الشّامان

تجربة السفر تشبه الحلم

الشّامان
TT

الشّامان

الشّامان

كلٌّ منّا يكتب عن المواضيع التي تفرض نفسها عليه. في يريفان، عاصمة أرمينيا، كانت التّحضيرات تجري قبل أسبوع من موعد ليلة رأس السّنة. عند منتصف السّاحة العامّة انتصبت شجرة ميلاد هائلة، والشوارع المؤديّة راحت ترفرف في سمائها الشّرائط الصفراء والحمراء والزّرقاء، وهناك خيامٌ مبهرجة، وبابا نويل يلاقيك بثيابه الثّلجية والحمراء في كلّ درب.

ثمّ حلّ اليوم الأخير من السنة، وحسمتُ أمري على أن أقضيه، بنوع من العَنَد والإصرار على الابتعاد عن كلّ ما يمتّ إلى الواقع بِصلة، في القراءة والكتابة. يقول مارسيل بروست: «الحياة الواقعية، هي آخر ما يُكتشف ويُنوَّر، والحياة الوحيدة التي تعاش بكاملها، هي الأدب».

كانت السماء في نافذة الفندق رصاصيّة، ضوء شاحب في الشّارع كشف لي عن حقيقةٍ مفادها أن تجربة السفر تشبه الحلم، وعندما تنتقل من شارع إلى آخر كأنك تذهب في منام جديد، وعالم جديد. لهذا السّبب قال كالفينو: «لا أحسب أني مسافر إن لم أكن وحيداً، فلا يوجد منام يشترك فيه اثنان».

بعد الفطور قصدتُ المقهى الذي أجلس فيه كلّ يوم. مقهى يقع وسط غابة قريبة من المدينة، وعلى شجرة عمرها مئة عام، رأيت زهرةً حياتها يوم واحد. كيف كانت حياة الإنسان والحيوان وبقية الكائنات في ذلك العهد؟ إن وظيفة الأدب ليست توثيقية، أي تدوين ما يجري من أحداث، وإنما هي تسجيليّة. إنها دليل حاسم على الحيوات التي عيشت في عصر معيّن، وهذه ميزة الأدب الحيّ عن الكلام الذي يُكتب لكي يُنسى. تُدفِّئنا الحياة بطراوتها وحُسنها، وبخشونتها ودمامتها وقُبحها، وكل هذا سوف يكون جميلاً عندما يُنقَل على الورق، لأن فيه سحر الفن.

دوّنتُ هذه الملاحظات بينما كنت في المقهى، وأتممتُ قراءة ثلاثين صفحة من كتاب «السياسة» لأرسطو، وفي تمام الثانية عشرة غادرتُ المقهى، وأنا أفكّر في ملاحظات المعلّم الأول حول أهمّ مقوّمات بناء الدولة، وهي في رأيه المواطنون، إن كان عددهم قليلاً لن يستطيع بلدهم تحقيق الاكتفاء الذاتي، وسوف يستورد بشراً من الخارج، فيحصل عند تفاعلهم مع أهل البلد خليط غير منسجم يؤدي بالتالي إلى تشويه مفهوم الأمة.

عندما جنحت شمس يريفان إلى الغروب أخذت الموسيقى تصدح في الساحة الكبرى في المدينة، وصارت قنانيّ النبيذ تُراق على أرض الشارع والحديقة والساحة. لكنك عدتَ مسرعاً إلى غرفتك في الفندق، وعادت إليك الطمأنينة والراحة، بعد أن استمعت لإحدى معزوفات جواد معروفي على البيانو. ساعة، وقمتَ بتوديع لون الغروب الليموني البارد الشفّاف من آخر يوم في 2024، مع جارك في الغرفة المجاورة، وكان جالساً في شرفته هو الآخر؛ كهلٌ إيطاليّ اختار أن يأتي بنبيذه وطعام العشاء على مائدة صغيرة، وكان يقرأ كتاباً ويدخّن، ويُصغي إلى الموسيقى تصدح من هاتفي النقّال، ويواكب الألحان بأصابعه على المائدة. التقت نظراتي مع نظراته في لحظة، وقال لي باللغة الإنجليزيّة وعلى شفتيه ابتسامة مطفأة: «سنة سعيدة يا صديقي»، وأجبته بالكلام نفسه، وبقي وجهانا يبحثان لبرهة عن كلمات لا وجود لها في لغتي أو لغته، مغزاها أن أيّام العمر سوف تمتدّ بنا، ونكتشف فيها كثيراً من الوجود الفارغ في الأشياء والأشخاص والكتب. في اليوم التالي كلّ شيء سيعود إلى طبيعته السابقة، كل شيء سيكون طبيعياً تماماً؛ الساحة والشارع والناس. وحدها المعرفة التي تأتينا عن طريق قراءة الكتب المدمّرة العظيمة، تَعِدنا بنوع من القوة والحريّة، يحتاج إليها المرء في سبيل اكتشاف العالم. رأيتُ هذا مطبوعاً في وجه جاري الإيطالي، وكنتُ كمن ينظر إلى صورته معكوسة في المرآة.

أليس من الغريب أن الجميع يرقصون ويغنون في الشوارع القريبة، وأنا منكبٌّ في مجلسي عند الشرفة على قراءة كتاب «السياسة»؟ مما لا مرية فيه أن ما فعلته لا يدلّ على مزاج منحرف أو طبع لا ينسجم مع المألوف، كما أنه لم يكن مجرد ترف بورجوازيّ، مثلما كان يقول أهل السياسة سابقاً، لكنه «إرضاء للحسّ العميق بالواجب»، (التعبير لفان غوخ)، من أجل الحفاظ على الهويّة. إنه تجسيد حيّ لفكرة الالتزام الذي يفرضه الفنان على نفسه، ويؤديه بأحسن صورة عندما يكون واثقاً من أنه يؤدي دوراً ليس غرضه المتعة الجمالية فحسب، بل هو أقرب إلى ما يقوم به الشامان؛ الوريث الفعلي للوليّ الصالح بمفهوم الدين. حين تقدّم فيكتور هوغو في السن أصبح شاماناً، وكان يشعر بأن الرسالة التي أدَّاها بواسطة الأدب لم تكن موجهة إلى فرنسا فحسب، وإنما إلى البشر جميعاً. هذا هو سرّ القيمة شبه الدينيّة التي نسبغها على الأدب، وفي مرحلة معينة من حياة الكاتب، يصبح هذا النوع من التفكير هاجساً بالنسبة إليه، لا يمكنه التفريط فيه، لأنه المحكّ الذي سوف تنجلي طبيعته في نقطة منه، مع مرور السنين.

في الفجر الأول من السنة الجديدة، كنتُ أسيرُ فوق النبيذ الذي تجمّد في الشوارع وصار هو الأرض. لا أعرف كيف أحسستُ فجأة بما يمكن أن أدعوه دواراً معنويّاً سببه السعادة، بلغتني كما لو كنتُ أمضيتُ السهرة مع المحتفلين بعيد رأس السنة، ودخّنتُ سجائرهم وشربتُ أنهار خمرهم جميعاً. تحضر هنا عبارة لجورج باتاي: «رفض التواصل هو وسيلة للتواصل أكثر عدائيّة، ولكنها الأكثر قدرة». هناك مسافة متدرّجة تفصل بين الشاعر والعالم الخارجي، مسافة حقيقية وليست من لِدات تصوّراته، عندما يشغلها ما هو غريب يحدث فرق جهد يشبه ذلك الذي درسناه في الفيزياء، يؤدي إلى شحنة من الوعي الإضافي تُعيد الأمور إلى نصابها.

كان المحتفلون يغادرون الحانات في تلك الساعة، شباب وشابات يغنون ويرقصون، يُكملون قصفهم الذي بدأوه في الليل، وينظرون إلى العالم بعيون غلّفها السُّكْر. ثم أشرقت الشمس في مشهد غريب أعاد إليّ الماضي بقوة حتى إنني شعرت كأن سماء يريفان هي سماء مدينتي، والمحتفلون هم إخوتي وبناتي وأحفادي. كلّ بلد أحطّ فيه الرحال، بقوّة الإدراك لإنسانيتنا المشتركة، أشعر فيه بأنه وطني، بإمكانه أن يمدّ جذوره في أعماقي بثبات، وهذا هو التفسير الحقيقي لعبارة فان غوخ: «الحسّ العميق بالواجب» يقوم به الشامان تجاه الآخرين في كلّ مكان، ما دام كان يقدّم عمله للجميع، وليس لنفسه أو لشخص واحد أو بلد أو أمة. بهذه الصورة يفتحُ لنا الأدب (والفنّ عموماً) نافذةً على حياة ذات معنى أعمق، كي نراها طريقاً واسعاً يسع الوجود كلَّه، ويمكّننا من التعاطف والعيش مع جميع الشعوب رغم الاختلافات بيننا وبينهم.

