حليم بركات... الصراع بين الانتماء الوجداني ووطن الهجرة

رحل في مغتربه الأميركي عن عمر ناهز التسعين عاماً

حليم بركات
حليم بركات
TT
20

حليم بركات... الصراع بين الانتماء الوجداني ووطن الهجرة

حليم بركات
حليم بركات

حليم بركات (1933 - 2023) عالم الاجتماع والروائي السوري-الأميركي الذي غادر الحياة قبل أيام عن عمر يناهز التسعين... كيف نوفِّق بين هويتيه، السورية العربية والأميركية؟ وُلد في سوريا ونشأ وتعلّم في بيروت حتى غادر للحصول على الدكتوراه من جامعة ميتشيغان، آن آربر، ورجع للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت لفترة قصيرة قبل أن يعود للحياة والعمل في عدد من الجامعات الأميركية في أوائل السبعينات حيث استقر للخمسين سنة التالية حتى رحيله. أسئلة الهوية والانتماء والغربة كانت تؤرقه في بحوثه الاجتماعية الكثيرة كما في حفنة الروايات والقصص التي خلّفها وراءه، وهو في هذا لا يختلف عن غيره من المثقفين العرب المغتربين، مثل إدوارد سعيد وهشام شرابي من معاصريه الأكاديميين، أو أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وفيليب حِتّي إنْ شئنا الرجوع إلى الرعيل الأول من مغتربي العرب في أميركا.

لعل أسئلة الهوية والصراع بين الانتماء الوجداني الأصلي وبين وطن الهجرة... لعلها لا تحتدم مثلما تفعل زمنَ الأزمات الكبرى التي يجد فيها المغترب نفسه وسط بيئة سياسية وثقافية معادية لوطن المنشأ والوجدان. هذا هو الموقف الذي وجد بركات وغيره من مثقفي المهجر الأميركي أنفسهم فيه لدى اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في يونيو 1967 والذي اختار أن يتناوله بالتأمل في أشهر رواياته «عودة الطائر إلى البحر» المنشورة في 1969 بعد سنتين فقط من الحرب، والتي تُرجمت لاحقاً إلى الإنجليزية بعنوان «Days of Dust» أو «أيام الغبار».

الشخصية الرئيسية في الرواية هي لأكاديمي فلسطيني اسمه رمزي صفدي يعيش ويعمل في بيروت، الذي اصطلح النقاد، ولم يختلف معهم بركات، على أنه شخصية رامزة إلى المؤلف. تصور الرواية أجواء الحرب من بداياتها المتفائلة بالنصر الأكبر إلى الهزيمة السريعة وما تلاها من هوان ويأس. تدور الأحداث ما بين بيروت ومدن الضفة الغربية في الأردن. ولا خلاف أن الرواية تسجيلية في جانب كبير منها، حيث إن الحكايات التي تصوِّر الأثر المدمِّر للحرب على حياة آلاف الفلسطينيين من موت وعاهات ودمار بيوت ونزوح قسري تعتمد جميعاً على بحوث ميدانية ومقابلات استبيانية يُجريها رمزي صفدي في الرواية، وهو عين ما فعله نظيره خارج الرواية، حليم بركات نفسه، الذي أجرى البحث الميداني في عمّان عقب الحرب بالاشتراك مع الأكاديمي الأميركي Peter Dodd وصدرت الدراسة بالإنجليزية عام 1968 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «نهر بلا جسور: دراسة لنزوح اللاجئين العرب في 1967». ولا يُخفي بركات أن الرواية جاءت كتكملة للبحث الميداني، فقد صرّح بعد ذلك بسنوات طويلة في حوار مع مجلة «الآداب» البيروتية (المجلد 48، العدد 5 – 6، 2000) بأنه أحس بأن الدراسة الأكاديمية لم يمكنها تغطية الجانب الإنساني، ومن هنا اضطلاعه بكتابة الرواية لتلافي ذلك النقص.

إن كانت الرواية واقعية تسجيلية في طرف منها فإنها توغل في الرمزية في الطرف الآخر، حيث تؤطّرها بنية أسطورية تحفل بالإشارات إلى «الكتاب المقدس» وشعراء من قبيل ت. س. إليوت وأودن، وأسطورة «الهولندي الطائر» كما صوّرها ريتشارد فاغنر في أوبراه الشهيرة، وأوراتوريو المسيح للموسيقار هاندل، مروراً بالكوميديا الإلهية لدانتي، والإلياذة لهومر، وملحمة غلغامش، والحكايات الشعبية الفلسطينية وغير ذلك. ولا شك أن بعض الإحالات الرمزية تُثري المضمون وتقوم مقام الخيط المتصل الذي يربط بين الحكايات المتشذرة القائمة على البحث الميداني. إلا أنه يمكن القول إن الرواية ينوء كاهلها تحت ثقل الإشارات الرمزية الكثيفة النابعة من قراءات الكاتب الواسعة والتي أطلق لها العنان بغير كابح.

نعود إلى سؤال الهوية والموقف من بلد المهجر، وهو سؤال أساسي يكمن وراء رواية بركات. هذا السؤال يعالجه الكاتب من طريق قصة حب محورية بين الفلسطيني رمزي صفدي وبين امرأة أميركية تُدعى باميلا أندرسون، تنتمي للثقافة الهيبية Hippie السائدة وقت كتابة الرواية والداعية إلى الحب والإخاء والسلام بين البشر. باميلا رسامة فقيرة وإن كانت مثقفة ومغرمة بالمنطقة العربية وأهلها. قصة الحب بين الأكاديمي الفلسطيني بطل الرواية وبين الأميركية باميلا هي مفارقة عمدية في صلب الرواية، فهي علاقة حب بين عربي وأميركية على خلفية صراع دموي بين العرب وإسرائيل تتبنى فيه الدولة الأميركية الطرف الإسرائيلي بلا قيد ولا شرط وفي غير احتفال بقيم الحق والعدل. على أن باميلا على طرف نقيض من حكومتها؛ فهي متفهمة للقضية العربية ومتعاطفة معها. ولعل هذا هو السبب أن حليم بركات اختار أن يصوّرها فقيرة ومنتمية إلى فلسفة الهيبيز الرافضة لقيم المجتمع الرأسمالي وللأخلاق السائدة، إذ نسمعها تقول لرمزي إن الحكومة الأميركية قد أضحت أداة في يد المؤسستين الصناعية والعسكرية، وأنها تقف ضد الشعب الأميركي تماماً مثلما هي ضد الفيتناميين والعرب.

كأن حليم بركات يسعى هنا إلى حل مشكلة انفصام الهوية والصراع الوجداني لديه بين الانتماء الأصلي وبين الوطن المهجري المعادي للوطن الأم – كأنه يسعى إلى حل يتمثل في التفرقة بين أميركا كدولة وأميركا كأفراد. الفهم والحب ممكنان على المستوى الفردي، كما يحدث بين رمزي وباميلا، اللذين لا تَحول بينهما السياسة المتعجرفة الظالمة للدولة. يحلّ بركات الصراع على مستوى آخر أيضاً هو روايته ذاتها. فهي كنص أدبي تتناصّ وتتآخى مع عشرات النصوص الغربية من مختلف مراحل التاريخ، كما رأينا في استغلال الكاتب الموروث الغربي الأسطوري والأدبي في خلفية الرواية.

على أن هذه الرؤية التصالحية التي طرحها بركات في «عودة الطائر إلى البحر» في 1969 تبدو كأنها تذهب بدداً في روايته القصيرة «طائر الحَوْم» التي أعقبتها بما يقرب من 20 عاماً في 1988، هي إن أنصفنا عمل أقرب إلى السيرة الذاتية وإن ارتدى ثوباً قصصياً شفافاً. بطل الرواية وراويها هو أستاذ جامعي أميركي عربي الأصل، ولا أظننا نطلب مؤشراً على التماهي بين الشخصية والكاتب أكثر من ذلك. كان بركات آنئذٍ في أواخر العقد السادس من عمره، وقد استقر في أميركا نحو خمس عشرة سنة متصلة. الرواية عبارة عن فعل استرجاع وتأمل للماضي يسرده ذلك الأستاذ الجامعي المولود في الكفرون في سوريا تماماً مثل حليم بركات. الحدث يدور في حقبة الثمانينات، الحقبة اليمينية المتشددة للرئيس رونالد ريغان (1981 - 1989). ولا نبالغ إن قلنا إن الكتاب هو إدانة سافرة للثقافة الأميركية، على نحو لن يستغربه مَن تابع كتابات حليم بركات غير الأدبية، وبخاصة في الوسائط الإعلامية، في تلك الفترة. فلنتأمل في تداعي أفكار الراوي أمام أنباء الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 والذي حظي بتأييد حكومة ريغان:

«لماذا أنا في واشنطن وجبال شنندوه؟ لماذا لم أكن فيكِ يا بيروت وقتَ حصارك؟ لماذا لم أقاوم الدبابات الإسرائيلية وهي تسحق الأزهار البرية في الجنوب؟ المقاومة ملح الأرض».

«أنتِ أيتها الحضارة المُقَنَّعَة أرفضكِ. هزيلة هزيلة. أُعلنكِ هزيلةً وحقيرةً. تُسمِّين الأبطال المحررين إرهابيين. أُعلنكِ إرهابيةً. تصنِّفين العالم إلى متحضرين وبرابرة. أعلنكِ بربريةً مع أنني أمُجُّ هذه اللغة، فربما تفهمين لغتك. أُعلنك هزيلةً وحقيرةً. أناقتكِ قناع. أزياؤك الجميلة أقنعة. أنت لا تعرفين ولكنني أنا أعرف أن هناك علاقة بين انشغال شعبك بتخفيف وزنه بسبب التخمة وجوع أفريقيا. ديمقراطيتك افتراس مهذب أنيق. مصابة بالعفن».

سؤال الهوية يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي وهناك شعور بالذنب؛ شعور بالقهر، شعور بالوجود في المكان الخطأ

في هذا المقتطف بقسميه الإجابة عن سؤال الهوية الذي واجهه حليم بركات والذي يواجه كل مثقف عربي في المهجر الغربي. هناك شعور بالذنب. شعور بالقهر. شعور بالوجود في المكان الخطأ. المكان الآمن المتنعم بينما وطن المنشأ والوجدان في خطر ومعاناة. شعور أشبه بالوجود بين صفوف العدو. شعور بالتخلي وهجران القضية. ثم هناك رغبة في التنفيس عن هذا الشعور بنوع من الصراحة الشرسة في إدانة الحضارة الغربية والكشف عن زيفها ونفاقها في غير مواربة.


مقالات ذات صلة

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

ثقافة وفنون أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد.

هاشم صالح
ثقافة وفنون قصائد لـ20 شاعراً حصلوا على أرفع الجوائز الأدبية

قصائد لـ20 شاعراً حصلوا على أرفع الجوائز الأدبية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «ولاؤهم للروح» ترجمة د. سارة حامد حواس، الذي يضم مختارات لعشرين شاعراً أميركياً تركوا بصمة مؤثرة وحازوا جوائز رفيعة

رشا أحمد ( القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «الفيصل» السعودية: تحقيق التراث العربي وإشكالاته

مجلة «الفيصل» السعودية: تحقيق التراث العربي وإشكالاته

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة. وقد خُصص الملف لتحقيق التراث العربي، وشارك فيه عدد من الباحثين والمحققين العرب والأجانب وهم: طاهرة قطب ا

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دأبت الدراسات الفكرية عامة، والنقدية خاصة، على أن تخاطب قارئاً متخصصاً، مستخدمة لغة ممعنة في التجريد والانغلاق، ومتكئة على جهاز اصطلاحي

عمر شهريار
ثقافة وفنون  Supporters of Armenian opposition leader Nikol Pashinyan dance at the central square of Yerevan on May 2, 2018. - Tens of thousands of Armenians on May 2 converged on the capital, blocking roads and government buildings, as popular anger exploded over the ruling party's rejection of opposition leader Nikol Pashinyan's premiership bid. In an unprecedented show of defiance, protesters paralysed Yerevan, with nearly all streets closed to traffic and many stores shut. (Getty Images)

الشّامان

كلٌّ منّا يكتب عن المواضيع التي تفرض نفسها عليه. في يريفان، عاصمة أرمينيا، كانت التّحضيرات تجري قبل أسبوع من موعد ليلة رأس السّنة.

