جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

ابن أسرة يهودية سيكون مستشار ترامب والناصح المؤثر

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض
TT

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

جاريد كوشنر... صهر «سيد» البيت الأبيض

من النادر حدوث مصاهرة في الولايات المتحدة بين أسرة يهودية بولندية الجذور سقط أجدادها ضحايا للمحرقة النازية، مع أسرة مسيحية تعود جذور أجدادها إلى ألمانيا النازية ذاتها. ولكن هذا بالضبط ما حصل بين أسرة كوشنر اليهودية الأرثوذكسية ممثلة بالشاب جاريد كوشنر، نجل الملياردير اليهودي تشارلز كوشنر إمبراطور العقارات في ولاية نيوجيرسي ومؤسس شركات كوشنر - الذي عيّنه حموه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أخيرًا مستشارًا له وأسرة ترامب ممثلة بالشابة إيفانكا ابنة الرئيس المنتخب وإمبراطور العقارات في ولاية نيويورك. وكانت إيفانكا في ذلك الوقت قد بدأت بالعمل في شركة والدها في حين أن جاريد كان قد تولّى مهام والده في إدارة ممتلكاته العقارية الضخمة، لأن الأب كان قد اعتقل وحوكم بتهم كثيرة، من بينها التحايل على أنظمة الضرائب والتبرعات وأمضى في سجن فيدرالي نحو سنتين.
يبدو أن الثراء الناتج عن النشاط العقاري وحده هو ما جمع بين أسرتي كوشنر وترامب، وكان الجسر الرابط بين الفتى جاريد كوشنر والفتاة إيفانكا ترامب، مثلما هو جسر جورج واشنطن يربط بين مسقط رأس جاريد في ولاية نيوجيرسي، ومسقط رأس إيفانكا في ولاية نيويورك المجاورة ولا يفصل بين الولايتين سوى نهر الهدسون. ذلك أنه قبل انخراط كوشنر في حملة «حميه» دونالد ترامب الانتخابية لم يكن تُعرف له أي توجهات سياسية سوى أنه يعلق في مكتبه صورة للرئيس الديمقراطي الراحل جون كينيدي وأخيه روبرت كينيدي، كما يعرب عن اعتزازه بكثير من الرؤساء الديمقراطيين ولم يسمع منه أي إشادة أو فخر بأي رئيس جمهوري.

لقاء مرتّب
ومن المفارقات أيضًا أن اللقاء الأول بين جاريد وإيفانكا عام 2007 لم يكن تلقائيًا ولا عفويًا بل مرتبًا من جانب أصدقاء مشتركين لهما، ليس بغرض تزويجهما، وإنما بغرض خلق فرص تعامل تجاري بين الأسرتين. واستمرت اللقاءات والمواعدة بين الشاب والفتاة أكثر من سنتين ولم يتم الزواج إلا بشرط كان صعبًا جدًا على أسرة ترامب ولكن الأسرة لم تتدخل لمنع الزيجة المشروطة.
لقد اشترطت أسرة كوشنر على ابنها جاريد للقبول بزواجه من مسيحية بروتستانتية أن تعتنق خطيبته الديانة اليهودية، وهذا ما حصل بالفعل. وهو الأمر الذي استفاد منه لاحقًا «المرشح الرئاسي» ترامب للدفاع عن نفسه بأنه ليس معاديًا للسامية. ومن ثم، كانت هذه المصاهرة النادرة بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ ترامب، اليميني المتشدد، من تهمة خطيرة، لا سيما بعدما استغل خصومه جذوره الألمانية فشبّهوه بزعيم النازية أدولف هتلر.
وعلى الرغم من أن 27 في المائة فقط من يهود أميركا صوتوا لصالح ترامب، مقابل أكثر من 72 في المائة صوتوا لمنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، فإن ترامب - على ما يبدو - يسعى لاستثمار صهره لاحقًا لحمايته من التهمة ذاتها، التي يخشى من تسليطها عليه أثناء وجوده بالبيت الأبيض في حال اختلفت توجهاته وسياساته مع ما يرضي إسرائيل ومناصريها.
ولهذا عندما بدأ الرئيس الأميركي المنتخب يتلقى التقارير الاستخبارية المصنّفة في «غاية السرّية»، فوجئ مسؤولو الاستخبارات الأميركية بطلب غير مسبوق من رئيس أميركي، هو السماح لشخص آخر من أسرته بالاطلاع على تلك التقارير. هذا الشخص الذي أراد ترامب إشراكه في أدق الأسرار هو صهره جاريد كوشنر، زوج ابنته إيفانكا. وبالطبع، لم يُسمح لكوشنر على الفور بالاطلاع على التقارير الاستخبارية السرّية، ليس لأنه نجل سجين مُدان بـ18 جناية، ولا لأنه يهودي الديانة يُخشى منه أن يسرّب الأسرار لإسرائيل، بل بكل بساطة لأنه لا يحمل صفة رسمية تجبر الوكالات الاستخبارية على فحص سجله الأمني وقياس نسبة الخطورة من اطلاعه على الوثائق المصنّفة «سرّية» أو «سرّية للغاية»، ومن ثم منحه التصريح الأمني أو إبلاغه بالرفض. وعادةً، يكون القرار على ضوء نتيجة الفحص - الذي قد يستغرق شهورًا - في سجل الشخص وشبكة ارتباطاته الخارجية والداخلية، وفي نهاية المطاف إما أن يمنح تصريحًا أمنيًا شاملاً، أو جزئيًا، أو يُرفض منحه التصريح دون إبداء الأسباب.