تناولت فطوري سريعاً في مطعم طائر على الرصيف، وأمضيتُ الصباح في زيارة كنائس المدينة، ودراسة قسمات الناس الذين جاؤوا من بقاع الأرض للاحتفال بالسنة الجديدة، وكنت أفكّر إن كانت نظرية أرسطو تصحّ في الزمن الحاضر.

الأمة؟ ألا يبدو هذا المفهوم غريباً الآن؟

عندما تتغيّر قوانين الرياضيات والفيزياء، يكون علم الاجتماع مختلفاً بالضرورة، وعند ذلك تكون المعايير والاعتقادات والأحكام القديمة الراسخة، والمكرّسة عبر قرون، غافلة ومنسية بحكم الضرورة، بل إننا نحتاج إلى مجهر بقوة مئة حصانٍ لتمييز حروفها، وكلّ شيء يمضي به الزمن والساعة، كما يقول شكسبير. حتى الوطن، تلك المفردة التي كانت مشحونة بالقوّة ذات يوم، غدت لفظاً خادعاً وهشّاً في بلدان تسود فيها ظروف القهر والفساد والظلم، وأبناؤها على استعداد لركوب البحر الهائج، على خطر الموت في سبيل الخلاص. كأننا نعيش وسط حالة جديدة من ارتقاء الأنواع وصراعها. عاجلاً أم آجلاً، سوف تنتقي الطبيعة النوع الأفضل والأرقى.

لقد أدّى التطور العلمي والنظرة العلمانية للوجود إلى نشوء مشروع انعتاق بشري كوني سوف تنقسم الأمم بموجبه إلى متحضرة ومتخلفة وبدائية، تعم السعادة والطمأنينة الشعوب التي يكون نصيبها الخانتان الأولى والثالثة، والعذاب والقهر وسوء الحال هو حظّ الأمم المتخلفة، تنتشر وتتوزع مثل حطام مهيب في أغلب جهات المعمورة، تناظرها في المقابل يوتوبيات يسعى فيها الإنسان إلى جعل الحياة على الدوام أفضل من أي وقت مضى.

مَن قال هذه الحكمة الخالدة: «الشعوب السعيدة لا تمتلك تاريخاً مجيداً»؟ إنهم سليلو أجداد مغمورين ومهجّنين وعاديين وفقراء أحياناً، من الأعراق والأديان والمذاهب كافة. الناس قد يعيشون في مكان واحد غرباء بعضهم عن بعض، بخليط من الدّم وخليط من الثّقافات لكنهم أكثر وحدة من أبناء البلد الواحد، تجمعهم هواجس القوّة والحريّة (الأخلاقية والسياسية) أكثر من تلك التي يسبّبها الشّعور بالضّعف والعبوديّة؛ الأولى تهبهم الحيويّة والعنفوان، والأخيرة تأتيهم بما يؤدّي إلى عكس ذلك. هذه سمة العصر الذي نعيش فيه، وليست لديّ القدرة على التّنبّؤ بما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، وكيف سيكون شكل الزّهور التي تحملها أشجار الغابة، حيث يقع مقهاي الذي قصدته للبدء بيوم عمل جديد.


مقالات ذات صلة

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

ثقافة وفنون دوايت غارنر

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها

دوايت غارنر
ثقافة وفنون ديوان المتنبي... طبعة جديدة محققة

ديوان المتنبي... طبعة جديدة محققة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من «ديوان أبي الطيب المتنبي»، تحقيق وتعليق الأديب والدبلوماسي المصري د. عبد الوهاب عزام (1894-1956)

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون سحر القارة السمراء بعيون صينية

سحر القارة السمراء بعيون صينية

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدر كتاب «الناس في أفريقيا» الذي تعيد فيه الكاتبة الصينية جيا تشى هونغ اكتشاف سحر القارة السمراء وما تتميز به من طبيعة خلابة…

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون رواية تونسية عن «الهرب المستمر من القدر»

رواية تونسية عن «الهرب المستمر من القدر»

