحدة التي تدخل الشهر المقبل سنتها الانتخابية؟
ذا كانت كل التقديرات تشير إلى أن الحرب الحالية في الشرق الأوسط ستكون طويلة، فلماذا التلويح باجتياح غزة، في حين يؤكد كثير من التقارير الأميركية أن إدارة بايدن تشعر بالقلق من افتقار إسرائيل إلى أهداف عسكرية قابلة للتحقيق في غزة، وأن قواتها ليست مستعدة بعد لشن غزو برّي بخطة مضمونة النجاح؟ وفي مباحثات مع المسؤولين الإسرائيليين منذ بدء هجمات «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، قال المسؤولون الأميركيون إنهم لم يروا بعد خطة عمل قابلة للتحقيق. بل لمح الرئيس بايدن إلى ذلك علناً، خلال خطابه في تل أبيب الأسبوع الماضي، عندما حذّر من أن إسرائيل ستحتاج إلى «الوضوح بشأن الأهداف وتقييم صادق حول ما إذا كان المسار الذي تسلكه سيحقق تلك الأهداف، أم لا».
بحسب محللين وعسكريين أميركيين سابقين، أرسلت الولايات المتحدة فعلاً «وحدة عمليات خاصة»، في محاولة لاستكشاف أماكن الرهائن وإنقاذهم، وسط مساعٍ محمومة لتفادي التضحية بهم إذا ما تعذّر إطلاقهم عبر الوساطات الجارية بالتعاون مع بعض الدول، بينها قطر وتركيا ومصر والأردن، قبل أي اجتياح إسرائيلي واسع. ولكن، وفق العقيد الأميركي المتقاعد، دوغلاس ماك غريغور، مُنيت تلك العملية بالفشل بعد تعرض المجموعة لإصابات فادحة. وهو ما يشير إلى أن القوات الأميركية قد تكون دخلت في مرحلة متقدّمة من الجاهزية والاستعداد، في ظل تأكيدات «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية) أنه لم يُطلب من إسرائيل تأجيل العملية البرّية، وأن الأمر متروك لها لتحديد موعدها. وجاء هذا التوضيح على لسان الناطق باسم «البنتاغون» الجنرال بات رايدر، في أعقاب ما ذكره تقرير لصحيفة أميركية عن أن إسرائيل «وافقت على إرجاء الهجوم إلى أن يتسنى لواشنطن إرسال دفاعات صاروخية لحماية قواتها في المنطقة». وأضاف التقرير أن إسرائيل تأخذ في الاعتبار الجهود التي تبذل لتقديم المساعدات الإنسانية لغزة، والجهود الدبلوماسية الرامية لإطلاق الرهائن لدى «حماس».
ولكن، مع احتمال تعقّد المناخ الدولي، تخشى واشنطن من تزايد التهديدات التي تتعرّض لها القوات الأميركية بمجرد بدء الهجوم البرّي، ما جعلها تسرّع نشر نحو 10 منظومات للدفاع الجوي، تضاف إلى الأسطول البحري والجوي الموجود في المنطقة.
ملف إيران
ومع مسارعة واشنطن إلى إرسال حاملات طائراتها وقواتها إلى المنطقة، وإعلان دول أوروبية عدة عن خطوات مماثلة، وُجهت رسائل متعددة، وخاصة إلى إيران، مفادها أنه لا مساس بدولة إسرائيل، وأن إدارة ملفات الصراع في المنطقة ما تزال تحت سيطرتها. وهنا يبقى «اللاعبون الآخرون» مجرّد مشاهدين، بدليل الضعف الشديد الذي ظهرت فيه تلك القوى، وخصوصاً روسيا والصين، ما حال دون لعبهما أي دور فعال، سواء لنصرة الفلسطينيين، أو لتغيير النظام الدولي (شعارهم الاستراتيجي). وما يؤكد هذا الواقع أن ملف «تطبيع» العلاقات بين بكين وواشنطن ماضٍ وفقاً للبرنامج المتفق عليه، مع وصول وزير خارجية الصين إلى العاصمة الأميركية، بينما يلتقي حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم بالزعيم الصيني شي جينبينغ، تمهيداً لقمته المرتقبة مع الرئيس الأميركي جو بايدن.
البعض يرى هنا أنه على الرغم من الاقتناع بأن إيران لن تُقدم على أي عمل انتحاري، خارج نطاق «المناوشات» التي تنفذها ميليشياتها في المنطقة، فإن حدة التصريحات الأميركية تجاه طهران تشير إلى تخوّفها من احتمال حصول تصعيد غير متوقع. وفي أقوى تحذير «رادع» ومباشر من مسؤول أميركي رفيع لإيران، قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يوم الثلاثاء، في الأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة ستردّ «بسرعة وحسم» على أي هجوم على القوات الأميركية من إيران أو وكلائها. وتابع بلينكن: «الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع مع إيران، ولا نريد لهذه الحرب أن تتسع. لكن إياكم وخطأ مهاجمة إيران أو وكلائها أفراداً أميركيين في أي مكان... لأننا سندافع عن شعبنا». وتجاوز بذا التحذيرات الغامضة السابقة التي أطلقها بايدن بشأن «لا تفعل»، لثني «حزب الله» أو إيران عن التورط في الحرب بين «حماس» وإسرائيل.
