ثلاثة وجوه برونزية كلاسيكية من الجزيرة العربية

تحمل الطابع الهلنستي وتحاكي الواقع الحسي

وجه من قرية الفاو ووجه من غيمان ووجه من نجران
وجه من قرية الفاو ووجه من غيمان ووجه من نجران
TT
20

ثلاثة وجوه برونزية كلاسيكية من الجزيرة العربية

وجه من قرية الفاو ووجه من غيمان ووجه من نجران
وجه من قرية الفاو ووجه من غيمان ووجه من نجران

يحتفظ متحف الآثار التابع لجامعة الملك سعود بمجموعة من المنحوتات البرونزية تتميز بأسلوبها اليوناني الكلاسيكي، مصدرها موقع قرية الفاو، جنوب شرقي محافظة وادي الدواسر. تضمّ هذه المجموعة وجهاً كبيراً يماثل بسماته إلى حدّ كبير وجهاً خرج من مدينة غيمان، جنوب شرقي محافظة صنعاء، كما أنه يشابه بشكل عام وجهاً آخر خرج من منطقة نجران، جنوب غربي المملكة العربية السعودية، على الحدود مع دولة اليمن.

يبلغ طول وجه قرية الفاو نحو 40 سنتمتراً، وهو مصنوع من البرونز المصقول، ويوحي عنقه المبتور بأنه يعود في الأصل إلى تمثال كبير يقارب من حيث الطول الحجم الطبيعي للإنسان. تعرّض هذا الوجه كما يبدو إلى ضربة هرست الجزء الأيمن منه وهشّمته، غير أن هذا التشويه لم يقضِ على سماته. الجبين قصير، الوجنتان ممتلئتان، والذقن مقوّسة ملساء، وتخلو من أي شعيرات. الأنف مجسّم بشكل بارز، وهو في موقعه الطبيعي في وسط الوجه، بين الوجنتين وفوق الحنك.

العينان مفتوحتان، وهما على شكل لوزتين من الحجم الطبيعي، يحدّ كلّا منهما جفن علوي وجفن سفلي حُدّدا بشكل جليّ. في وسط كل عين، تبرز القزحية، وفي وسط هذه القزحية يحضر البؤبؤ على شكل دائرة مجوّفة. الحاجبان محدّدان بشكل طفيف، وهما أشبه بقوسين مجسّمين غاب عنهما أي تحديد لشعيراتهما. الفم صغير مطبق، ويتكون من شفتين صغيرتين مكتنزتين ترسمان ابتسامة خفرة تذكّر بتلك «الابتسامة الرقيقة المحمّلة السر»، التي ذكرها بودلير في وصف ملائكة ليوناردو دافنشي. يمثّل هذا الوجه، كما تشهد سماته، شاباً أمرد يعلو رأسه شعر طويل صَفِّف كله على شكل ضفائر مستديرة متجاورة ومتجانسة، منحوتة بدقّة بالغة. يحيط هذا الشعر الكثيف بهذا الوجه الدائري مشكّلاً إطاراً له، وينسدل عند طرفي الرقبة كما يبدو، مما يعطي التسريحة طابعاً أنثوياً.

يماثل هذا الوجه بشكل لافت وجهاً شهيراً من اليمن محفوظاً في المتحف البريطاني من لندن، يرجع إلى القرن الثاني للميلاد حسب أهل الاختصاص، ومصدره على الأرجح مدينة غيمان، جنوب شرقي محافظة صنعاء، وهي المدينة التي تضمّ حسب الروايات مقبرة ملوك حمير، ومنهم أبو كرب أسعد الذي سُمّي بأسعد الكامل لأن حكمه شمل اليمن بالكامل، كما تشهد أبيات شهيرة منسوبة إليه: «وغيمان محفوفة بالكروم- لها بهجة ولها منظر- بها كان يُقبر من قد مضى- من آبائنا وبها نُقبر- إذا ما مقابرنا بُعثرت- فحشو مقابرنا الجوهر».