صدر حديثاً عن «دار نوفل / هاشيت أنطوان» رواية «رأس أنجلة» للكاتبة التونسية إيناس العباسي، وفيها تروي حكاية شقيقتين تونسيتين تهاجران لأسباب مختلفة

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون تأملات في العالم الأدبي لعبد الفتاح كيليطو

تأملات في العالم الأدبي لعبد الفتاح كيليطو

يتأمّل الكاتب والناقد المغربيّ صدّوق نور الدين العالَمَ الأدبيّ لعبد الفتاح كيليطو، الكاتب والروائيّ المغربيّ المعروف من خلال كتاب صدوق الجديد «القارئ والتأويل»

«الشرق الأوسط» (عمّان)

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر
TT

10 آلاف ساعة صنعت من هيلين غارنر كاتبة

دوايت غارنر
دوايت غارنر

لطالما حظيت روايات الكاتبة الأسترالية هيلين غارنر بتقدير كبير من الأشخاص الذين أثق بذوقهم. ومع ذلك، عندما كنت أبدأ بقراءة رواياتها كنت أرتد عنها مثل مركبة فضائية أخطأت في العودة إلى الغلاف الجوي للأرض. لا بد أن يكون لكل قارئ كاتب أو اثنان من هذا القبيل، كاتب أو اثنان يشعر بأنه يجب أن يُعجب بهما لكنهما لا يكونان كذلك أبداً. بدت أعمال غارنر، في قراءاتي الموجزة ركيكةً، ركيكة وتفتقر إلى الصقل.

والآن يأتي كتاب «كيف تُنهي قصة»، وهو كتاب بوزن ثقيل للغاية يجمع 3 مجلدات من مذكراتها اليومية من 1978 إلى 1998، بدءاً من منتصف الثلاثينات من عمرها. يقع هذا الكتاب في أكثر من 800 صفحة، وهو يضم كثيراً من مذكرات غارنر اليومية (دون صلة مباشرة). كدتُ أضع هذا الكتاب جانباً أيضاً لأنه يبدأ بداية مرتجلة ومترددة.

نقاد الكتب، مثل العاملين في مجال النشر، يبحثون دائماً عن عذر للتوقف عن القراءة. لكن بعد فترة من الوقت بدأتُ في الانسجام مع صوتها. وبحلول ربع الطريق، كنتُ غارقاً بين يديها تماماً. ويا لخطئي الفادح!

هذا الكتاب موجه إلى الانطوائيين، الحذرين والمتشائمين، غير المتيقنين من مظهرهم أو ذوقهم أو موهبتهم أو مكانتهم الطبقية. تمتلك غارنر صوتاً مثالياً للتعبير عن مخاضات القلق والضيق في وقت متأخر من الليل، بعضها أكثر هزلية من البعض الآخر. أسلوبها في النثر واضح وصادق ومقتصد؛ إما أن تقبله أو ترفضه، على الطريقة الأسترالية.

وهي في سردها من النوع الذي قد يُخطئ الناس في اعتبارها أحد العاملين في مهرجانات الكتاب. يتوجَّه الناس إليها على نحو مفاجئ ويسألونها: «ما الخطب؟» (وهذا أمر أكرهه بصورة خاصة أيضاً). وهي تخشى على آداب المائدة. يقول لها المصورون أشياء مثل: «إن هيئة وجهك ليست هي الأفضل».

إذا سبق لك أن نظرت إلى صورة فوتوغرافية لنفسك وشعرت بالذهول من قبح مظهرك، حسناً، إن غارنر هي صاحبة السبق في هذه التجربة:

* لقد عرضت عليّ بعض الصور التي التقطها لي العام الماضي وصُدمت من قبح مظهري: بشرة مرقطة، ووجه مجعد، وقَصة شعر قبيحة، وتعابير داكنة. أعني أنني صُدمت للغاية. وذعرت من احتمال أن أكون بمفردي الآن لبقية حياتي.

يمتد إحساسها بعدم الجدارة إلى كتاباتها الخاصة. تقول: «أنا مجرد حرفية ذات مستوى متوسط». و«الحزن ليست كلمة قوية للغاية لما يشعر به المرء أمام ضعفه وتواضعه». إنها تحارب مستويات من «متلازمة المحتال» من الدرجة الفائقة للغاية.

