علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل

في الغابة

كل منا بداخله عدد من الحيوانات.. فجأة يخرج منك نمر متهور، أو أسد وقور، أو ذئب مفترس، أو ثعلب مراوغ، أو حمل وديع. طبعًا أنا لا أتحدث عن هؤلاء الذين تخرج منهم العقارب والثعابين والعناكب السامة. ذات يوم في الغابة كنت حملاً وديعًا أتمشى بجوار مجرى مائي جميل.. سمعت صوت ذئب على بعد نحو مائتي متر يصيح: «أنت يا هذا.. لقد عكّرت الماء عليّ». لا شيء جديدًا تحت الشمس، هو يريد أن يأكلني مستخدمًا الحجج الواهية التي قيلت في الحدوتة القديمة، فصحت: «اسمع.. أنت تريد أن تأكلني فلا داعي للأكاذيب..». فرد علي: «أنت تتهمني بما ليس فيّ.. أنا ذئب متحضر يؤمن بالدستور وبالقوانين، وأنا أتهمك أنك عكرت المياه علي..

كابوس

أفلام الرعب تجارة نشطة في هوليوود، وأيضا هي سلعة رائجة في محطاتنا التلفزيونية خصوصا أفلام مصاصي الدماء. وهم صنف من البشر يؤمن عدد كبير من الناس بوجودهم فعلاً، وبأنهم يعيشون آلاف السنين، وينامون نهارًا داخل توابيت، ويستيقظون ليلاً ليمارسوا نشاطهم. الأفلام جيدة الصنع من ناحية التمثيل والإخراج، غير أن عيبها الوحيد هو بلاهة ما تقدمه من أفكار. إلى جانب البلاهة وما تشكله من خطر، هناك عدد كبير من البشر يستقون معلوماتهم من شاشات السينما والتلفزيون، وبذلك يزداد كل يوم عدد من يؤمنون بوجودهم. هذا ما كنت أفكر فيه وأنا أشاهد بعد منتصف الليل أحد هذه الأفلام..

ماذا كنا نقول؟

من الكليشيهات الظريفة في الإعلام المصري، وربما في الإعلام العربي، حكاية الامتناع عن التعليق على أحكام القضاء. يبدأ المذيع أو الضيف تعليقه على حكم قضائي ما بالقول: «طبعا أنا لا أقوم بالتعليق على أحكام القضاء، أنا فقط (تناىللاعهنو، هننققللاارغت).. وهدفي من ذلك هو (حكمهت البواتلا) مع مراعاة (بلقثلاتلب) لكي يكون البشر على بينة من أمرهم». وأنا أيضًا من المستحيل أن أعلق على أحكام القضاء، وإلا تحولنا جميعًا إلى قضاة نبحث عن متهمين. هناك قداسة لأحكام القضاء.. هناك قوانين لا بد من تطبيقها ومعاقبة الخارجين عليها، فمن فضلك لا تحدثني عن مصلحة البلد.

عودة قلم هارب

لعلك لاحظت رنّة الحزن في كلماتي عن الضحك والنكتة والفكاهة، كما لو أني أتكلم عن صديق قديم اختطفه الموت من بيننا. فلم يتبقَ منه سوى ذكريات ضاحكة قديمة أحاول استعادتها فلا ينتج عن محاولاتي إلا المزيد من المرارة والاكتئاب. المنطقة مشتعلة بالموت والقتلة المجانين والغرقى الذين يحاولون الفرار بجلدهم، وأنا منشغل بالحديث معكم عن الفكاهة. أمر غريب، أليس كذلك؟ أعتقد أنه جاء الوقت لكي أعترف بأمر لا بد أن عددًا كبيرًا منكم قد كشفه. لقد حاولت الفرار مؤقتًا من كل ما يحدث حولي، فلجأت كأي هارب إلى عالمي القديم.

النكتة والاستبداد

الاختصار هو أهم ما يميز النكتة. هي جسم قوي مكون من العضلات فقط وليس به جرام شحم زائد. من هذه الناحية هي سلاح من أسلحة البشر الدفاعية. وإذا كانت الحرية تنتج النكتة، فالاستبداد أيضا ينتجها بوفرة. ونكت الاستبداد قادرة على أن تنتقل من بلد لبلد ومن جنسية إلى أخرى، فتكتسب جنسية أهل هذا البلد. ولأن ملامح الاستبداد واحدة في كل زمان ومكان. لذلك كانت مرحلة الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفياتي السابق تمثل العصر الذهبي للنكتة المضادة للاستبداد. كان الاتحاد السوفياتي بالفعل هو أعظم مصدر لهذا النوع من النكت.