القوى الداعمة لـ«حل الدولتين» هي الغائب الأكبر عن الاعتراضات داخل أميركا وخارجها
هذه الخطوة تلي اعتراف واشنطن بأن ميليشيات إيران نفّذت 13 هجوماً على القوات الأميركية في المنطقة خلال الأسبوع الماضي. الأمر الذي دفع الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، يوم الاثنين، إلى القول إن إيران «في بعض الحالات تسهّل بشكل فعال هذه الهجمات، بهدف الحفاظ على مستوى معين من الإنكار هنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك».
وبينما تريد إدارة بايدن ردع جبهة ثانية ضد إسرائيل من وكلاء إيران في لبنان وسوريا، فإن تجاهل الرد على هجمات إيران الكثيرة، تفادياً لوقوع خسائر في صفوف القوات الأميركية حتى الآن، غدا دعوة إلى إيران لمواصلة اختبار نيات واشنطن. وقد يؤدي هذا إلى جرّها إلى مجابهة تسعى لتجنبها. لكن ماذا لو قتل أميركيون، من دون أن تدفع إيران الثمن؟ إذ ذاك على إدارة بايدن أن تقدّر أن الخطوة الأضمن لاستقرار المنطقة ستكون استعادة أميركا دورها كـ«قوة ردع».
في المقابل، التحذيرات تثير لدى إيران أيضاً - بعدما لمست حجم ضعف «محورها الدولي» (الصين وروسيا) - مخاوف عميقة من أن تكون «دعشنة» ميليشياتها الشيعية هي الخطوة التالية، بعد «دعشنة» حماس. وهذا ما قد يفقدها أدواتها، بل يمكن أيضاً أن يؤدي إلى طرح مستقبل النظام برمته على بساط البحث.
المساعدات مقابل الرهائن
لقد تعهدت واشنطن بأنها ستضغط من أجل السماح للمساعدات الإنسانية بدخول غزة، مقابل جهود إطلاق الرهائن.
عملياً هذا يرسي معادلة منع «حماس» من استثمار «إنجازها» العسكري بتحقيق انتصارات سياسية، وأن فرضية مبادلة الرهائن بالسجناء غير مطروحة على بساط البحث. ولا حديث عن وقف لإطلاق النار، في هذه المرحلة. وحقاً، اضطر وزير الخارجية بلينكن للكلام عن فترات هدنة لأسباب إنسانية «يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار»، للسماح بوصول الغذاء والماء وغيرهما من الضروريات إلى غزة، وللمدنيين بالخروج من طريق الأذى. وعلى الرغم من تحاشيه تحديد أي مهلة لفترات الهدنة، من غير المتوقع أن تكون وقفاً نموذجياً لإطلاق النار.
في المقابل، مع تزايد أعداد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين الذين تجاوزت أعدادهم 22 ألفاً بين قتيل وجريح، طلب قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل «هدنة إنسانية» لتسهيل توصيل المساعدات وخلق ظروف أكثر أماناً للإفراج المأمول عن الرهائن، ليحصروا الأمر بهذا الجانب فقط. لكن الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، ذكر أن الإدارة تؤيد «فترات التوقف» في الصراع للسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة. لكنه رفض الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار، بحجة أن مثل هذه الخطوة الآن لن تفيد سوى «حماس». وأضاف كيربي: «سنواصل التأكد من أن لدى إسرائيل الأدوات والقدرات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها». ومع تأكيده أن واشنطن لم تناقش أي «خطوط حمراء» مع إسرائيل، تابع: «سنواصل محاولة إدخال هذه المساعدات الإنسانية، ومحاولة إخراج الرهائن والأشخاص من غزة بشكل مناسب»، ما يشير إلى أن مساراً طويلاً يتوجب قطعه، في ظل النتائج المتوقعة من هذه الحرب، على مستقبل المنطقة كلها.
هل تتوقّف الحرب؟
المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون يرفضون الدعوات لوقف إطلاق النار كي يمنحوا الجيش الإسرائيلي الوقت الكافي للقضاء على «حماس». لكن الدعوات لإنهاء القتال تتزايد. ولخّصت ذلك كلمة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه أمام مجلس الأمن. إذ قال غوتيريش إنه «من المهم الاعتراف بأن هجمات (حماس) لم تحدث من فراغ» و«أن الفلسطينيين تعرضوا لـ56 سنة من الاحتلال الخانق». لكنه أضاف أن «مظالم الشعب الفلسطيني لا يمكن أن تبرّر الهجمات المروّعة التي تشنها (حماس)، مثل أن هذه الهجمات المروعة لا يمكن أن تبرّر العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني». بيد أن تبادل استخدام حق النقض في مجلس الأمن بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما جرى في الأيام الماضية، لا يزال في مراحله الأولى، الذي شهد في حروب سابقة تصويتاً مماثلاً، أدى في نهاية المطاف إلى إخراج قوات «منظمة التحرير» من لبنان عام 1982. وهو ما يرى البعض أنه قد يكون مصير قوات «حماس» في الفترة المقبلة.