إعجاب كبير بـ {نوم شتوي} التركي.. و{مستر تيرنر} البريطاني لوحة متميزة عن الرسام الشهير

{الشرق الأوسط} في مهرجان «كان» السينمائي (4)

لقطة من فيلم «مستر تيرنر»
لقطة من فيلم «مستر تيرنر»
TT

إعجاب كبير بـ {نوم شتوي} التركي.. و{مستر تيرنر} البريطاني لوحة متميزة عن الرسام الشهير

لقطة من فيلم «مستر تيرنر»
لقطة من فيلم «مستر تيرنر»

قد تكون الأفلام الأميركية في الاختيارات الرسمية قليلة، والاستوديوهات الهوليوودية غائبة تماما، كما هي العادة، عن أعمال المهرجان لكن اللغة المحكية في دورة هذا العام إنجليزية. هذه ليست المرة الأولى، لكنها المرة التي تكرس فيها اللغة الإنجليزية نفسها أكثر مما فعلت في الدورات الماضية.
هناك 18 فيلما متشاركا في المسابقة، منها ثمانية ناطقة بالإنجليزية من بينها الأفلام الفرنسية المتسابقة «البحث» لميشيل هارانافيشيوس و«غريس موناكو» لأوليفييه داهان و«سحب سيلز ماريا» لأوليفييه أساياس.
قبل يومين أعلن المخرج الفرنسي لوك بيسون أن ميزانيته للعام المقبل وصلت إلى 450 مليون دولار وأنه سيدفع صوب المزيد في الأعوام المقبلة. بما أن بيسون، وهو منتج ومخرج لا يؤمن بالسينما التي تعرضها المهرجانات وقف وراء كثير من الأعمال التي صورت بالإنجليزية وبعضها داخل الولايات المتحدة، آخرها «قصر طيني»، الذي يشهد وميضا خافتا في عروضه العالمية، فإنه من المتوقع طبيعيا أن يصرف معظم الميزانية على أفلام هوليوودية النزعة والأسلوب، وهذا يتطلب خمسة عناصر: سيناريو مكتوب على نسق الأفلام الهوليوودية وعلى نحو غير ذاتي، ومخرج أميركي أو فرنسي يشتغل حسب المنهج الأميركي، وممثلون يجيدون الإنجليزية وبينهم أميركيون وموضوع عالمي القبول، مثل سلسلة «مخطوفة أو Taken التي قام بإنتاجها ويصور حاليا جزءا ثالثا منها، ولغة إنجليزية ذات لكنة أميركية قدر الإمكان.
في الحقيقة أحد نتاجاته هذه في المسابقة ذاتها تحت عنوان The Homesman، فيلم وسترن جديد للممثل - المخرج تومي لي جونز مع هيلاري سوانك وإياه في البطولة.
وبيسون ليس وحيدا في هذا التوجه، لكنه يقود الحملة وأول فيلم له سيصرف له من هذه الميزانية الضخمة هو جزء جديد من «الناقل» Transporter ذاك الذي أنجز منه بضعة أجزاء قام ببطولتها الإنجليزي جيسون ستاذام.
وهناك سواه بالطبع في محاولات لم تكن حكرا على حقبة زمنية معينة. فالسينما الإيطالية في الستينات أقدمت على إنتاج كثير من الأفلام الناطقة بالإنجليزية، أفلام تشويق وعصابات مافيا ورعب وبالطبع الوسترن سباغيتي. كذلك فعلت ألمانيا وإسبانيا وفرنسا.
لكن ذلك كان في محيط محلي. لم تؤمن تلك الأفلام ومن وقف وراءها من منتجين وموزعين أنه بالإمكان عرض هذه الأعمال في الولايات المتحدة لأن سوق أميركا الشمالية كانت دوما مغلقة وصعبة الاختراق.
أما في هذه السنوات فإن ما نشهده من قبل شركات فرنسية ضخمة مثل غومون وستديو كانال، وتلك التي يملك معظم أسهمها لوك بيسون «يوروبا كوربوراشن»، هو محاولتها تقديم وجبات أميركية للأميركيين وعلى موائدهم.

* قوانين هوليوودية

* هذا مفهوم في إطار الأسواق العالمية في إطار ما هو مطلوب وكيف يمكن تأمينه، لكن حين يعرض المهرجان الفرنسي هذا العدد من الأفلام الناطقة بالإنجليزية، من دون أن تكون بريطانية أو أميركية، فإن التمدد خطير.
في نطاق سينما المهرجانات فإن المعادلة تختلف بعض الشيء، إذ ليس على الفيلم أن يكون إنجليزيا أو أميركيا لينطق بلغة غير لغة الأم. كل ما يحتاجه زرع شخصية غير محلية في صلبه كما الحال في فيلم الافتتاح «غريس موناكو» Grace of Monaco الذي وقفت وراء تحقيقه أموال فرنسية وبلجيكية وإيطالية وأميركية، أو أن تكون أحداثه واقعة، بشخصيات مختلفة، في بلد آخر كحال فيلم «البحث»، المذكور الذي يتناول حكاية تقع أحداثها في بلاد الشيشان.
السينما الكندية مقسومة إلى لغتين، إنجليزية وفرنسية، ودائما ما نجد حضور الإنجليزية هو الغالب هنا. هذا العام فإن اثنين من أبرز مخرجي تلك السينما يتقدمان للسعفة بفيلمين ناطقين بالإنجليزية طبعا هما «خرائط النجوم» لديفيد كروننبيرغ و«الرهائن» لأتوم إيغويان.
الباقي أميركي وبريطاني. السينما البريطانية متمثلة بفيلمين: «قاعة جيمي» لكين لوتش و«مستر تيرنر» لمايك لي. والأميركية من خلال Foxcatcher للمخرج بنت ميلر «كابوتي» و«مونيبول».
قبل أن يرفع بعضنا حاجبيه تعجبا أو إعجابا، لا بد من القول إن وجود أفلام أميركية وبريطانية وكندية أمر طبيعي بلا ريب، لكن وجود أفلام أوروبية تتكلم الإنجليزية ليس مجرد اختيار درامي، بل محاولة مزدوجة: الأولى لتوسيع رقعة الفيلم عالميا وهذه تنص - ثانيا - على استقطاب مواهب غير محلية غالبا. لكن المسألة لا تتوقف عند حرية الاختيار بل تتعداها إلى بدايات جذب قد لا تكون في مكانها. إنها مثل مركب يبتعد عن الشاطئ. هذه رغبة ركابه فكيف تلومهم.. لكنه في الوقت ذاته ابتعاد عن الأصل الثقافي والهوية الوطنية وكل ما يلحق بهما. وما قد ينجح في السينما التجارية قد لا ينجح في سواها.
حين قام لوك بيسون بمحاولة فرض الفيلم المنتج فرنسيا بقوانين هوليوود داخل أميركا - تعود محاولاته منذ أن أخرج «العنصر الخامس» بطولة بروس ويليس سنة 1997 - طوع كل العناصر المذكورة آنفا في صياغة يتقبلها المشاهد الأميركي.
في حين أن تلك الأفلام التي ترفع رايات فنية وثقافية عليها الالتزام بقوانينها المضادة، مما يعني أن مجرد إنطاق الفيلم باللغة الأميركية لن ينفع كثيرا في محاولات نجاحه في القارة الغربية الأخرى. هذا هو موقع الخلاف بين منتجي «غريس موناكو» ومخرجه داهان، وبين منتجه الأميركي (حصة صغيرة) هارفي وإينشتاين. كل يتمسك برؤيته، مما جعل الأخير ينجز نسخة أميركية الهوى. حين يرى نور العرض في الولايات المتحدة سيبقى عملا غريبا كونه يقع في إمارة سمع عنها الأميركيون ولم يكترثوا لها.
كل هذا لا يلغي حقيقة أن التنازل بدأ برغبة داهان ومن وراءه في الشق الأوروبي بتقديم عمل لا يمكن وصفه بالفرنسي تماما. إنه ناطق بالإنجليزية فقط.

* دخان من رماد

* على صعيد المنتج والمعروض شهدنا في اليومين الثاني والثالث مزيدا من الأفلام التي تتراوح بين تلك التي لن تترك أثرا على الإطلاق وأخرى يمكن التجاذب حيالها، من دون أن يكون بينها ذلك العمل الذي تستطيع أن تتوقع له الوصول إلى مصاف السعفة رغم جودة تنفيذه. في هذا الخصوص هناك مثالان: «مستر تيرنر» للبريطاني مايك لي و«نوم شتوي» للتركي نوري بيلج شيلان.
إذا كان التصفيق في نهاية العرض هو مؤشر مهم (وغالبا هو ليس كذلك لأن الغالبية عادة ما تندفع بتأثير الدقائق الأخيرة من الفيلم وتتحرك بفعله)، فإن أكثر الأفلام عرضة للإعجاب حتى الآن هو الفيلم التركي «نوم شتوي» (يختلف العرب حول بعض حروف كتابة الاسم): دراما من ثلاث ساعات وعشر دقائق (وست دقائق أخرى للعناوين والأسماء في الختام) حول… حول… حول… كل سيفسر أيضا المضمون على هواه.
أيدن (هالوك بيلنجير) يعيش في قرية من قرى الأناضول تعيش على مواسم سياحية. يملك منزله ولديه منازل أخرى يؤجرها كما النزل الوحيد في هذه القرية. كان ممثلا ذات مرة قبل أن ينسحب إلى تلك القرية التي لا يحدث فيها شيء، حيث يعيش مع زوجته الأصغر سنا، نهال (ميليسا سوزن) وشقيقته. لكن الهدوء الماثل عبر مشاهد الفيلم العامة البعيدة الأولى ليس هو ذاته داخل البيت. هناك عواصف شتوية بانتظار المشاهد بعدما يتخلص الفيلم وهو من تمهيداته.
يختار شيلان أن يبدأ الفيلم بلقطة تظهر بقايا نار خامدة لم يبق منها سوى ذلك الدخان المتصاعد. الأرض حولها ليست جميلة كما في فيلم المخرج السابق («حدث ذات مرة في الأناضول») ولو أن القرية التي يختارها لفيلمه هي أيضا أناضولية. من ذلك المشهد إلى السيارة التي تقل أيدن وسائقه هداية (أيبرق بيكان). سيرمي صبي حجرا على زجاج السيارة، وحين يواجه السائق والد الصبي تقع مشادة بينهما. لهذه المشادة آثار مستقبلية قبل نهاية الفيلم، لكن لا شيء في المستقبل القريب. مع نهاية هذا الفصل ندخل بيت آيدن ونكاد لا نخرج منه.
من بين ساعات الفيلم الثلاث ودقائقه الـ16، هناك ما مجموعه نصف ساعة أو أقل قليلا من المشاهد الخارجية. وقت أن يدخل أيدن البيت نكتشف أن ذلك الدخان الأول يعيش في ذلك المنزل الذي يحاول آيدن قيادته تبعا لثقافته الشرقية. تستطيع أن تتخيل سيناريو من 300 صفحة مع طن من الحوار الكامن في الخانة النصفية من كل صفحة. لا يتوقف الحديث فيها عن العتب والعتب المضاد. اللوم واللوم المعاكس. القبول والرفض مع كاميرا تنتقل بين المتحدثين بلا ملل. ليست سريعة، ولا تستطيع أن تكون، فالمونتاج عند شيلان ليس ذا أهمية إلا ضمن الكيفية التي يمكن أن تمنح الانتقال من المشهد إلى الآخر ذلك الحس اليقظ والمفاجئ أحيانا.
هناك مشهد من نصف ساعة كاملة يقع بين آيدن وشقيقته التي كانت فقدت زوجها حديثا، وتعيش مرحلة يأس وتفكر في ترك البيت والعودة إلى إسطنبول. لا شيء يمكن أن يدفع المخرج لاختصار المشهد حتى ولو أن قدرا كبيرا من الحوار هو تكرار لما سبق.
مع هذه الحقيقة يكشف المخرج عن اختياره هو للأسلوب الذي أراده. بعض أفلامه السابقة لعبت على عنصر الصمت. كثير منها كان تأمليا. ليس هذا الفيلم. إنه يختلف وحين يلتقي نراه يلتقي في محاولة تقديم رجل يدفع الأمور صوب حافة الانهيار (كما الحال، مثلا في «السعادين الثلاثة») قبل أن يتراجع - هنا - معترفا بخطئه.
«نوم شتوي» مشحون. مهارة المخرج في جعل المشاهد يتجاوز كل «نوم» الحركة فيه والبقاء يقظا يستلهم من مشاهده تلك الدراسة الشخصية عن بطله والشخصيات الأخرى. كل مشهد مبني على قدر من التحضير لنقطة عالية. أحيانا تنجح وأحيانا تتأثر بعامل التطويل أو بقصر قامة النتيجة ذاتها.