الصهر... المستشار
وهكذا، من منطلق رغبة من الرئيس ترامب بتسهيل الأمر على صهره، البالغ من العمر 36 سنة، في الحصول على تصريح أمني يؤهله للاطلاع على أسرار الدولة التي لا يطلع عليها سوى الرئيس ونائبه، وتمكُّنه في الوقت ذاته من تقديم الاستشارات للرئيس بشأن القضايا المطروحة أمامه، كان لا بد من إصدار قرار بتعيينه رسميا مستشارًا له ليعمل إلى جانبه في البيت الأبيض. ومن ثم، تبدأ إجراءات حصول الصهر على التصريح الأمني المطلوب.
غير أنه ظهرت معضلة غير متوقعة أمام ترامب وصهره هي وجود تشريع يعود إلى بداية عقد الستينات من القرن الماضي جرى إصداره حينذاك للحد من المحاباة في الوظيفة العامة. وينصّ هذا التشريع على منع كبار مسؤولي الحكومة الفيدرالية من تعيين أقاربهم لشغل الوظائف العامة. ويبدو أنه قد التشريع المشار إليه سُنّ عقب اختيار الرئيس الأميركي الراحل جون كيندي شقيقه روبرت كيندي وزيرا للعدل، وهو الأمر الذي جوبه في حينه بمعارضة قوية، لكنه لم يحُل دون المصادقة على التعيين في مجلس الشيوخ.
والواقع أنه إذا كانت المصادقة على التعيينات في مجلس الشيوخ تمثل سدًا منيعًا أمام المحاباة، أو حتى أمام اختيار أشخاص يفتقرون إلى الأهلية تحوم حولهم الشبهات، فإن الوظائف المساعدة والاستشارية في البيت الأبيض لا يشترط في المعينين لشغلها أن يمروا على مجلس الشيوخ للحصول على مصادقة المجلس. وبناءً عليه اعتبر ترامب أن عدم اشتراط المصادقة من مجلس الشيوخ بمثابة استثناء من شبهة المحاباة، وفي ضوء ذلك أصدر قراره بتعيين صهره مستشارًا له في البيت الأبيض.
هذا القرار لم يكن مفاجئًا، إذ إن كوشنر كان من أقرب المستشارين المؤثرين على ترامب طوال حملته الانتخابية للرئاسة، ولكن خلفية كوشنر الدينية وروابط والده بقادة إسرائيل الحاليين والسابقين جعلت البعض يتساءل عما إذا كان كوشنر سيلعب دور «رجل اللوبي الإسرائيلي» في البيت الأبيض، غير أن مناصري إسرائيل ينظرون إلى جاريد كوشنر من زاوية عكسية باعتباره في رأيهم درع ترامب القوي وحامي حماه من اللوبي الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة.

رجل إسرائيل
قد لا يكون جاريد كوشنر صهر الرئيس المنتخب – الذي سيتولى منصبه رسميًا يوم 20 يناير (كانون الثاني) الحالي – الشخص النافذ اليهودي الوحيد في البيت الأبيض، إلا أنه بلا أدنى شك سيكون الأكثر تأثيرا من بين جميع مستشاري ترامب بسبب قربه العائلي منه، ومقدرته على الوصول إليه في أي لحظة يشاء دون سابق موعد.
أما تهمة المحاباة المتصلة باختيار كوشنر للعمل في البيت الأبيض فمن الصعب إثباتها. ذلك أن الصهر الشاب خريج جامعة هارفارد، أعرق جامعات أميركا، كما يحمل درجة الماجستير في إدارة الأعمال وكذلك الإجازة في القانون من جامعة نيويورك المرموقة. وهذا، مع أن منتقدي تعيينه يجادلون بأنه لم يضمن في الأساس القبول في جامعة هارفارد إلا بعدما تبرّع أبوه للجامعة بمبلغ مليونين ونصف المليون دولار. وتكرّر الأمر كذلك مع جامعة نيويورك إذ تبرع الأب للجامعة بثلاثة ملايين دولار قبل أن حصول ابنه على القبول فيها.

منتقم خجول... وابن وفي
من ناحية أخرى، على الرغم من أن كل مَن كَتب عن جاريد كوشنر أو قابله خرج بانطباع جيد عن هدوء الرجل ودماثة أخلاقه، فإن بعض المقربين منه يصفونه بأنه ميال إلى الانتقام، خصوصًا، بعد نجاحه في إبعاد حاكم ولاية نيوجيرسي كريس كريستي عن حميه الرئيس المنتخب بعدما كان كريستي أحد أبرز المرشحين لتولي منصب نائب الرئيس في بطاقة ترامب الانتخابية.
كذلك تسبب كوشنر في حرمان كريستي من لعب أي دور في فريق ترامب الانتقالي بعدما اختاره حموه مديرًا للفريق. ويعود سبب حقد كوشنر المفترض على كريستي أن الأخير كان يتولّى موقع المدعي العام في ولاية نيوجيرسي وهو من تولّى محاكمة أبيه تشارلز في التهم المنسوبة إليه. ومن بين التهم المخجلة إدانته بالاتفاق مع إحدى بائعات الهوى للإيقاع بزوج أخته، بعدما كان قد أعد العدة في أحد الفنادق لتصوير اللقاء بينها وبين المستهدف من أجل تحريض أخته لاحقًا على زوجها، لكن الخطة فشلت.
ويبدو أن منظر اعتقال «كوشنر الأب» كان له أثر كبير في نفسية «كوشنر الابن» لدرجة أن الأخير ألغى خططه للعمل في مجال المحاماة لأنه حسب ما صرح به لأكثر من صحيفة أميركية - لم يعد يرغب أن يعمل مدعيًا عامًا ويلحق الضرر بأي أسرة أو يسجُن أحد مثلما حدث لوالده المحامي. وكانت إجازة المحاماة قد سُحبت من والده في كل من ولايتي نيويورك ونيوجيرسي عقب إدانته.
وحسب ما قالته إيفانكا لوسائل إعلام أميركية فإن العلاقة بين زوجها ووالده هي علاقة صداقة ومحبّة غير عادية بين أب وأبنه. وتؤكد بعض المصادر الإعلامية أن جاريد أنفرد من بين جميع إخوته وأخواته بالحفاظ على زيارة والده أسبوعيًا في سجنه إلى أن تم الإفراج عنه. وتقول مصادر أخرى إن الأب استمر في إدارة أعمال شركاته من داخل سجنه، كما أنه بعد خروجه من السجن ظل المسؤول الرئيسي عن تسيير شركاته وليس الابن الذي ينسب إليه الفضل شكليًا.
ومثلما أجاد جاريد التعامل مع والده والاستفادة منه إلى أقصى حد فقد عرف أيضًا كيف يتعامل مع حميه و«رئيسه» ترامب ليستفيد من إلى أقصى حد.
ويجمع المقربون منهما أن جاريد كوشنر أصبح الرجل الهامس في أذن الرئيس الجديد وصاحب التأثير الكبير عليه. وعليه، يتوقع هؤلاء أن يلعب داخل ردهات البيت الأبيض دورًا مهمًا للغاية، وقد يتفوق على نائب الرئيس مايك بينس في نفوذه. وللعلم، اصطحب ترامب كوشنر معه إلى البيت الأبيض خلال لقائه مع الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما. وبالمناسبة، يتهم الديمقراطيون كوشنر بالتحايل على القانون الفيدرالي لمكافحة محاباة الأقارب، الصادر عام 1967، بالقول إنه لن يحصل على راتب مقابل عمله الاستشاري. غير أن المدافعين عن هذا التعيين يستدلون بقرار الرئيس السابق بيل كلينتون تعيين زوجته هيلاري في منصب رئيسة برنامجه للرعاية الصحية عام 1993.

لمحة عن نشأته
في أي حال، ومع تعدد النجاحات التي حققها جاريد كوشنر، ترى بعض المصادر الإعلامية الناقمة على ترامب والمقربين منه تصفه بأنه كان تلميذًا فاشلاً ومدللاً، وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة يهودية خاصة في مسقط رأسه بلدة ليفينغستون بولاية نيوجيرسي، وهي عمليًا إحدى ضواحي مدينة نيويورك. ولقد تزوج كوشنر من إيفانكا عام 2009 ولديهما حاليًا ثلاثة أطفال، وهما حريصان بشكل كبير على الظهور بصورة مثالية على شبكات التواصل الاجتماعي.
ومن نشاطاته المبكرة أنه قبل زواجه اشترى صحيفة «نيويورك أوبزرفر» عندما كان عمره 25 سنة فقط، وذلك مقابل مبلغ 10 ملايين دولار. وخلال الحملة الانتخابية جعلها المنبر الأول للدفاع عن ترامب خاصة عندما كان يتعلق الأمر بمعاداة السامية. وعمومًا، يوصف كوشنر بأنه هادئ في كلامه وخجول أمام الكاميرات. وسبق له التعهد بأنه سيتخلى عن أعماله الخاصة ليتولى مسؤولياته الجديدة. وأفادت تقارير بأن جاريد وإيفانكا وأطفالهما انتقلوا إلى منزل في أحد الأحياء الراقية العاصمة واشنطن، يتجاوز ثمنه 5 ملايين ونصف المليون دولار.

ما يتوقع منه
حول توجهات كوشنر السياسية المستقبلية، يقول مسؤولون في الفريق الانتقالي لترامب إن «صهر الرئيس» سيركز مبدئيًا في منصبه الجديد على السياستين التجارية والشرق أوسطية، وخصوصًا أن لوالده علاقات وثيقة بقادة إسرائيل الحاليين والسابقين.
وفي هذا السياق، قال ريتشارد بينتر، الذي عمل محامي البيت الأبيض للشؤون الأخلاقية في عهد جورج بوش الابن، في تصريح لوكالة «أسوشييتد برس» أن خيارات كوشنر لتولي منصب في البيت الأبيض خيارات محدودة بسبب ارتباطاته العائلية بالرئيس، لكن القانون لا يمنع كوشنر من العمل مستشارًا غير مدفوع الأجر، وثمة اتفاق عام على أن كوشنر سيلعب دورًا حاسمًا في تحديد شكل الرئاسة من خلال عمله مستشارًا لشؤون السياسة. وأخيرًا، تجدر الإشارة إلى أن علاقات كوشنر جيدة بشخصيات واسعة النفوذ مثل وزير الخارجية هنري كيسنجر، والقطب الإعلامي اليميني الملياردير روبرت ميردوخ. ومع أنه مثل حميه لم يشغل من قبل أي منصب حكومي، فهو يبدو الآن أهم من كثيرين تولوا مناصب عامة في حياتهم.



أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
TT

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)
Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

على خلفية ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة الهندية بذلت جهداً استثنائياً للتواصل مع الدول الأفريقية عبر زيارات رفيعة المستوى من القيادة العليا، أي الرئيس ونائب الرئيس ورئيس الوزراء، إلى ما مجموعه 40 بلداً في أفريقيا بين عامي 2014 و2019. ولا شك أن هذا هو أكبر عدد من الزيارات قبل تلك الفترة المحددة أو بعدها.

من ثم، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً رئيس الوزراء الهندي مودي إلى نيجيريا قبل سفره إلى البرازيل لحضور قمة مجموعة العشرين، تدل على أن زيارة أبوجا (في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي) ليست مجرد زيارة ودية، وإنما خطوة استراتيجية لتعزيز القوة. مما يؤكد على التزام الهند ببناء علاقات أعمق مع أفريقيا، والبناء على الروابط التاريخية، والخبرات المشتركة، والمنافع المتبادلة.

صرح إتش. إس. فيسواناثان، الزميل البارز في مؤسسة «أوبزرفر» للأبحاث وعضو السلك الدبلوماسي الهندي لمدة 34 عاماً، بأنه «من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتعزيز التعاون الدفاعي، وتعزيز التبادل الثقافي، تُظهِر الهند نفسها بصفتها لاعباً رئيسياً في مستقبل أفريقيا، في الوقت الذي تقدم فيه بديلاً لنهج الصين الذي غالباً ما يتعرض للانتقاد. إن تواصل الهند في أفريقيا هو جزء من أهدافها الجيوسياسية الأوسع نطاقاً للحد من نفوذ الصين».

سافر مودي إلى 14 دولة أفريقية خلال السنوات العشر الماضية من حكمه بالمقارنة مع عشر زيارات لنظيره الصيني شي جينبينغ. بيد أن زيارته الجديدة إلى نيجيريا تعد أول زيارة يقوم بها رئيس وزراء هندي لهذه الدولة منذ 17 عاماً. كانت الأهمية التي توليها نيجيريا للهند واضحة من حقيقة أن رئيس الوزراء الهندي مُنح أعلى وسام وطني في البلاد، وسام القائد الأكبر، وهو ثاني شخصية أجنبية فقط تحصل على هذا التميز منذ عام 1969، بعد الملكة إليزابيث الثانية؛ مما يؤكد على المكانة التي توليها نيجيريا للهند.

نجاح الهند في ضم الاتحاد الأفريقي إلى قمة مجموعة العشرين

كان الإنجاز الكبير الذي حققته الهند هو جهدها لضمان إدراج الاتحاد الأفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين، وهي منصة عالمية للنخبة تؤثر قراراتها الاقتصادية على ملايين الأفارقة. وقد تم الإشادة برئيس الوزراء مودي لجهوده الشخصية في إدراج الاتحاد الأفريقي ضمن مجموعة العشرين من خلال اتصالات هاتفية مع رؤساء دول مجموعة العشرين. وكانت جهود الهند تتماشى مع دعمها الثابت لدور أكبر لأفريقيا في المنصات العالمية، وهدفها المتمثل في استخدام رئاستها للمجموعة في منح الأولوية لشواغل الجنوب العالمي.

يُذكر أن الاتحاد الأفريقي هو هيئة قارية تتألف من 55 دولة.

دعا مودي، بصفته مضيف مجموعة العشرين، رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، إلى شغل مقعده بصفته عضواً دائماً في عصبة الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث صفق له القادة الآخرون وتطلعوا إليه.