النكتة كمصدر للتأريخ

لا يعترف المؤرخ بالنكتة كمصدر، مع صدقها الذي لا شك فيه. هو يبحث فقط عن وثائق صنعها البشر. وعلى الرغم من اهتمامه بحياتهم اليومية كما سجلها القدامى وما تحمله من بصمات، فإنه لا يبحث عن النكتة في زمن ما لصعوبة ذلك، وأيضًا لذلك المرض الأبدي عند المثقفين الذي يصور لهم أن النكتة نشاط عقلي غير جاد. وبما أني لست مؤرخًا ولست مثقفًا بما فيه الكفاية. لذلك فأنا أعتمد النكتة بتركيزها الشديد وشمولها، مصدرًا يفوق في صدقه كل مستندات الجنس البشري. في بداية خمسينات القرن الماضي كنت أعيش في دمياط. لذلك ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بالنكات التي قيلت عن ثورة يوليو 1952 في ذلك الوقت.

مع المساطيل

لم تعرف مصر النكتة السياسية قبل ثورة يوليو 1952. كان الهدف الأساسي للنكتة بنسبة كبيرة إخوتنا الحشاشين المساطيل ثم المنافقين من المشتغلين بعلوم الدين الذين يوظفونه لخدمة مصالحهم الذاتية ثم العيوب الأخلاقية للبشر. الحشاش بالضرورة في حالة فقدان للوعي. بمعنى أدق الوعي يسيح عنده على اللاوعي، خالقًا بذلك مساحة هائلة تصول فيها النكتة وتجول. اثنان من المساطيل بعد أن انتهيا من جلسة الحشيش ركبا السيارة، بعد لحظات قال أحدهما محذرًا: حاسب من العمود. فأجاب زميله: شايفه.. غير أن السيارة استمرت على سرعتها في اتجاه العمود بينما ارتفعت تحذيرات الصديق: حاسب العمود.. حاسب العمود.. حاسب العمود..

الفكاهة لا تسخر من أحد

السخرية عدوان وصناع الفكاهة ليسوا بمعتدين. وتعبير «الكاتب الساخر» خطأ شهير وشائع نتج عن ترجمة غير دقيقة لكلمة «Satirist» الإنجليزية المشتقة من كلمة «Satire» وهي الحكاية الجادة عندما تروى بشكل ضاحك. والمشتغلون بالمهنة يترجمونها «ساتيرا» وأشهر من كتبها في العصر الحديث، آرت بوخوالد في أميركا، ومحمد الماغوط في سوريا، وعزيز نيسين في تركيا، وعدد كبير من الكتّاب المصريين آخرهم محمود السعدني رحم الله الجميع. أنتقل الآن لعدد من التعريفات كلها لمفكرين ألمان. ومن خلالها سنقترب أكثر وأكثر من طبيعة النكتة كنشاط عقلي والهدف منها. «تُعنى الفكاهة بالقبح غير المرئي.

في البحث عن ضحكة

الطبيب الفيلسوف العالم ابن رشد نقل أرسطو إلى اللغة العربية، وبذلك تمكنت أوروبا من التعرف على أفكاره بعد ترجمتها عن العربية. في ذلك الوقت الذي ازدهرت فيه الحضارة العربية في الأندلس، كان المثقف الإنجليزي يلتحق بالجامعة في قرطبة لدراسة اللغة العربية، كما كانوا يلتحقون بحرس الأمراء العرب لدراسة الفروسية. أثناء ترجمته لأرسطو لا بد أن كلمة واحدة حيرته طويلا وهي «الكوميديا»، فلما عجز عن الابتعاد عنها ترجمها «القوموذيا» وماتت الكلمة وأحمد الله على ذلك، وعاشت كلمة الكوميديا في كل اللغات. ولكن العقل العربي بحثا عن كلمة مكافئة، نحت كلمة جديدة غريبة عن تراثه وهي «الفكاهة» في اشتقاق مباشر من الفاكهة.

يا رب.. نفسي أضحك

بعد كتابه «عن الأحلام (On dreams)» الذي أثبت فيه أن الأحلام ليست قادمة من السماء؛ بل هي زيادة في النشاط العقلي تتيح للاوعي أن يعمل على راحته كأي مخرج مسرحي أو سينمائي ليخرج عملاً نسميه «الحلم»، مستعينًا بالعناصر نفسها التي يستعين بها المخرج في العمل الفني من ترميز وتلخيص واختصار. اختصر ذلك كله في وصف بسيط هو أن «الحلم تحقيق رغبة»، وهو ما سبقه إليه المصطلح الشعبي في مصر بمئات السنين عندما شخّص ظاهرة الأحلام بطريقة أكثر إبداعًا، عندما قال إن «الجَعَان يِحْلَم بسوق العيش» وهذا صحيح، حتى في أحلام اليقظة، أنت تحلم بما أنت جائع إليه.