فاضل السلطاني
هل الشهرة، أو بعضها على الأقل، نتيجة سوء فهم؟ يبدو أن الأمر كذلك في حالات كثيرة في التاريخ الأدبي، ويساهم الزمن والقارئ في سوء الفهم هذا. فقد اشتهر كثيرون لدورهم في نشوء حركات أدبية في فترات زمنية معينة، وليس بسبب القيمة الأدبية لنتاجاتهم ذاتها، كما حصل في الأربعينات والخمسينات مع ولادة الشعر الحديث أو الحر، وكما حصل أيضاً مع قصيدة النثر في الستينات.
في لقاء لنا مع الكاتب البرازيلي بابلو كويلو، في لندن، بعد خمسة أشهر من سقوط صدام حسين في أبريل (نيسان) عام 2003، ذكر أنه سيزور العراق قريباً ليكتشف بنفسه «إن كان هناك في البلد شعراء وكتاب وثقافة وليس فقط (رجال بشوارب غليظة)، وقتل وسيارات مفخخة». قلنا له: «لكن لا حاجة للسفر حتى تعرف ذلك».
قال آينشتاين مرة: «لا أدري بأي أسلحة سيجري خوض الحرب العالمية الثالثة، لكن المؤكد أن الحرب العالمية الرابعة ستكون بالعصي والحجارة». ولكن يبدو أن هناك حرق مراحل في الحروب، كما في السياسة. وواضح أننا حرقنا مرحلة الحرب العالمية الثالثة، بعد أن أيقنت البشرية أنه لن يكون هناك غالب ومغلوب، وأن الأطراف جميعها ستستعر في جحيمها؛ فقنبلة «الأخ الصغير»، التي دمرت هيروشيما في الحرب العالمية الثانية، أصبحت الآن في ملكية الجميع تقريباً، وأن توازن الرعب قد صار حقيقة. أدرك الجميع ذلك. صارت القنبلة النووية «خردة» يأكلها الصدأ في مستودعها. تجاوز الزمن الحرب الكونية الثالثة. لم يعد يحتاج إليها.
كلما أعلن عن الفائز بجائزة نوبل، ارتفع الصراخ العربي، الذي قلما نسمعه في أي مكان من العالم، وكأن ظلماً عظيماً قد ألحق بنا. إننا نتوهم أن هناك أسماء عربية معينة مرشحة للجائزة، وتبقى في حالة ترقب قصوى، بل حالة حمى. وحين لا يتحقق هذا الوهم تتضاعف خيبتنا كل عام، وتنهال اتهاماتنا على الأكاديمية السويدية التي تناصب العداء لكل ما هو عربي. وكأننا، من حيث لا ندري، نريد اعترافاً بنا وبأدبنا، نابعاً من شعور يفضح نفسه، رغم كل قناع: شعور بالدونية لا ينتهي إلا باعتراف الآخر بنا.
لا مدينة غير بيروت كانت مفتوحة أمامنا، حين تضيق بنا الأرض، وتطردنا تلك الأوطان التي كنا نصدّع رؤوسها بـ«لغونا»، وهو حقاً مجرد لغو، عن الحرية والخبز والمساواة والحق في الحياة كما نشتهي على هذه الأرض. لم تسألنا بيروت عما نحمل في رؤوسنا وأرواحنا، ولم تفتش في حقائبنا عن منشورات سرية وكتب ممنوعة، ولم تعرف حتى أسماءنا. لا مفتاح سحرياً لباب بيروت، إنه مشرع دائماً، ولا شرط لبيروت على أحد.
في عام 2007 نظمت مؤسسة المدى، التي كانت الوزارة الحقيقية للمثقفين العراقيين في تلك الأوقات العصيبة، مهرجانا في أربيل، شكل أول وأكبر تجمع لهم، إذ حضره العشرات من الكتاب والشعراء والمسرحيين والتشكيليين من الداخل والخارج، بالإضافة إلى حضور مثقفين عرب. وقبيل انتهاء المهرجان بأيام، دعانا رئيس المؤسسة فخري كريم للقاء مع جلال الطالباني، رئيس جمهورية العراق آنذاك. في ذلك اللقاء، كان لنا مطلب واحد من رئيس الجمهورية، أو سموه رجاء، لأننا كنا ندرك كالجميع استحالة تحقيق شيء في نظام مستند منذ تشكيله الكارتوني على يد بريمر إلى توازنات طائفية وحزبية هي أسباب وجوده واستمراريته.
يستدعي الجمال بالضرورة الحديث عن القبح، ليس باعتباره نقيضا له، بل توأم له، على الأقل منذ عصر الحداثة، وما بعدها، رغم أن التداخل بينهما، أو على الأقل على مستوى المفاهيم قد حصل منذ القرن الثامن عشر، فبتنا نردد مصطلحات مثل «جماليات القباحة» و«القبح الجميل». لكن الإشكالية التاريخية والمعرفية فيما تخص المصطلحين لا تزال قائمة، وخاضعة لوجهات نظر متباينة، واجتهادات تعتمد على ميراثنا، وتربيتنا، وتركيب مجتمعاتنا. من هنا تجيء أهمية كتاب «القباحة... تاريخ ثقافي» للباحثة الأميركية غريتسن إي.
ربما يكون دانتي واحداً من أكبر البكائين في التاريخ، حتى أنه خصص غرفة في بيته، وهو الذي قلما ملك بيتاً، سماها «غرفة الدموع». وكلما تقدم به العمر، كلما ازدادت دموعه. كان يبكي «حتى يجعله البكاء هشاً متهالكاً حتى لا يكاد يعرفه أحد، ومن فرط الحزن يتحرك رأسه كأنه شيء ثقيل لا حياة فيه، وتتعب عيناه من البكاء حتى تعجزا عنه». كان ينسحب فجأة إلى تلك الغرفة، التي لم نسمع بمثيل لها في تاريخ الأدب الإنساني، ليقضي ساعات طويلة فيها... وهو يبكي. على ماذا كان دانتي، أحد أعظم شعراء البشرية، إن لم يكن أعظمهم على الأقل بالنسبة لتلميذه العظيم الآخر، تي. إس. إليوت، يبكي؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة