«أغنية هادئة»... حكاية النساء العاملات والمربيات تنضح إنسانية وإجراماً

رواية ليلى سليماني الحائزة على «جائزة غونكور» 2016 تصدر بالعربية

غلاف الرواية بالعربية  -  ليلى سليماني
غلاف الرواية بالعربية - ليلى سليماني
TT
20

«أغنية هادئة»... حكاية النساء العاملات والمربيات تنضح إنسانية وإجراماً

غلاف الرواية بالعربية  -  ليلى سليماني
غلاف الرواية بالعربية - ليلى سليماني

«توفي الرضيع. لم يستغرق موته سوى بضع ثوان (...) أما الطفلة الصغيرة، فكانت لا تزال حية عند وصول النجدة». بهذه الكلمات وعلى جريمة مروعة ارتكبتها مربية في حق طفلين ترعاهما، تفتتح من سطورها الأولى رواية «أغنية هادئة». يكاد القارئ لا يلتقط أنفاسه، فهو يتابع صورة الأم المذعورة والمنهارة أمام مشهد ولديها الممددين بلا حراك، والقاتلة التي تحاول أن تنتحر، ورجال التحقيقات الذين يلملمون الألعاب المتناثرة ويضعونها في أكياس بلاستيكية، ويرفعون البصمات. بداية صادمة لرواية بديعة، نالت بمجرد صدورها باللغة الفرنسية اهتمام القراء، ثم توجت بالـ«غونكور» أرفع جائزة أدبية في فرنسا، وكتب حولها الكثير، لكنها بقيت مجهولة بالنسبة للقارئ العربي. صدور ترجمتها بعد أربعة أشهر من فوزها بالجائزة، عن «المركز الثقافي العربي» وبدعم من وزارة الثقافة المغربية، يتيح للقارئ العربي التمتع بنص إنساني عميق نادراً ما يجده في الإصدارات الروائية العربية التي سيّست أكثر مما تحتمل، وسطحت حتى بات تراكم الأحداث والشخصيات وأحياناً الجثث فيها، من المخارج المحببة للكاتب، بدل أن يعتمد الاستبطان وسبر أغوار الشخصيات.
الكاتبة الشابة ليلى سليماني (مواليد الرباط 1981)، ذات الأصول المغربية، التي اختارت فرنسا مكان دراستها الجامعية وإقامتها وعملها صحافية، هي المرأة العربية الأولى التي تفوز بـ«غونكور»، بعد كاتبين رجلين هما الطاهر بن جلون عام 1987، وأمين معلوف عام 1993.
«أغنية هادئة» هي روايتها الثانية بعد «في حديقة الغول»، وهي بسيطة، تستعير الحياة اليومية لمشاهدها، وعائلة كملايين غيرها في العالم، وأحداثاً تتكرر باستمرار، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهن أحد أنها قد تؤدي إلى فاجعة.
توحي الكاتبة بأنها روت القصة كلها في الصفحات الثلاث الأولى. مات الطفلان، وبقي الوالدان أمام كارثة لا تصدق، أما المربية فذهبت إلى المحاكمة. قد يظن القارئ، ألا شيء تبقى أمام ليلى سليماني لتحكيه إلا ما سيحل بهذه القاتلة بعد القبض عليها. لكن ما سيحدث هو العكس تماماً. فالقارئ لا يفعل طوال الصفحات المئتين واثنتين وعشرين للرواية سوى استعادة ما حدث، ومحاولة فهم، كيف وصلت عائلة عادية استعانت بمربية إلى هذا الدرك الجحيمي؟ وما الذي دفع بالسيدة المثالية التي أدهشت الزوجين بتفانيهما في خدمتهما إلى قتل طفليهما البريئين؟
نص جميل يلتهم في جلسة واحدة، لا لملاحقة القصة وخيوطها الضائعة، لأن الحكاية تقرأها على الغلاف الأخير كاملة، وهي بسيطة ومفجعة في آن واحد. مريم وبول، هما والدا آدم وميلا. تضيق مريم ذرعاً بمهمتها الأمومية التي تجعلها حبيسة المنزل وتعيقها عن أي ممارسه مهنية، هي المحامية التي حلمت بالمحاكم والمرافعات والنجاحات، ووصلت بسبب كبح طموحها ومهماتها المنزلية المنهكة، إلى حافة الانهيار. لقاؤها بزميل قديم ناجح عرض عليها العمل معه، فتح لها أبواب الأمل. الزوج بول ذو شخصية دمثة، لطيفة، متجاوبة، ومتفهمة. الإعلان الذي طلبا عبره مربية، جعلهما أمام مهمة اختيار، بين عدة سيدات توافدن على المنزل من جنسيات مختلفة. اختيارهما للويز، السيدة البيضاء الرصينة، سيغبطان نفسهما عليه، وكأنهما لا يصدقان هذا الحظ الذي غير حياتهما.
نطوي الصفحات ونحن نقرأ عن تسلق الزوجين سلم النجاح، درجة تلو أخرى، بعد أن اطمأنا إلى أن طفليهما في أياد أمينة. «وبدأت أوقات عمل مريم تطول أكثر فأكثر... وبمقدار انزعاجها من هذا الجانب، كانت في قرارة نفسها مسرورة من تطوع لويز للقيام بأعمال لم تطلبها منها قط».
تعمل لويز رويداً رويداً على انتزاع سلطات جديدة في المنزل، ثم يصبح اصطحابها، في الإجازات أيضا، أمراً لا بد منه. وصارت «كجندي يصرّ على التقدم مهما كلفه الثمن. وأشبه بكلب كسر أطفال أشقياء قائمته». لا تتعب لويز هي التي «لم تعد ترغب إلا في شيء واحد: أن تعيش معهم، وتجد مكاناً بينهم، وتحفر عندهم وكراً».
الرواية كلها عبارة عن «فلاش باك». عودة إلى الوراء لنسمع الحكاية بلسان محايد، من راو يرى الأمور من عل، يستكشف المشهد كله أمام القارئ، ويتركه يتمكن من خريطة تكتمل تدريجياً، خاصة حين نذهب أيضا إلى حياة لويز، ولادة طفلتها ستيفاني نتيجة حياة نصف متهتكة. زواجها غير الموفق من جاك الذي لا يترك خلفه غير الديون، ثم هجر ستيفاني أمها بغتة واختفاؤها، وبقاء لويز وحيدة في منزل كئيب، وسخ ومهمل، تتركه كل يوم لتذهب وتعتني بنظافة منزل آخرين، محرومة من ابنتها بينما عليها أن تجلب السعادة لأولاد غيرها، وهي تفعل ذلك بكل رحابة، لكنها تنتهي إلى الانهيار.
«أغنية هادئة» هي قصة مجتمع عصري، مشغول بالطموح، وحب الوصول. مجتمع لاهٍ عن أساسياته لأنه ابتكر جوهراً بديلاً سرعان ما يكتشف الناس أنه لا يجلب السعادة، ولا يملكون الاستغناء عنه.
هي قصة الوقت الضيق دائماً، الذي لا يسمح للأهل بالسؤال عن ماضي الشخص الذي يعهدون إليه بأعزّ ما يملكون. وهذا الشخص الذي غالباً ما يأتي من بيئة بائسة، وعليه أن يواجه مسرات الآخرين برحابة غير إنسانية.
الراوي المحايد، تقنية سمحت للروائية ليلى سليماني، أن تقدم لقارئها حكايتها بمشاهد بانورامية تنتقل فيها بين بيت لويزا وعائلتها ومحيطها وأماكن عملها السابقة ونزهاتها القليلة، ويوميات بول ومريم وأصدقائهما ومحيطهما وأماكن عملهما وإجازاتهما ومنزل الجدين، كما سمحت لها بأن تنتقل في الزمن تقديماً وتأخيراً، كما تشاء، وبحرية لا تشعر القارئ بالإرباك أو فقدان خيط القص.
لذلك مهما تعددت الأماكن والأحداث، نجد أنفسنا أمام أسلوب بسيط، سلسل، يتدفق صوراً ومشاهد وأحداثاً، لا تترك مجالاً للإرباك أو التعثر.
تسمح «أغنية هادئة» برؤية تأملية متمعنة، في كثير من الظواهر التي باتت جزءاً من يومياتنا دون أن تستوقفنا، تأخذ قارئها إلى عالم الأطفال، عالم الأعمال، عالم الخادمات والمربيات أيضاً اللواتي يجتمعن في الحديقة القريبة من منزل مريم، بعد أن يجلبن الأولاد الذين يعنون بهم لتسليتهم. هناك تلتقي لويز بوفاء، التي تصبح صديقة لها دون أن تكشف عن دواخلها الشريرة.
التغيرات التي تطرأ على سلوك لويز، تشعر أصحاب البيت بالأرق، دون أن تجعلهم يتخذون أي تدبير لصرفها من العمل. الوقت ضيق، والانشغالات كثيرة، ولا مجال للتوقف والتأمل. تتمادى لويز في التخطيط لجعل وجودها في البيت قدراً لا يمكن الاستغناء عنه. يصل الأمر إلى حد تدخلها لدى الزوجين لإنجاب طفل ثالث: «سيحل هذا الطفل كل مشاكلها. يكف عنها الألسنة النمّامة في الحديقة. ويصون منزلتها داخل مملكتها. اقتنعت بأن ميلا وآدم لا يتركان لمريم وبول الوقت للاهتمام بنفسيهما. وهما بذلك يعرقلان ميلاده. وإذا كان الزوجان لا يلتقيان، فالطفلان هما السبب».
نطلع على جانب من التحقيقات، لكننا لن نعرف أبدا ما الحكم الذي سيصدر على لويز؟ ولن نسمعها تروي بلسانها ما دفعها إلى القتل. كل توقعات القارئ تذهب سدى، ومع ذلك يبقى مستمتعاً. فالحكاية هي عن كل هؤلاء النساء المطعونات في أمومتهن، المعذبات في قصورهن المهني، وتشتتهن بين الواجبات الكثيرة والرغبات الدفينة. حكاية الإنسان العصري المدمى بالتناقضات ومحدودية الإمكانات. رواية هادئة وسلسلة تقود إلى بركان من الأسئلة.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.