خرج وجه غيمان من الظلمة إلى النور يوم نُشرت صورته للمرة الأولى في المجلة الفصلية الخاصة بالمتحف البريطاني في 1936، مع دراسة تحمل توقيع العالم البريطاني سيدني سميث، وقيل يومها إن «سلطان اليمن» الإمام يحيى حميد الدين أهداه إلى جورج السادس لمناسبة تتويجه على بريطانيا العظمى وآيرلندا في تلك السنة، وبات هذا الوجه منذ ذلك التاريخ من محفوظات المتحف في لندن. يبلغ طوله 22 سنتيمتراً، وهو ذو شكل دائري، ويمثّل كذلك شاباً أمرد، يعلو هامته شعر كثيف ينسدل حتى أسفل الوجنتين، تتفرّق خصلاته اللولبية المتساوية في الحجم من وسط الرأس. تمتاز سمات هذا الشاب بالرقة والرهافة في التنفيذ. تظهر الجبهة الصغيرة تحت خط غرّة الشعر المنسدلة، ويحدّها صدغان ضئيلان. الحاجبان مدموجان بمسطّح الجبهة، مع تجسيم طفيف لقوسيهما. الأجفان محدّدة بدقة، وتشكّل إطاراً للعينين المفتوحتين. الحدقتان واسعتان، ويتوسّط كل منهما بؤبؤ دائري مجوّف وغائر. الأنف ناتئ، وهو أكثر أعضاء الوجه بروزاً، وفقاً للتشريح الحسّي الواقعي، ومنخاراه محدّدان بدقّة. الثغر صغير، وشفتاه مفتوحتان بشكل طفيف. والذقن ممتلئة ومكتنزة بشكل بارز.

نقع على وجه ثالث ينتمي إلى هذا النسق الفني، ومصدره غير المؤكّد نجران، جنوب غربي المملكة العربية السعودية، وأوّل من عَرَّف به الباحثة الإيطالية المختصة بميراث جنوب الجزيرة العربية لوسيا غويريني التي وصفته ودرسته في مقالة علمية نُشرت عام 1974 في مجلة جامعية تصدر عن المعهد الشرقي في مدينة نابولي. حسبما جاء في هذا البحث، كان هذا الوجه من مجموعة خاصة تعود إلى وجيه من نجران يُدعى عبد العزيز السديري، أما اليوم، فهو من محفوظات هيئة التراث السعودية كما يبدو. يبلغ طوله نحو 13 سنتمتراً، وهو مكسوّ بغشاء من الصدأ، غير أن ملامحه جلية بشكل كامل، وقسماته تخلو من تلك الرقّة التي تميّز وجه قرية الفاو، ويغلب عليها تعبير حاد يتجلّى في نظرة العينين التي تتجه بشكل طفيف نحو اليمين.

يتكرّر وجه الشاب الأمرد، غير أن ملامحه تبدو ذكورية بشكل خالص، وتتّسم بشيء من الخشونة. الحاجبان مقطّبان، الأنف معقوف، والفم مشدود، وشفتاه مزمومتان. تعكس هذه التعابير حالة من الاكفهرار، كما أنها تسكب على هذا الوجه طابعاً فردياً خاصاً يخرج عن المثال الأصلي المعروف. تسريحة الشعر تتبع النسق نفسه، وهي هنا على شكل خصل دائرية متوازية، تتراصف في ثلاثة صفوف متلاصقة، تشكلّ ثلاثة عقود تحيط بالرأس وتكوّن هالة من حوله.

دخل هذا النسق إلى جنوب الجزيرة التي لم تخضع للسلطة الهلينية، واصطبغ بسمات وخصائص محلية سواء من حيث الشكل أو أسلوب النحت

تحمل هذه الوجوه الثلاثة الطابع الهلنستي الذي يقوم على محاكاة الشبه الحسي الواقعي بشكل أساسي. ظهر هذا النسق في الشرق المتوسطي وطبع نتاجاً فنياً واسعاً تعدّدت أشكاله. ومن هذا الشرق، دخل هذا النسق إلى جنوب الجزيرة التي لم تخضع للسلطة الهلينية، واصطبغ بسمات وخصائص محلية سواء من حيث الشكل أو أسلوب النحت، كما تشهد مجموعة كبيرة من القطع الأثرية، منها على سبيل المثل لا الحصر، تمثال برونزي بديع محفوظ في متحف صنعاء الوطني، يُمثّل ذمار علي يهبر، ملك سبأ، وذو ريدان في القرن الثاني للميلاد.

