«بي بي سي» و«حماس»... قصّة مقالين

هيئة الإذاعة البريطانية تواجه انتقادات حادّة لتغطيتها حرب غزة

شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
TT

«بي بي سي» و«حماس»... قصّة مقالين

شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)
شرطيان خارج مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخ مدخلها بطلاء أحمر في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)

أثارت تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) لحرب إسرائيل على غزة عاصفة إعلامية وسياسية، تجاوز صداها أروقة البرلمان البريطاني إلى طاولة مباحثات جمعت رئيس الوزراء ريشي سوناك بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ.

السبب؟ رفض «بي بي سي» وصف مقاتلي «حماس» بـ«الإرهابيين» في الأيام التي تلت الهجوم الذي شنّته الحركة على إسرائيل، والذي أسقط 1400 قتيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وردّت عليه تل أبيب بحرب، هي الأعنف على غزة، أسقطت أكثر من 8 آلاف قتيل حتى اليوم.

متظاهرون يحملون أعلاماً إسرائيلية وينتقدون سياسة «بي بي سي» التحريرية خارج مقرها بلندن في 16 أكتوبر (إ.ب.أ)

وعلى الرغم من دفاع الشبكة البريطانية الأبرز عن قرارها التحريري لأيام، فإنها أذعنت للضغوط السياسية والدولية، وأصبحت ترفق الإشارة إلى «حماس» بتصنيفها على قائمة المنظمات الإرهابية في بريطانيا. وفي تأكيد على مراجعتها توصيف «حماس»، قالت ناطقة باسم «بي بي سي» لـ«الشرق الأوسط» إن المؤسسة ابتعدت عن استخدام كلمة «مسلّح» لوصف مقاتلي «حماس» و«حزب الله»، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن «(بي بي سي) لا تحظر الكلمات، وقد تكون هناك أوقات، اليوم أو في المستقبل، يكون من المناسب فيها استخدام هذا المصطلح».

كان هذا التصريح اقتباساً من مقال نشرته مديرة أخبار «بي بي سي»، يستعرض الصعوبات الكبيرة التي تواجهها المؤسسة في تغطية حرب غزّة، خاصّة أن الانتقادات لم تقتصر على وصف «حماس»، بل تجاوزتها لاتهامات بالانحياز لإسرائيل، وأخرى للفلسطينيين.

عاصفة انتقادات

شهدت «بي بي سي» خلال السنوات القليلة الماضية سلسلة أزمات على خلفية تعليقات اعتُبرت «غير محايدة»، أو شبهة تجاوزات أخلاقية لأحد مذيعيها، حتى اتّهامات بالتحيّز لهذا الحزب أو ذاك. لكن أيّاً من هذه الأزمات لم يتحوّل إلى محور نقاش حكومي، أو يُثر هذا الكمّ من الاهتمام الدولي.

فقد نقلت تقارير إعلامية بريطانية أن الرئيس الإسرائيلي أثار قضية وصف حركة «حماس» مع سوناك لدى زيارة الأخير تل أبيب الأسبوع الماضي. وذكر موقع صحيفة «ذي إندبندنت» أن هرتسوغ عبّر عن استيائه لرئيس الوزراء البريطاني، ووصف تغطية «بي بي سي» بـ«الفظيعة». وقال: «حقيقة كونها لا تعترف بـ(حماس) كمنظمة إرهابية أمر يتطلب معركة قانونية وشعبية كاملة». ورداً على ذلك، رأى سوناك أنه يجب تسمية هجمات 7 أكتوبر «كما هي، أي عمل إرهابي ارتكبته منظمة إرهابية شريرة».

هيرتسوغ لدى استقباله سوناك في 19 أكتوبر (إ.ب.أ)

وفي السياق ذاته، حرص وزراء بارزون في الحكومة البريطانية على إثارة هذه القضية في تصريحاتهم خلال الأسبوعين الماضيين. فوزير الدفاع البريطاني غرانت شابس وصف سياسة «بي بي سي» بأنها «تكاد تكون مشينة»، ومن ثم ينبغي على المؤسسة تحديد «بوصلتها الأخلاقية». وكذلك، حضّها وزيرا الخارجية جيمس كليفرلي والثقافة لوسي فرايزر على مراجعة موقفها.

اختبار الحياد

لم تتردّد «بي بي سي» في معالجة هذه الانتقادات، ومحاولة شرح سياستها التحريرية؛ خصوصاً عبر مقالين، أولهما بقلم جون سيمبسون، محرّر الشؤون الدولية فيها، أعقبه بعد أيام مقال لمديرة الأخبار ديبورا تورنيس.

وفي 11 أكتوبر، نشر سيمبسون مقاله بعنوان «لماذا لا تصف (بي بي سي) مسلحي (حماس) بـ(الإرهابيين)؟»، في أول محاولة من المؤسسة للردّ على تسونامي تساؤلات الإعلام والدوائر الحكومية والنيابية والمسؤولين الأجانب عن سبب تحفّظها عن استخدام وصف «الإرهابي» عند الإشارة إلى «حماس»، رغم التصنيف الرسمي البريطاني للحركة والمزاج السياسي السائد.

منطق سيمبسون، والمؤسسة التي يمثّلها، اختصره في هذه الفقرة: «الإرهاب كلمة مشحونة يستخدمها الناس لوصف جماعة لا يوافقون عليها أخلاقياً. ليست مهمة (بي بي سي) أن تقول للناس من يجب أن يدعموا ومن يجب أن يدينوا، من هم الأخيار ومن هم الأشرار».

واستشهد سيمبسون في معرض شرحه بالضغوط التي تعرّضت لها مؤسسته في ثمانينات القرن الماضي ببريطانيا. وقال إنه «كان من الصعب الحفاظ على هذا المبدأ عندما كان (الجيش الجمهوري الآيرلندي) يقوم بحملة تفجيرات في إنجلترا ويقتل المدنيين الأبرياء، لكننا فعلنا ذلك. وكانت حكومة مارغريت ثاتشر تمارس ضغوطاً هائلة على (بي بي سي)، وعلى المراسلين الأفراد من أمثالي في هذا الشأن، وخاصة بعد تفجير برايتون الذي نجوت فيه من القتل، فيما قتل وجُرح كثير من الأبرياء الآخرين».

موظّف ينظّف مدخل مقر «بي بي سي» في لندن بعد تلطيخه بالطلاء الأحمر (رويترز)

تمسكت «بي بي سي» بموقفها لأيام، قبل أن تراجعه أمام تصاعد الضغوط. وفي هذا الصدد، يقول ديس فريدمان، مدير مركز أبحاث الإعلام في كلية غولدسميث، التابعة لجامعة لندن، إن هيئة الإذاعة البريطانية تعرّضت لضغوط هائلة للتخلي عن سياستها المتمثلة في الامتناع عن وصف «حماس» بالإرهابية. وهي اليوم تواصل وصف «حماس» بأنها «حركة فلسطينية تحكم قطاع غزة منذ عام 2007»، مع الإشارة إلى حقيقة أن بعض الدول «صنفتها جماعة إرهابية».

ورأى فريدمان، متحدّثاً لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك حجة قوية مفادها أنه إذا كان لهيئة الإذاعة البريطانية أن تؤخذ على محمل الجد، سواء داخل المملكة المتحدة أو على المستوى الدولي، فلا بد أن تكون مستقلة عن تلك الحكومات، وأبرزها حكومتا المملكة المتحدة وإسرائيل، اللتين تطالبانها بتغيير رأيها».

انتقادات عكسية

بالتزامن مع العاصفة السياسية التي واجهتها «بي بي سي» على خلفية توصيفها لحركة «حماس»، وجدت المؤسسة نفسها أمام موجة انتقادات موازية اتّهمتها بالانحياز لصالح إسرائيل في تغطية حرب غزة.

ولفت فريدمان إلى هذه المفارقة، مسلّطاً الضوء على انتقادات وجّهها صحافيون داخل «بي بي سي» لتغطية اعتبروها مؤيدة لتل أبيب. وقال: «أرسل موظفون رسالة هذا الأسبوع إلى المدير العام، مفادها أن المؤسسة تتعامل مع حياة الإسرائيليين باعتبارها أفضل من حياة الفلسطينيين». وتابع: «في كثير من الأحيان، نرى عناوين الصحف، بما في ذلك في هيئة الإذاعة البريطانية، أن الإسرائيليين (يُذبحون)، بينما (يموت) الفلسطينيون في القصف المستمر، أو نقرأ عن (الفظائع التي ترتكبها حماس)، في مقابل (المعاناة في غزة)، كما لو أن الأخيرة لا تمثّل فظاعة غير مسبوقة».

متظاهر يحمل علماً فلسطينياً خارج مقر «بي بي سي» بغلاسكو في 14 أكتوبر (أ.ف.ب)

تطرّقت ديبورا تورنيس، مديرة الأخبار في «بي بي سي»، لمجمل هذه الانتقادات في مقال نشرته الأربعاء، اعتبرت فيه أن «هذه الحرب هي من الأحداث الأكثر تعقيداً واستقطاباً التي غطيناها في تاريخنا». ولفتت إلى أن «بي بي سي» واجهت «انتقادات وشكاوى بأننا منحازون لإسرائيل وضدها، ولصالح الفلسطينيين وضدهم».

وفيما جددت تورنيس التزام المؤسسة بمبدأ الحياد، أكّدت اتّخاذها عدداً من الإجراءات الإضافية «حول كيفية إسناد ووصف المصادر والمعلومات في تغطيتنا لهذه الحرب».

كما تطرّقت إلى اللغة المستخدمة في وصف الضحايا المدنيين، وقالت إنه «يتعين علينا أن نفكر ملياً في الطريقة التي نتحدث بها عن الوفيات بين المدنيين، وكيف أن اللغة التي نستخدمها قد تعطي، عن غير قصد، الانطباع بأننا ننظر إلى بعض الوفيات على أنها أكثر أهمية من غيرها أو نعامل الناس على أي من الجانبين بشكل مختلف». وأشارت إلى «تداول تغريدة تقول إن الناس (ماتوا) في غزة و(قُتلوا) في إسرائيل على نطاق واسع كمثال على ذلك».

وعبّر فريدمان عن تخوّفه من تعرض «بي بي سي» لمزيد من الضغوط لـ«لتأطير الحرب على الفلسطينيين من منظور مؤيد لإسرائيل» على حد قوله، مشيراً إلى لقاء جمع تيم ديفي، المدير العام لـ«بي بي سي»، بأعضاء حزب المحافظين في البرلمان الأسبوع الماضي.

وشدد فريدمان على ضرورة تحوّل النقاش الحالي من كيفية وصف «حماس» إلى ما قد يشكل جرائم حرب وإبادة جماعية، خاصة في إطار الغزو البري المحتمل لغزة.


مقالات ذات صلة

«يوم قاسٍ» جديد في غزة

المشرق العربي فلسطينيون يعاينون حفرة أحدثتها غارة إسرائيلية في دير البلح وسط غزة الجمعة (د.ب.أ)

«يوم قاسٍ» جديد في غزة

رصد الجيش الإسرائيلي مقذوفَين أُطلقا من شمال قطاع غزة، في حادثة باتت متكررة في الأيام الأخيرة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية انفجار أعقب غارة إسرائيلية في دير البلح وسط قطاع غزة الجمعة (رويترز)

إسرائيل تفاوض في الدوحة... وتجعل الحياة مستحيلة في غزة

يجري قادة اليمين الحاكم مداولات حول مشاريع إعادة الاستيطان اليهودي في قطاع غزة وتوفير الظروف لجعل حياة الفلسطينيين فيه مستحيلة.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي مدرسة مدمَّرة نتيجة القصف الإسرائيلي على خان يونس في جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لمدرسة في غزة كانت «مأوى لمقاتلي حماس» (فيديو)

نشر الجيش الإسرائيلي، اليوم الجمعة، لقطات صوَّرتها مسيّرة لـ«مدرسة سابقة» في جباليا شمال قطاع غزة، قائلة إن مقاتلي حركة «حماس» كانوا يتحصنون فيها.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي فلسطينية تبكي خارج مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح الخميس (إ.ب.أ)

عشرات القتلى بغارات إسرائيلية على غزة

أدت غارات جوية إسرائيلية إلى قتل ما لا يقل عن 37 فلسطينياً في أنحاء قطاع غزة الخميس من بينهم 11 بمخيم يؤوي عائلات نازحة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية مبان مدمرة جراء القصف الإسرائيلي على غزة الخميس (رويترز)

نواب ائتلاف نتنياهو يطالبونه بتطبيق خطة الجنرالات في غزة

ينشط قادة اليمين الحاكم بإسرائيل لأجل إجهاض أي محاولة للانفراج، غير آبهين لمصير المحتجزين لدى «حماس»، وللقتلى الذين يتساقطون في الحرب.

نظير مجلي (تل أبيب)

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.