* معاناة فنان

* أحد المشاريع النائمة للمخرج البريطاني مايك لي (صيفا وشتاء) كان فيلما عن الرسام جوزيف ويليام تيرنر (المتوفى سنة 1875) وهو حقق هذا المشروع، أخيرا، تحت عنوان «مستر تيرنر» ليتحدث فيه عن آخر 25 سنة من حياة الرسام البريطاني الذي عرف بأنه «عاشق الضوء». الفيلم من بطولة الممثل تيموثي سبول، الذي ظهر في كثير من أفلام مايك لي ضمن أدوار مساندة، ودائما على نحو ملحوظ يؤكد موهبته الفذة في الأداء. هنا لديه الميدان بأسره. الشاشة كلها ليؤكد هذه الموهبة في التشخيص والتجسيد. ليس مهما كيف يؤدي سبول شخصية رسام ليس حاضرا (إلا من خلال رسومات وبضع صور جامدة) لأنه ليس من الممكن تقليده، وهذا هو الشيء المناسب هنا، لأن الممثل في هذا الوضع سوف يبني كل شيء على قدر محدود من المعلومات وعلى كثير من المحرك الذاتي والبداهة. بذلك، سبول رائع. حضوره الجسدي والأدائي يحتل الفيلم بأسره وليس من خلال حجم الدور، بل من خلال تنفيذه ورؤيته. عليه يستحق بلا ريب سعفة أفضل ممثل إذا ما أخفق ممثل آخر في تجاوز عطائه. سبول يداهم المشاهد ببدنه الضخم وبمعرفته أين تقع معاناة ذلك الرسام، وكيف عبر الرسام عنها وكيف سيعبر هو عنها. يؤدي شخصية لافتة أثارت في زمنها الكثير من الاعتراضات والنقد قبل أن تقبل كإحدى أفضل المواهب الأوروبية في الرسم الطبيعي. لكن معاناة الفنان، كما تتبدى هنا، ليست فيمن يقبله أو يرفضه، بل في رغبته المطلقة في تجاوز قدراته والعمل بلا كلل على ذلك. تكمن أيضا في علاقته مع الآخرين. في وحدته. في العواصف الذاتية التي أدت به إلى إدمان الشرب وإلى ارتكابه تصرفات فسرت حينها - ونراها في الفيلم - كتخريفات رجل عجوز يفقد رزانته. يبدأ الفيلم وينتهي وتيرنر سبول واقفا يرسم الشمس في شروقها. لكن المشهد النهائي هو الأول ذاته. عودة إليه لأنه قبل خمس دقائق لفظ الرسام النفس مريضا في منزل عشيقته مسز بوث. علاقاته النسائية كانت، حسب ما وصفته المراجع، متقطعة. خادمته التي تجاوزت سن الشباب كانت وسيلته المتباعدة لشبقه وانعكاسا لطبيعة حياة سادتها (كما هو الحال لدى معظم الفنانين) شجون حزن ومضارب من الحيرة المزمنة.
كل ذلك وسواه مجسد على شاشة اختارها مايك لي عريضة مناسبة للموضوع. لكنه ومدير تصويره الدائم دك دوب لا يحاولان صنع فيلم جمالي عن الموضوع. لذلك هناك القليل من المناظر التي أحب تيرنر رسمها، والكثير من الإتقان لتفاصيل الألوان ولتفاصيل التصاميم والديكورات والملابس وما يؤلفه كل ذلك من جو داخلي.
إلى ذلك، هناك ذلك النحو المسرحي للعمل. شخصيات مايك لي جميعا تذوب في داخله. لا لقطات قريبة للوجوه أو للأيادي. لا أحد يجوز له الانفراد بالكاميرا (الكاميرا هي التي تنفرد به) والجميع ذائب في ذلك النحو البديع من السينما، حيث التمثيل هو أن تكون جزءا من الكل وليس انفصالا عنه.
هناك مقارنة لا بد منها بين فيلم أوليفييه داهان عن أميرة موناكو غريس كيلي وفيلم مايك لي عن الرسام ويليام تيرنر. كلاهما بيوغرافي. لكن في حين أن الأول خلط الحقيقة بالخيال قدر المستطاع ليكون فيلما «يغزو العالم» لو أمكن، فإن الآخر بقي عملا بريطاني الهوية بفضل مخرج لا يهمه أن يغزو الفيلم العالم، بل هو واثق من أنه سيفعل. ليس على نهج «كابتن أميركا» أو «رجال إكس»، بل من النوع الذي يعيش لفترة أطول بكثير.

* أن تكون ناقدا سينمائيا في «كان»
* خطة اليوم كانت جاهزة: الاستيقاظ في الخامسة صباحا (خمس ساعات نوم لا أكثر) والكتابة حتى السابعة. تلك الكتابة التي بدأت قبل النوم ولم تنته. تناول فطورا مكونا من بودرة بروتين وشراب الرمان وحبتي تمر، ثم النزول في السابعة والنصف لحضور أول فيلم. بعد ثلاث دقائق من المشي الحثيث تتوقف عند أحد الفنادق الكبيرة وتتزود بالمجلات اليومية التي تصدر في «كان» خلال المهرجان. تكمل طريقك. ثلاث دقائق أخرى والقصر في مواجهتك. تبرز بطاقتك وتقول «بونجور» ثلاث أو أربع مرات لثلاث أو أربع موظفين آخرهم يفحص حقيبتك ويمرر الكاشف الإلكتروني «سكانر يدوي»، عليك ليتأكد من أنك لا تحمل سلاحا ما. تهرع إلى الداخل وتنظر إلى المكان الذي اعتدت الجلوس فيه. تجده بانتظارك. تجلس وتتساءل عن طول الشخص الذي سيجلس أمامك. هل سيلغي سنتيمترا من الشاشة أم لا؟
الفيلم من ساعتين ونصف تخرج منه وتنتقل إلى صالة أخرى. تقف في الصف الطويل وتتقدم مثل طائرة في مدرج مطارات مزحوم. هذا الفيلم من ساعتين ونصف. بعد ساعة تشعر بالجوع. لا يهم. بعد ساعة أخرى تريد أن تشرب الماء. لا يهم. حين ينتهي، لديك نصف ساعة لكي تلحق الصف الآخر لفيلم ثالث.. تنتقل إلى هناك مدركا أنك - والساعة الآن تقترب من الثالثة بعد الظهر - ما زلت «على الريق»، وذلك الكوب من بودرة البروتين. تهرع إلى الداخل. هناك شروط جديدة لهذا الفيلم، إنه عرض صحافي، لكن معظم الحضور لمن اشترى التذاكر أو لضيوف الفيلم. لا أحد يحتج وأنت وحدك لن تحتج. سيضعونك في صف أمامي تنظر إلى الفيلم برأس مرفوعة. هذا الفيلم من ثلاث ساعات وربع. ما زلت تتمنى شربة ماء.
إذ ينتهي لديك خياران: فيلم المسابقة الثالث لهذا اليوم معروض مرتين: مرة بعد نصف ساعة ومرة بعد أربع ساعات. تفكر أنه من الأفضل أن تأكل شيئا وتشرب شيئا وتلجأ إلى العرض الليلي في العاشرة، لكنك تخاف إذا ما فعلت ذلك أن تعود إلى الشقة وتشعر بالكسل وتقرر عدم الخروج منها. إذن هلم إلى العرض الأول.
تغادره في الساعة التاسعة (لا يهم إنه لم يكن يستحق العرض أصلا)، وهذه المرة أنت واثق من أمرين: ستعود للبيت وفي الطريق ستمر بمطعم تأكل فيه وستعاود الروتين نفسه في اليوم التالي.



«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».