في الجانب الآخر من جزيرة العرب، ظهر هذا النسق بشكل محدود، وأبرز شواهده تعود إلى قرية الفاو، كما توحي المكتشفات الأثرية المتعاقبة حتى يومنا هذا. في المقابل، يبرز وجه نجران شاهداً آخر من هذه الشواهد، ولا ندري إن كان من نتاج هذه البقعة من الجزيرة أو من خارجها.


مقالات ذات صلة

الكشف عن أقدم حفرية وجه جزئي معروفة لأحد أسلاف الإنسان بغرب أوروبا

يوميات الشرق حفرية للجزء الأوسط الأيسر من وجه إنسان بدائي يعود تاريخها إلى ما بين 1.1 مليون و1.4 مليون سنة (أ.ب)

الكشف عن أقدم حفرية وجه جزئي معروفة لأحد أسلاف الإنسان بغرب أوروبا

أكد علماء آثار اليوم (الأربعاء) أنهم عثروا على أحفورة وجه جزئي لأحد أسلاف الإنسان هي الأقدم في أوروبا الغربية.

«الشرق الأوسط» (مدريد)
يوميات الشرق بهو المتحف الكبير (الشرق الأوسط)

مصر: اهتمام رئاسي بالخطة الترويجية للمتحف الكبير

عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأربعاء، اجتماعاً لمناقشة التحضيرات المتعلقة بحفل افتتاح المتحف المصري الكبير.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
ثقافة وفنون ثلاث قطع فنية حجرية من «متحف أرض اللبان»

ثلاث قطع نحتية من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان

خرجت من موقع سمهرم الأثري في سلطنة عُمان مجموعة من المجامر الحجرية المتعدّدة الأشكال، أشهرها مجمرة حجرية يزيّن واجهتها نقش تصويري ناتئ يتميّز برهافة كبيرة

محمود الزيباوي
يوميات الشرق فكّ ألغاز الماضي (أ.ب)

تحديد عُمر بقايا هيكل عظمي لطفل مات قبل 27 ألف عام

حدَّد باحثون بريطانيون عُمر بقايا هيكل عظمي لطفل قديم أثار اهتماماً واسعاً عند اكتشافه لامتلاكه خصائص مشتركة بين البشر الحديثين وإنسان «نياندرتال» البدائي.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق القطع الأثرية المصرية تحكي تاريخاً من الحضارة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

طوكيو تفتح ذراعيها لـ«رمسيس وذهب الفراعنة»

يضم المعرض 180 قطعة أثرية نادرة، تبرز قيمة الملك رمسيس الثاني، أحد أعظم ملوك الفراعنة وأكثرهم تأثيراً في تاريخ مصر القديمة.

محمد الكفراوي (القاهرة)

في العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو» الثقافية... الغذامي لا يخشى على الشعر

العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو»
العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو»
TT
20

في العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو» الثقافية... الغذامي لا يخشى على الشعر

العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو»
العدد الأول من مجلة «الإيسيسكو»

بالتزامن مع انعقاد مؤتمر وزراء الثقافة في العالم الإسلامي، الذي احتضنته مدينة جدة السعودية، منتصف الشهر الماضي، تمّ إطلاق العدد الأول من «مجلة الإيسيسكو الثقافية». وتناقش المجلة الجديدة التي أطلقتها «منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة» موضوعات ثقافية وتربوية وأدبية، مع تسليط الضوء على قضايا معاصرة تهم الساحة الثقافية في العالم الإسلامي.

رسالة المجلة

يشرف على هيئة تحرير المجلة الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لـ«الإيسيسكو»، وتتولى رئاسة التحرير الشاعرة السودانية روضة الحاج، مع فريق من المحررين.

في كلمة العدد، كتب الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لـ«الإيسيسكو»: «قد لا تكون هذه المرة هي الأولى التي تشهد إصدار مجلة باسم (الإيسيسكو)، ولكنها المرة الأولى التي تفلح فيها المجلة في المزج الخلّاق والشراكة الذكية بين إسهام الفاعلين في حقول عمل (الإيسيسكو) واستثمار الخبرات والمعارف والمواد القيمة التي تزخر بها أروقة وقطاعات ومراكز المنظمة عبر حراكها الذي لا يتوقف ونشاطها الذي لا يعرف السكون».

وأضاف: «إن رسالة (الإيسيسكو) القائمة على كونها مسرّعاً للتنمية، من خلال تطوير السياسات التنموية وبناء المنظومات المعرفية والابتكارية وتأهيل قيادات رائدة وتقديم الدعم والخبرة والمشورة، يحتم عليها السعي للوصول إلى أكبر قطاع ممكن من المستفيدين والشركاء في كل أنحاء العالم الإسلامي. وخير وسيلة لذلك ولا شك هي تعددية القنوات الإعلامية التي تمكّنها أن تقوم بتجسير العلاقات وإيصال الأفكار والرؤى ودعم التواصل بين المنظمة وعضويتها التي تتجاوز الخمسين دولة في مختلف أنحاء العالم. والمجلة قناة أخرى نضيفها إلى قنوات تواصلنا المتعددة، مع خصوصية لونيتها وخصوصية جمهورها أيضاً».

أما رئيسة التحرير الشاعرة روضة الحاج، فتساءلت في مقالها بالعدد الأول: ما الأهداف الجديدة التي تحملها مجلة «الإيسيسكو» في ثوبها الجديد؟

لتجيب: «إن ثراء (الإيسيسكو) وغناها متعدد الملامح هو أحد أهم أسباب تجدد فكرة المجلة. فالقريبون من المنظمة والمتعاملون معها وأصدقاء موقعها على الإنترنت وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي يعرفون حقّ المعرفة الحراك الموّار الذي لا يكاد يهدأ داخل قطاعات المنظمة ومراكزها المتخصصة، ويعلمون الجهد الكبير الذي يبذله المخلصون والخبراء لتقديم أفضل ما لديهم في مجالات التربية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والثقافة والعلوم».

وتضيف الحاج: «إصدار مجلة غير محكّمة عن منظمة تعمل في مجالات الثقافة والتربية والعلوم أمر غير معتاد، ولكنها محاولتنا للاقتراب من المتلقي بكافة مستويات التلقي، والمثقف من كافة أنماط الثقافة، في تطلعهم إلى المعرفة والثقافة والحوار بأبسط الطرق وأيسرها».

د. سالم بن محمد المالك المدير العام لمنظمة «الإيسيسكو» (واس)
د. سالم بن محمد المالك المدير العام لمنظمة «الإيسيسكو» (واس)

رأس المال الثقافي

شمل العدد الأول من المجلة حوارات صحافية مع عدد من الشخصيات البارزة في مجالات الثقافة والتربية والعلوم، منهم الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لـ«الإيسيسكو»، الذي أكد في حواره على أن المنظمة باتت بيت خبرة لكل المثقفين والمبدعين في العالم الإسلامي.

تأسست منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) عام 1982، وتتخذ من العاصمة المغربية الرباط مقراً لها، وتضم في عضويتها 53 دولة. وفي الحوار معه، يذكر المدير العام لـ«الإيسيسكو» الدكتور سالم بن محمد المالك أن «الثقافة تمثّل رافعة من روافع التنمية المستدامة، وذاكرة حية للشعوب تمثل هويتها الأصيلة وإرثها الإنساني»، فالثقافة هي «روح الأمم وجوهر هويتها، وأعدّ أن المنظمة بيت لكل المثقفين والمبدعين في العالم الإسلامي. ولأن دول العالم الإسلامي هي دول ذات ثقل حضاري وثقافي وتراثي ضارب في القدم، زاخر بالتنوع والغنى والتميز، كان لزاماً على المنظمة التفكير في آلية تحتفي فيها مع دولها الأعضاء بهذا التفرد، ما جعلها تعمل على تحديث وتجديد برنامج (الإيسيسكو) للاحتفاء بالعواصم الثقافية في دول العالم الإسلامي، الذي ينبع من وعيها الكبير بأهمية رأس المال الثقافي، ومن رغبة المنظمة في تغيير صورة هذه المدن نحو الأفضل، على نحو يبرز الجاذبية الثقافية لهذه العواصم المحتفى بها. ومن أجل إنعاش الذاكرة التاريخية لشعوب دول العالم الإسلامي».