حيدر المحسن

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق
TT
20

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

أركون و«الحفر الأركيولوجي» في الأعماق

يقول لنا الفلاسفة المعاصرون ما معناه: الفلسفة تعني أن تعيش مع العقل وبالعقل الذي هو وحده الكوني. فالعقل في الغرب أو في الشرق واحد. علم الفيزياء واحد في طوكيو أو الرياض أو القاهرة أو أبوظبي أو نيويورك، إلخ. لا يوجد عقل خاص بالجامعات العربية وآخر خاص بالجامعات الغربية. أما العقائد التراثية فهي خصوصية. فالمولود في التراث الصيني الكونفشيوسي مثلاً غير المولود في التراث المسيحي أو اليهودي أو الإسلامي. ولكن المناهج الفلسفية العقلانية السائدة في الصين هي ذاتها السائدة في كل مكان. العقل واحد للبشرية والتراثات الخصوصية شتى.

هل أصاب هيدغر عندما قال إن الفلسفة هي حصراً إغريقية وأوروبية غربية فقط؟ بالطبع لا. وإلا فماذا سنفعل بفلاسفة العرب كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل، إلخ؟ ماذا سنفعل بفلاسفة الصين والهند؟ ولكن يبقى صحيحاً القول إن الفلسفة في العصور الحديثة بلغت أوجها في الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى. فلا يوجد عند العرب ولا عند الصينيين ولا عند سواهم فلاسفة في حجم ديكارت وكانط وهيغل ونيتشه، إلخ. ولهذا السبب فإن اليابان التي هي أكبر بلد مترجم في العالم تكلِّف الأساتذة الأكاديميين عندها بترجمة كبار فلاسفة الغرب إلى اللغة اليابانية. فهناك أكاديميون مختصون بترجمة هيغل، وآخرون بترجمة كانط، إلخ. كل أكاديمي ياباني مختص بترجمة أحد فلاسفة الغرب الكبار. وعلى هذا النحو اغتنت اليابان بالفكر الحديث منذ زمن إمبراطورية الميجي: أي إمبراطورية العهد المستنير. عُدْنا إلى التنوير. لا مفرَّ منه. التنوير نجح في اليابان على عكس العالم العربي لأنهم عثروا على تلك الصيغة السحرية التي تجمع بشكل موفق بين التراث والحداثة. أو قُلْ لأنهم عثروا على الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة، التي لا نزال نبحث عنها منذ أيام محمد علي حتى الآن. من هنا سر عذابنا وتخبطنا.

قلنا إن الفلسفة تعني أن نعيش بالعقل، بواسطة العقل. ولكنَّ الفلسفة تعني أيضاً طرح التساؤلات الراديكالية حول جوهر التراث ومعنى الوجود. الفلسفة تساعد على تحرير الروح من ظلماتها وتراكماتها. ليسمح لي القارئ هنا بأن أروي بعض الذكريات الشخصية لتوضيح هذه النقطة. عندما تعرفت على محمد أركون وحضرت دروسه في جامعة السوربون لأول مرة ذُهلت بالفكر الجديد الذي يقدِّمه عن تراثنا الإسلامي العظيم، وفكرت فوراً في كتابة مقالة حول الموضوع وذلك قبل أن أشرع في ترجمته. وهي أول مقالة أكتبها في حياتي. وكانت بعنوان: «جولة في فكر محمد أركون. نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». عنوان أصلي وعنوان ثانوي. ثم أرسلتها إلى مجلة «المعرفة» السورية التي كانت إحدى المجلات الشهرية المحترمة في ذلك الزمان. وفوجئت بأنها نُشرت بشكل جيد على الرغم من أنني كنت آنذاك كاتباً مغموراً تماماً. كنت مجرد نكرة من النكرات. بل ليس فقط نشروها دون سابق معرفة شخصية وإنما أرسلوا لي نحو 300 فرنك فرنسي. وهذا ما زاد من سعادتي وانشراحي بطبيعة الحال. بل جعلني أشعر بأني أصبحت شخصاً مهماً ومعتبراً. لكن الشيء الأساسي ليس هنا. الشيء الأساسي يكمن فيما يلي: لقد ذهبت بعدد المجلة إلى أستاذي البروفسور محمد أركون، وانتظرت مقابلته على الباب حتى جاء دوري. وعندئذ دخلت عليه في مكتبه بالسوربون وفي يدي مجلة «المعرفة» وأنا شديد الفخر والاعتزاز بنفسي. وعندما قرأ العنوان دُهش جداً لأني قلت: «نحو أركيولوجيا جذرية للفكر الإسلامي». لم يكن يتوقع إطلاقاً أنني قادر على إيجاد عنوان باريسيّ طليعيّ من هذا النوع. بل ربما راح يتساءل: هل يدرك هذا الشخص فعلاً ما يقول؟ هل يعرف معنى كلمة أركيولوجيا الفلسفية لا تلك الخاصة بعلم الآثار. أتذكر تماماً ردّة فعله الآن: نظر إليّ من فوق نظارته وتأملني جيداً وابتسم. أعتقد أنني نلت إعجابه وقتها. أقول ذلك خصوصاً أنني كنت حديث العهد في باريس ولم يمضِ بعد وقت طويل على وصولي إلى العاصمة الفرنسية. حتماً راح يتساءل بينه وبين نفسه: كيف فهم هذا العفريت مقصدي ومنهجيتي؟ هل فعلاً يعي ما يقول؟ كنت أشعر آنذاك بجوع عارم إلى الفكر. كنت أبحث عنه في كل الزوايا الباريسية. كنت أريد أن أفهم كنه الأشياء. وكنت أعرف أن الزلازل والبراكين قادمة لا محالة. ولذلك شطبت على حياتي الشخصية كلياً وتفرغت لما هو أهم وأخطر.

فيما بعد اكتشفت بالفعل أن جوهر منهجيته يكمن في الحفر الأركيولوجي عن أعماق تراثنا الإسلامي الكبير بغية الكشف عن جذوره الأولى وإضاءته بشكل غير مسبوق. إنه حفر في العمق أو في عمق العمق. لم يتجرأ أي مفكر مسلم قبله على طرح التساؤلات الراديكالية التي طرحها على التراث. لم يذهب أي مفكر مسلم إلى الأعماق السحيقة التي ذهب إليها هو. ولا حتى ابن رشد ولا حتى الفارابي في الماضي. ولا حتى طه حسين في الحاضر. من هنا الطابع التحريري الهائل لفكر محمد أركون. لقد قدم أكبر خدمة للإسلام والمسلمين والعرب أجمعين. لهذا السبب نقول إن الفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الموضوع التراثي، أيَّ موضوع كان. إنها لا تتوقف في منتصف الطريق و«تقطع الحبلة فينا» كما يُقال، وإنما تذهب إلى آخر مدى. الفلسفة بهذا المعنى هي فكر الفكر أو عقل العقل. هكذا كان يفهمها ديكارت وكانط وهيغل وكذلك نيتشه، وبالأخص نيتشه. وهكذا كان يفهمها ميشيل فوكو أيضاً الذي وضع عنواناً ثانوياً لكتابه الشهير: «الكلمات والأشياء - أركيولوجيا العلوم الإنسانية».

ولكن الفلسفة تعني أيضاً: تعرية الأوهام الشائعة، والأحكام المسبقة الموروثة، والآيديولوجيات والشعارات الديماغوجية. الفلسفة هي العدو اللدود للأدلجة والآيديولوجيا. وكذلك هي العدو اللدود للفتاوى التكفيرية الموروثة عن القرون الوسطى. كل الأحكام السلبية المسبقة والكليشيهات المشوهة التي تشكلها الطوائف بعضها عن بعض تجري تعريتها وتفكيكها عن طريق الفلسفة. بهذا المعنى نحن أحوج ما نكون إلى الفلسفة والفكر العميق في عالمنا العربي. وبهذا المعنى فإن الفلسفة هي معركة سلاحها العقل الفعال والحفر الأركيولوجي في الأعماق. مَن أعداء الفلسفة؟ الغباء والجهل والتعصب الأعمى والظلامية التراثية. مَن حلفاؤها؟ العلوم الإنسانية، وبخاصة علم التاريخ الحديث الذي يكشف عن أعماق الماضي التراثي ويحفر عنها أو عليها. ولهذا السبب كانت مدرسة الحوليات الفرنسية من أهم مرجعيات محمد أركون. بل اعترف يوماً بأنه استيقظ لأول مرة على الفكر العميق بعد أن حضر بالصدفة في جامعة الجزائر ذلك الدرس المنهجي الشهير لمؤسس مدرسة الحوليات: لوسيان فيفر. وقد صعقه الدرس إلى حد أنه خرج منه مذهولاً. بعدئذ ابتدأ أركون يصبح المفكر الكبير الذي نعرفه. تذكرت كلام أركون هذا عندما اطّلعت لاحقاً على كتاب لوسيان فيفر عن مدشن الإصلاح الديني في أوروبا بعنوان: «مارتن لوثر: قدر»! انه كتاب يدوّخك بالمعنى الحرفي للكلمة. هل هو مؤرخ فقط أم فنان أم فيلسوف يتلاعب بعقلك كما يشاء ويشتهي؟ تكاد تلتهم الصفحات التهاماً. كتاب عبقري ولا أروع. قرأته مرتين أو ثلاثاً. وحتماً سأعود إليه مرة أخرى فقط من أجل المتعة والاستمتاع. إنه يوضح لك كيف تولد الشخصيات الاستثنائية في التاريخ. ولماذا تولد؟ ومتى تولد؟ إنه يشرح لك كيف يظهر الرجال العظام الذين يغيِّرون مجرى التاريخ البشري. عندئذ فهمت لماذا أثَّر هذا المؤرخ الفرنسي الكبير كل هذا التأثير على محمد أركون.

نضيف أن الفلسفة تعني أن نفكر بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل. إنها تعلِّمنا كيف نعيش حياة أكثر إنسانية وأكثر مرونة وأكثر رصانة وأكثر عقلانية وأكثر حرية. وهي بذلك مكمِّلة للدين بالمعنى الروحاني العالي المتعالي. إنها ليست ضد الدين وإنما فقط ضد الظلامية الدينية. مثلاً بول ريكور (صديق أركون) كان في ذات الوقت فيلسوفاً كبيراً ومؤمناً بالله والقيم الروحية والأخلاقية العليا للدين. نضيف أن الفلسفة بهذا المعنى تحرِّرنا من رواسبنا الطائفية والمذهبية التي ورثناها عن طفولاتنا وعائلاتنا وبيئاتنا الأولى. وهي أشياء كنا نعتقد أنها حقائق مطلقة لأننا رضعناها مع حليب الطفولة، في حين أنها نسبية وخصوصية. والدليل على ذلك هو أننا لو وُلدنا في طفولات أخرى وبيئات أخرى لاعتقدنا العكس تماماً. يقول أحد العلماء الكنديين المعاصرين: «أنا وُلدت في عائلة مسيحية كاثوليكية ولكني لو ولدت في عائلة صينية كونفشيوسية هل كنت سأعتقد ذات الشيء؟».

أخيراً فإن الفلسفة ما هي إلا اختراقات في جحيم الانسدادات. عندما تطْبق الغمة والظُّلمة على أمة من الأمم يظهر الفلاسفة الكبار. انهم لا يظهرون في الأزمان السعيدة المريحة المرتاحة وإنما في الأوقات العصيبة المدلهمّة مسدودة الآفاق. وعندئذٍ يقدمون لنا المفاتيح الفلسفية التي تحل مشكلة العصر وتفك عقدة التاريخ. على هذا النحو ظهر ديكارت عند الفرنسيين أو كانط عند الألمان، إلخ. الفلاسفة بهذا المعنى ظهورات بالمعنى الحرفي للكلمة. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير. هيهات! أحياناً يمر قرن أو قرنان قبل أن يظهر مفكر واحد له معنى!