احتفظ الكُتّاب بمذكرات لأسباب لا تُعد ولا تُحصى. تمنت آناييس نين أن تتذوق الحياة مرتين. وكانت باتريشيا هايسميث تتوق إلى توضيح «الأمور التي قد تهاجم ذهني وتحتل مُخيلتي». كما أرادت آن فرنك أن تستمر في الحياة بعد موتها. وشعرت شيلا هيتي بأنها إذا لم تنظر إلى حياتها من كثب فإنها تتخلى عن مهمة بالغة الأهمية.

تلك هي غرائز غارنر أيضاً. لكنها تقول أيضاً وبكل افتتان: «لماذا أكتب هذه الأشياء؟ جزئياً من أجل متعة رؤية القلم الذهبي يتدحرج على الورق كما كان يفعل عندما كنت في العاشرة من عمري». كانت هذه الكتابة تخدم غرضاً أكثر جدية. إذ قالت غارنر ذات مرة لمجلة «باريس ريفيو»: «المذكرات اليومية هي الطريقة التي حوَّلتُ بها نفسي إلى كاتبة - تلك هي الـ10 آلاف ساعة خاصتي».

تتألق تفاصيل حياتها اليومية دوماً في هذا الكتاب - النباتات المزروعة في الأصص التي تنمو إلى جانبها، ورحلات التسوق («كيمارت، ومنبع كل الخير»)، وحفلات العشاء، وغسل ملابسها الخاصة في دلو، وإزالة فضلات الكلب، وإصلاح التنورة، والذهاب إلى السينما، والاحتفاظ بنسخة من كتاب «الفردوس المفقود» في الحمام الخارجي. تعيش أحياناً في شقق صغيرة في المدينة، وأحياناً أخرى في منزل ريفي حيث ترى الكوالا، والكنغر، والنسور، والكوكابورا.

هذا هو تقريرها عن إحدى وجبات تناول العشاء في الخارج: «في منزل الهيبيز لتناول العشاء، وجدت في شريحة الكيشي التي أتناولها عنصرين غريبين: عود ثقاب مستعمل وشعر. أخفيتهما تحت ورقة الخس وواصلنا الحديث».

حديثها الأدبي يتسم بالحماسة والبراعة: «تظل العاطفية تتطلع من فوق كتفها لترى كيف تتقبل الأمر. لكن (الانفعال)، على الرغم من ذلك، لا يهتم سواء كان أحد ينظر إليه أم لا».

إنها تقيّم منطقة الانفجار حول بعض الأمور المملة. عن عشاء مع أكاديميين، تكتب قائلة: «أعفوني من افتراض كبار السن الهادئ بأن أي شيء يقولونه مهما كان مملاً أو بطيئاً أو رتيباً يستحق أن يُقرأ وسوف يحظى بجمهور».

لا يحتاج هذا الكتاب إلى جرعة من الدراما، ولكن الجرعة تأتي لا محالة. بعد زيجتين فاشلتين، تدخل غارنر في علاقة مع كاتب صعب المراس ومتزوج، تدعوه باسم «ڨي». (إنه الروائي موراي بايل). وفي نهاية الأمر يتزوجان، وتزاحم احتياجاته احتياجاتها فتغلبها. ثم تشرع في الشعور وكأنها دخيلة في شقتها الخاصة. فهو الذي تحق له الكتابة هناك، بينما يجب عليها الذهاب إلى مكان آخر للعمل. إنه يغار من أي نجاح تحرزه بنفسها. فأيهما هو المضيف وأيهما الطفيلي؟

يبدأ الزوج علاقة غرامية مع امرأة أخرى، وهي رسامة، ويراوغ ويكذب. تتظاهر غارنر، لأشهُر، بأنها لا تلاحظ ذلك. وتتشبث به لفترة أطول مما تتصور. ويصبح الأمر مروعاً. فعلاقتهما صارت الوعاء الذي تتكسر فيه عظامها حتى تستحيل إلى عجينة. وتكتب فتقول: «للمرة الأولى، بدأت أفهم نفسية النساء اللاتي يبقين مع رجال يضربونهن باستمرار».

العمل هو خلاصها وجسرها إلى العالم. خطتي هي أن أعود إلى كتبها الأخرى، وأن أخوض فيها هذه المرة لما هو أبعد من حجم كاحلي.

*خدمة «نيويورك تايمز»