قصاصة من حوار الغذامي في مجلة «الإيسيسكو» الثقافية
قصاصة من حوار الغذامي في مجلة «الإيسيسكو» الثقافية

لا خوف على الشعر

كما اشتمل العدد على حوار مع الناقد والمفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، أجرته الشاعرة روضة الحاج. تناول الحوار السيرة الفكرية والنقدية للدكتور الغذامي. وفي إجابته على سؤال بشأن نظرته لمستقبل الشعر العربي، وهل يخشى عليه غوائل الزمان؟ أجاب الغذامي: «الشعر والسرد معاً أهم سمات الحيوية البشرية، وكل إنسان هو شاعر وحكّاء في الوقت ذاته. ونحن نصنع حكاياتنا ونحوّل تجاربنا إلى سردية ذاتية نرويها حتماً ونقصّها لغيرنا، ويسأل بعضنا بعضاً عنها، كأن نقول: كيف حالك؟ في كل حالة لقاء، وهذا ليس سؤالاً عن الصحة، لكنه استجداء للحكي وفتح شهية لعمران اللحظة بالقول، ومنه قيل السمر لمجالس البدو في الليل خارج الخيام في الهواء الطلق. وكذلك إيقاع حياتنا هو قصائد موزونة بشرط الحياة، أي أننا قصائد وإن كانت عاقلةً، أي ليس كل شعر إلهاماً، فبعضه هو ما نحفظه ونتمتم به ونغنيه، ولو همساً بخلواتنا، وهذه حالة عامة، تتحول لحالة خاصة، حينما يكون الإنسان شاعراً بالمعنى المصطلحي، أو روائياً كما هو عرفياً. ولذا، فالشعر والسرد لا يمكن أن نضعهما في موضع سؤال، وهما باقيان ما بقي الإنسان».

مكر شيطان ووعى نبي

حفل العدد بمجموعة من النصوص الشعرية، بينها قصيدة الشاعر الإماراتي محمد عبد الله البريك «مكر شيطان ووعي نبي»، جاء فيها:

في داخلي مكرُ شيطانٍ ووعيُ نبي

وفي العيونِ أرى مولايَ ثُمَّ أبي وأدخلُ الحقلَ، لا أسطو على شَجَرٍ إلا لأقطفَ من أغصانِهِ أدبي

مسافِرٌ بي جنوني حيثُ توصِلُني هذى النجومُ التي تلهو، إلى شَغَبي إلى القُرى، حيثُ أمّي وهىَ تَلْمَحُني أشاكِسُ الشَّوْقَ قَبْلَ البابِ بالصَّخَبِ

إلى دواليبِ ألعابي، إلى شجرٍ أيقظتُ فيهِ جنونَ الرقصِ من تعبي إلى فتاةٍ تربّي الوردَ في يَدِها وتملأُ الكأسَ للأيامِ من عِنَبي إلى حَمامٍ بصدرِ الناس ينسبُني إلى الهديلِ، وأدرى أنَّهُ نَسَبي

وقفتُ عندَ تخومِ الماءِ منتشِياً حتى أُفَرِّغَ بحرَ الشعرِ بالقِرَبِ

أقامَني من منامي زائرٌ قَلِقٌ وكانَ يكشفُ سِرَّ الروحِ بالحُجُبِ وراودَ النخلَ حبّى للصعودِ فما طاوعتُهُ قبلَ أن يلهو على سُحُبي وقلتُ للأرضِ هذا الكونُ محتفلٌ بما لدىَّ من الألحانِ، فاقتربي وقرّبى لي الحزانى كي أهُزَّ لهم جذعَ الشعورِ فيدنو نحوهُم رُطَبي وكى أقدّمَ فنجاناً بدهشتِهِ من الأحاسيسِ مغليّاً على حطبي

الليلُ ناطورُ أحزاني أُلاعبُهُ نَرْدَ الحظوظِ وأُهدى صبرَهُ كُتُبي

وإنْ غَفَت أحرفي أيقظتُ سيِّدَةً جاءت إلى مخدعي سهواً بقلبِ صَبي تُحَوِّلُ الصمتَ موسيقا بِخَطْوَتِها ولا تُغَنّى سوى للعاشقِ الطّرِبِ

تقولُ لي: أنتَ شيطانٌ، فقلتُ لها: أنا غَوِىٌّ ولكنّي بقلبِ نبي!