رواية «النجدي»... تذكرة سفر إلى الخليج

تشير لتحولات الكويت من مجتمع صيادين إلى مجتمع استهلاكي

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

رواية «النجدي»... تذكرة سفر إلى الخليج

غلاف الرواية
غلاف الرواية

وأنا أقرأ رواية «النجدي» الصادرة مؤخرًا عن دار «ذات السلاسل» للكاتب الكويتي طالب الرفاعي، تذكرت هذه الأبيات الحزينة من «أنشودة المطر» للسياب:
أَصيح بالخليج: يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!
فيرجعُ الصَّدى كأنّه النشيج:
يا خليج، يا واهب المحار والردى
في هذه الرواية يأخذنا الرفاعي إلى عالم البحر وهمومه ومخاوفه ومشقة التعامل معه. وليس من المصادفة أن يفتتح روايته بفعل أمر يلفّه الإغراء: «تعال» (ص 13) ينادي البحرُ الطفلَ «عليًا» الذي سيصبح في المستقبل «نوخذة» كويتيًا يجوب البحار على متن سفينته البوم «بيان» استجابة لنداء البحر وإغرائه. وكلمة نوخذة التي تعني القبطان أو ربان السفينة مأخوذة من الفارسية «نَوْ كَدا» أو «نَو خُدا»، تعني صاحب الأنواء.
«البحر صديقي» يردد الطفل علي النجدي في بداية الرواية حين يعثر عليه أبوه نائمًا قرب البحر. يجيب والده، الذي خَبَرَ البحار قبله وعايش العواصف الهائلة وتقلّب الأنواء بين لحظة وأخرى وأهوال الطقس: «البحر لا يعرف صديقًا» (ص 16). هكذا تبدأ الرواية؛ طفل يدهشه البحر بسعته، ويثير فضوله سؤال مفاده: «لماذا تبدو السفن صغيرة في حضرة البحر وحضنه؟» (ص 13).
هكذا إذن. منذ نحو الخامسة من عمره، يرسم القدر لعلي النجدي خريطة طريق على أمواج البحر وبموازاة شواطئه وفي أعماقه. يقع الفتى في حب مياه الخليج «واهبة المحار والردى» لا يثنيه عن محبوبته نصيحة خبير ولا رأي أب. فهو على حد وصفه الصوفي: «أنا نقطة في هذا البحر».
تشير الرواية في لفتة مهمة إلى التحولات التي شهدتها الكويت وانتقال المجتمع من مجتمع صيادين وتجار بحر يعتمدون في معيشتهم على صيد المحار والأسماك والتجارة البحرية إلى مجتمع استهلاكي بعد فورة النفط في الأربعينات والخمسينات، وتوجه قسم كبير من الناس إلى شغل وظائف في الشركات الكثيرة التي امتلأت بها دول الخليج. فمع تصدير أول شحنة بترول من الكويت عام 1946 انصرف أهلها عن البحر: النواخذة والطواويش والتجار والبحارة والغواصون والقلاليف. الجميع أدار ظهره للبحر، كلٌّ راح يبحث عن عمل في شركة البترول أو في سوق التجارة والوكالات الأجنبية الجديدة، ومُهملاً حزينًا انزوى البحر. إلا أن النوخذة علي النجدي لم يفارقه عشق البحر ووفاؤه لمهنته. لم يغدر بصديقه ويوليه ظهره كالآخرين بل ظل وفيًا لسفينته وصديقه: «أنا سمكة قرش تموت لحظة تفارق البحر». (ص107).
الرواية من أولها إلى آخرها تعتمد السرد بصيغة ضمير المفرد المتكلم وهو ما يجذب القراء عادة إلى فخ علاقة حميمة منذ الأسطر الأولى مع البطل بسبب ما يعتبره كل قارئ أنه بوح صادقٌ من شخص عزيز عليه يفشي سره له وحده. وهو ما جرى لي مع علي النجدي الذي سرد لي على مدى بضعة أيام قصته الجميلة الحزينة ومشاعره الرقيقة والمكتوبة بلغة اهتيامية صرف بين الحبيب «الربان» ومحبوبه القاسي الوديع اللطيف الخشن «البحر». لغة الرواية جاءت شعرية متماسكة منسجمة مع لغة أهل البحر الذين يقتبسون من جارهم العظيم سعة الخيال ولين الكلمات وعمقها. «نوخذة السفر يعشق الريح، أنثى تتدلل عليه فتطرب روحه لغنجها، وتراوغه فينسرب خلفها، تغضب منه فيعرف كيف يراضي جموحها». (ص 76).
لا يملّ صديقُه البحرُ من مناداته ولا يمل هو من تلبية النداء. لا يثنيه في ذلك شيء. لا طقس ولا تعب ولا إرهاق. يظل يسمع نداء «تعال» طوال عمره. إنه الطفل الذي استنشق لحظة ولادته هواء البحر. تمامًا مثل «لارسون» بطل رواية «ذئب البحر» لجاك لندن الذي يقول: «ولدت على ظهر موجة».
في آخر رحلة له في البحر يصطحب علي النجدي رفيقيه سليمان وعبد الوهاب معه. الثلاثة خرجوا على ظهر المركب في رحلة صيد قريبًا من ساحل الكويت إلا أن عاصفة بحرية تهب عليهم ويحاصرهم الموج وتعبث الأمطار والظلمة بهم وبمركبه. يناجي علي النجدي صديقه، يرجوه أن يكفّ عن الغضب، أن يهدأ لأجل تلك الأيام الجميلة التي قضوها معًا. يوشك المركب على الغرق وتصل الرواية ذروة التشويق. يلعب الراوي بلب القارئ تمامًا مثل تلك الأمواج الغاضبة التي كانت تلعب بالمركب ومن عليه. فهل يخون البحر صديقه؟
هذا ما تجيب الرواية عليه في النهاية.
* روائي سوري - ألماني
مقيم في ألمانيا



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!