أنطوان الحاج
عندما قامت روسيا بعمليتها العسكرية في شرق أوكرانيا الانفصالي وضمت شبه جزيرة القرم عام 2014، حصل رد فعل على جانبي المحيط الأطلسي، لكن التصرف الأميركي اختلف عن السلوك الأوروبي. ففيما تحرّكت واشنطن استراتيجياً، اكتفت أوروبا – ممثلة بالاتحاد الأوروبي - ببعض التحولات التكتيكية. عملياً، يعكس الانتشار العسكري الأميركي في بولندا ودول البلطيق تعديلاً استراتيجياً في التفكير الأميركي باتّجاه تعزيز الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي «ناتو».
في أقل من ستة أشهر، غيّر فيروس كورونا المسبب لمرض «كوفيد – 19» وجه العالم. ومن الواضح أن الجائحة باقية معنا وقتاً طويلاً، وتضرب ذات اليمين وذات اليسار مسببة أضراراً كبيرة على أكثر من صعيد، أخطرها على الإطلاق الصعيد الاقتصادي. ولعلّ أولى المسلّمات في ظل التراجع والانكماش، هي أن العالم كله يجب أن يعيد ترتيب أولوياته في انتظار عبور النفق والخروج إلى النور. رأينا الحكومات في أنحاء العالم تستجيب للأزمة الصحية والاقتصادية بسرعة نسبية، إنما بطرق غير منسقة إلى حد كبير، وهو أمر ليس بمفاجئ لأن النظرة إلى المشكلة تختلف باختلاف الثقافات والأنظمة السياسية.
يمضي الرئيس دونالد ترمب قدماً في خططه لخفض الانتشار العسكري الأميركي في أوروبا، معلناً أن الولايات المتحدة ستنشر 1000 جندي إضافي في بولندا، على أن تتحمل وارسو كلفة هذا الوجود، بينما تعجّل في خططها لخفض عدد القوات المتمركزة في ألمانيا. في ظاهر الأمر، يبدو الأمر نصراً لبولندا التي كانت تتوق إلى وجود أكبر للقوات الأميركية لتعزيز قوة ردع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في وجه روسيا. أما ترمب فالأولوية لديه أن بولندا تلبي معيار الناتو لإنفاق 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع.
يُجمع الخبراء على أن تغلّب البشرية على فيروس كورونا المستجدّ لا يمكن أن يتحقق إلا بتوافر نظم صحية قوية، وقدرات كافية لإجراء اختبارات كشف الفيروس، وخصوصاً لقاح فعّال وآمن يحصّن الإنسان ضد شرور «كوفيد - 19». والواقع أنه لم يسبق أن اعتمد مستقبل الكثير من الناس - صحياً واقتصادياً - على إيجاد لقاح، كما هو حاصل الآن. والأمر الأخير ليس مجرّد معادلة طبية علمية، بل لا بد من توافر لقاح لكل سكان المعمورة مهما تفاوتت مداخيلهم.
في موازاة الكارثة الصحية التي سببها فيروس كورونا المستجدّ، تلوح في الأفق نُذُر مواجهة متفاوتة الحرارة بين الولايات المتحدة والصين، قد تستمر وقائعها طويلاً وآثارها أطول. راهناً، يمكن القول إن الحرب الباردة بين الطرفين بدأت فعلاً، تغذيها عوامل عدة أهمها إثنان: الحرب التجارية المستمرة منذ سنوات، والانتخابات الرئاسية الأميركية التي تقام في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
يتوقّع صندوق النقد الدولي أن يتراجع الناتج المحلي الإجمالي في 170 دولة بسبب وباء «كورونا»، بل إن التقديرات «قد تكون صورة أكثر تفاؤلاً مما ينتجه الواقع»...
ستنتهي أزمة كورونا من الناحية الصحية عاجلاً أم آجلاً، لكن تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون بالتأكيد طويلة المدى، بل دائمة. وهناك رأيان في هذا المجال، الأول يقول إن العولمة ستزول، والثاني يعتبر أنها ستبقى لكن بشكل مختلف. فأيهما الصحيح؟ الإجابة سهلة في ما يخص الرأي الأول، فإذا زالت العولمة سيبدو ذلك واضحاً لكل عين، خبيرة أو غير خبيرة. أما الرأي الثاني فيحتاج إلى كثير من التفكير والبحث للوصول إلى رسم ملامح العالم ما بعد كورونا.
ليس من أدنى شك في أن عالم ما بعد كورونا لن يكون كعالم ما قبل هذه الجائحة التي أخذت الكرة الأرضية على حين غرّة وعاثت في طولها وعرضها فساداً. وليس من أدنى شك في أنه سيكون للحدث الصحي الخطير تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة