في مئوية ولادته... الفيلسوف كمال يوسف الحاج يعود مظفّراً

بعد أعماله الكاملة... الإعلان عن سنة من الاحتفالات بنظرياته القومية واللغوية

كمال يوسف الحاج
كمال يوسف الحاج
TT
20

في مئوية ولادته... الفيلسوف كمال يوسف الحاج يعود مظفّراً

كمال يوسف الحاج
كمال يوسف الحاج

ليست مصادفة عودة الفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1917- 1976)، بعد أن كاد ينسى وتطوي أفكاره السنين. لعله كاتب المرحلة وفيلسوفها، ومؤلفاته مناسبة تماماً لتعاد طباعتها كاملة، ويقام احتفال كبير حولها ومؤتمر يناقش مضامينها، ويعيد تقييمها كما حدث منذ ثلاث سنوات. فمن كاتب مثير للضغينة متهم بالتعصب والانغلاق في ستينات القرن الماضي، بسبب دفاعه الشرس عن «القومية اللبنانية»، والتنظير لها والتأليف حولها، وإسنادها برؤى فلسفية، إلى مفكر مطلوبة اجتهاداته ومحببة. كانت نظريته حول الوطن والدولة اللبنانيين في مواجهة الوحدة العربية التي يذوب الجميع فيها ويتماهى داخلها. اليوم، بعد كل الانقلابات التي حدثت، تبدو آراؤه التي وصفت بالانعزالية واقعية، وقد تكتسب المزيد من الأهمية في السنوات المقبلة. فالرحلة التي قطعتها مؤلفات كمال الحاج طويلة وشاقة، في مرحلة مليئة بمتغيرات، ضربت لبنان وكل المنطقة العربية والعالم أجمع.
منذ سنوات كان عليك أن تبحث كثيراً في المكتبات لتعثر على بعض من كتب كمال الحاج، الآن توفرت الكتب، وثمة اهتمام خاص بإحياء فكره، بمناسبة حلول مئوية ولادته هذا العام. وبدءاً من 14 (مارس) آذار الحالي، تنطلق أنشطة حول يوسف الحاج وأعماله، تستمر عاماً كاملا، في لبنان وأيضاً في تونس، حيث تنظم محاضرات ونقاشات وندوات، كما يتم العمل على ترجمات، وهناك تشجيع على إعادة تدريس رؤيته الفلسفية في المناهج الجامعية. فالفيلسوف الذي اغتيل عام 1976 مع مطلع الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة، دافعاً دمه ثمناً لجرأته، يبدو لكثيرين بعد أربعة عقود أنه كان أقرب إلى الصواب ممن نادوا بالنضال من أجل هوية أوسع وأكثر شمولا وباءت نظرياتهم على الأرض بفشل ومجازر.
لبناني حدّ التعصب لولا أنه يمنح هذه النظرة الوطنية الضيقة بعداً مفتوحاً على أفق رحب ومسارب كثيرة. وكلما شعرت وأنت تقرأه، أنه يقترب من الشوفينية، يشرّع لك نوافذ وأبواباً تزودك بالسماحة والاعتدال.
ولد كمال يوسف الحاج في 17 فبراير (شباط) 1917، في مدينة مراكش في المغرب. عاش في بداياته بين المغرب ومصر. والده، يوسف بطرس الحاج كان كاتباً وصديقاً للملك فؤاد، أصدر عدّة صحف في باريس ودمشق ولبنان، وعلّم ابنه فنون الخط العربي والعزف على الكمان، لينضم بعد ذلك إلى أوركسترا الجامعة الأميركية، التي منها أجيز بشهادة في الأدب العربي عام 1946، وعمل على أطروحة حول مصطفى صادق الرافعي. وقبل تخرجه انكب على ترجمة كتاب برغسون «رسالة في معطيات الوجدان البديهية» ليكون أول من ينقل هذا الفيلسوف الصعب إلى العربية. وشكلت هذه التجربة محطة مفصلية في حياته الفكرية، إذ جعلته يتوقف طويلا أمام علاقة الإنسان باللغة عموماً والفكر بشكل خاص، وصعوبة إيجاد المعاني ذاتها في لغتين مختلفتين، بعد وقوفه عاجزاً أمام إيجاد الكلمات التي تتطابق والمفاهيم التي كان يتوخاها أثناء الترجمة. بفضل هذا الكتاب، حصل على منحة إلى فرنسا لتحضير رسالة دكتوراه في جامعة السوربون حول «قيمة اللغة عند هنري برغسون»، غارقاً بذلك في موضوع أثار فضوله باكراً.
وبنتيجة هذه الأطروحة التي سيعود بعدها إلى لبنان عام 1950 ليدرس باللغة الفرنسية في «معهد الآداب العليا الفرنسي وفي الأكاديمية الوطنية للفنون الجميلة» سيجد نفسه مشغولا بموضوع الازدواجية اللغوية، وليتوقف بعدها بقليل عن استخدام الفرنسية منتقلا إلى لغته الأم، التي سيكتب عنها كثيراً بعد ذلك، وعن قيمتها الجوهرية في التعبير وتشكيل الوجدان.
كان من أوائل الأساتذة المؤسسين الذين انضموا إلى «الجامعة اللبنانية» عند افتتاحها كدار عليا للمعلمين مطلع الخمسينات. ثم أصبح أستاذا في «قسم الفلسفة» فيها ورئيساً له، وعميداً لكلية الآداب. وفي ظلها سيلمع اسمه، وتعرف أفكاره وأهم كتبه، ومع أساتذتها ستدور الكثير من النقاشات حامية الوطيس.
عام 1954 صدر كتابه «مدخل لفلسفة رنيه ديكارت»، تلاه آخر «حول فلسفة هنري برغسون» في جزأين، ثم «فلسفيات». وعام 1956 بدأ التدريس في «جامعة الكسليك» وأصدر كتابه الأشهر «فلسفة اللغة» الذي سيطبع مرة ثانية تحت اسم «في فلسفة اللغة» ويدرسه عديدون من طلاب «الأدب العربي» كجزء من منهاجهم، حيث وضع فيه خلاصة تجربته مع لغة برغسون وأفكاره الفلسفية ومعرفته باللغة العربية. واعتبره كمال الحاج مؤلفاً جديداً في ميدانه، لأنه ينظر إلى اللغة لا من جهة النحو والصرف التقليدية المعتادة وإنما من زاوية فلسفية وكملكة تمنح البشري قيمته الإنسانية. وهو يشرح في مقدمة هذا الكتاب أن «اللغة هي قضية قومية. ولما كانت التيارات القومية متعددة في لبنان، فقد تعددت أيضا المواقف إزاء اللغة عامة، واللغة العربية خاصة التي هي لغتنا الأم».
تعلقه باللغة العربية ورفعه لها إلى درجة اعتبارها جوهراً، لم يقده إلى القومية العربية التي كانت كاسحة في ستينات القرن الماضي، أو البعثية وتلك التيارات اليسارية الوطنية التي كانت سائدة، وإنما إلى اعتبار القومية اللبنانية هي الأساس، لأنها في نظره قديمة ومتجذرة. وهذا ما سيسوقه للتنظير للدولة ومفهومها، والطائفية معتبراً إياها تبعاً لتعريفه الخاص أساس الوجود اللبناني وقيمة إيجابية يفترض الاستفادة منها لتعزيز الروح الوطنية. من هنا جاءت سلسلة كتبه «فلسفة الأمة والقومية» 1957، «تعادلية الجوهر والوجود» 1958، «الأمة العربية» 1959، «القومية اللبنانية» 1961، «فلسفة الميثاق الوطني» 1961، ثم كتابه «الطائفية البناءة أو فلسفة الميثاق الوطني».
في هذا الكتاب يشرح كيف أن الطائفية بالنسبة له قيمة إيجابية، و«عظمة القومية اللبنانية تنبثق من كونها طائفية». «والطائفية هي صهر أخوي لدينين عظيمين في قومية واحدة. بل هي النقطة التي يلتقي فيها غرب وشرق. وقد عبر عن ذلك التمازج الحضاري ميثاقنا الوطني الذي أخطأ بعضنا فهمه عندما نظروا إليه كتسوية إدارية في ملاكات الحكومة. الميثاق تخطى صراحة التعادل الإداري في الحكومة إلى تعادل حضاري في المشاهدة الباطنية بين مسلمي الشرق العربي ومسيحييه».
بلغة خاصة، اعتبرها استكمالا لهويته اللبنانية، وانتماءً للعربية نحت كمال يوسف الحاج العديد من الكلمات الجديدة من بينها كلمة «نصلامية» التي يقصد بها الزواج الحضاري بين النصرانية والإسلامية. إذ يعتبر أن لبنان يجمع هذا التناغم بين الدينين ويحافظ على الطائفية. وهو بلد التسويات، وإذا طلب منه غير ذلك فهو «تكسير لأضلاعه».
كتب ونظّر كمال يوسف الحاج، ضد الماركسية والشيوعية، وكذلك ضد قيام إسرائيل والدعوة الصهيونية، معتبراً أن سبعة ملايين مسيحي في هذا الشرق يجب أن لا يستهان بدورهم في النضال ضد إسرائيل، فهي في نظره دولة مستعمرة، معتدية، ووجودها بصيغتها الدينية التي لا تفسح مجالا لآخر وجود مضاد للبنان، البلد الذي جاء سكانه مهاجرين، ليحتموا بمغاوره وجباله، وفي غالبيتهم، من الهاربين من العبودية إلى صلابة جباله، ومن طلاب الحرية والثوار والمتمردين. وهم في الأصل مختلفون في أديانهم وفي أصولهم، جاءوا منذ أمد بعيد ليعيشوا وفق صيغة تعايش هي رسالة للجميع. من هنا يعتبر أن انتصار إسرائيل وتمددها وسيطرتها معاد للبنان وخطر، لا بل هو وجود، في الأصل، يهدد لبنان بالفناء.
ربما أن فكر كمال الحاج في حينه كان يبدو شوفينياً، يوم كانت النخب العربية تناضل في كل قطر من أجل وحدة وجدت نواتها الأولى على يد جمال عبد الناصر في الوحدة بين سوريا ومصر. وقتها كان كمال الحاج وأمثاله بحاجة إلى شجاعة كبيرة ليقفوا في وجه أمواج العروبة الحماسية. ومع ذلك قال الحاج كلمته حينها: «لبنان مدافع عن العروبة بشرطين: ألاّ تكون عروبة دينية، وألا تطلب الوحدة السياسية المبرمة. ولا لدولة مسيحية في لبنان، ولكن الامتياز المسيحي ضرورة في وجه إسرائيل. وبالتالي لم يكن كمال الحاج ضد العروبة بمعناها التاريخي الإنساني الحضاري، لكنه ضد أن يذوب لبنان في هذا المحيط العروبي الكبير.
رؤية تحاول أن تكون متكاملة حول الإنسان ولسانه وانتمائه وكينونته والجوهر. العودة إلى كمال الحاج اعتراف بأن النظرية العروبية قد علّقت وأن التمسك بالقطرية هو طوق النجاة الأوحد المتاح، إن أمكن.



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.