وفقاً لراجيف باتيا، الذي شغل أيضاً منصب المدير العام للمجلس الهندي للشؤون العالمية في الفترة من 2012 - 2015، فإنه «لولا الهند لكانت مبادرة ضم الاتحاد الأفريقي إلى مجموعة العشرين قد فشلت. بيد أن الفضل في ذلك يذهب إلى الهند لأنها بدأت العملية برمتها وواصلت تنفيذها حتى النهاية. وعليه، فإن الأفارقة يدركون تمام الإدراك أنه لولا الدعم الثابت من جانب الهند ورئيس الوزراء مودي، لكانت المبادرة قد انهارت كما حدث العام قبل الماضي أثناء رئاسة إندونيسيا. لقد تأثرت البلدان الأفريقية بأن الهند لم تعد تسمح للغرب بفرض أخلاقياته».

التوغلات الصينية في أفريقيا

تهيمن الصين في الواقع على أفريقيا، وقد حققت توغلات أعمق في القارة السمراء لأسباب استراتيجية واقتصادية على حد سواء. بدأت العلاقات السياسية والاقتصادية الحديثة بين البر الصيني الرئيسي والقارة الأفريقية في عهد ماو تسي تونغ، بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في الحرب الأهلية الصينية. زادت التجارة بين الصين وأفريقيا بنسبة 700 في المائة خلال التسعينات، والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري لأفريقيا. وقد أصبح منتدى التعاون الصيني - الافريقي منذ عام 2000 المنتدى الرسمي لدعم العلاقات. في الواقع، الأثر الصيني في الحياة اليومية الأفريقية عميق - الهواتف المحمولة المستخدمة، وأجهزة التلفزيون، والطرق التي تتم القيادة عليها مبنية من قِبل الصينيين.

كانت الصين متسقة مع سياستها الأفريقية. وقد عُقدت الدورة التاسعة من منتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر (أيلول) 2024، في بكين.

كما زوّدت الصين البلدان الأفريقية بمليارات الدولارات في هيئة قروض ساعدت في بناء البنية التحتية المطلوبة بشدة. علاوة على ذلك، فإن تعزيز موطئ قدم لها في ثاني أكبر قارة من حيث عدد السكان في العالم يأتي مع ميزة مربحة تتمثل في إمكانية الوصول إلى السوق الضخمة، فضلاً عن الاستفادة من الموارد الطبيعية الهائلة في القارة، بما في ذلك النحاس، والذهب، والليثيوم، والمعادن الأرضية النادرة. وفي الأثناء ذاتها، بالنسبة للكثير من الدول الأفريقية التي تعاني ضائقة مالية، فإن أفريقيا تشكل أيضاً جزءاً حيوياً من مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث وقَّعت 53 دولة على المسعى الذي تنظر إليه الهند بريبة عميقة.

كانت الصين متسقة بشكل ملحوظ مع قممها التي تُعقد كل ثلاث سنوات؛ وعُقدت الدورة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني - الأفريقي في سبتمبر 2024. وفي الوقت نفسه، بلغ إجمالي تجارة الصين مع القارة ثلاثة أمثال هذا المبلغ تقريباً الذي بلغ 282 مليار دولار.

الهند والصين تناضلان من أجل فرض الهيمنة

تملك الهند والصين مصالح متنامية في أفريقيا وتتنافسان على نحو متزايد على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

في حين تحاول الصين والهند صياغة نهجهما الثنائي والإقليمي بشكل مستقل عن بعضهما بعضاً، فإن عنصر المنافسة واضح. وبينما ألقت بكين بثقلها الاقتصادي الهائل على تطوير القدرة التصنيعية واستخراج الموارد الطبيعية، ركزت نيودلهي على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والرعاية الصحية.

مع ذلك، قال براميت بول شاودهوري، المتابع للشؤون الهندية في مجموعة «أوراسيا» والزميل البارز في «مركز أنانتا أسبن - الهند»: «إن الاستثمارات الهندية في أفريقيا هي إلى حد كبير رأسمال خاص مقارنة بالصينيين. ولهذا السبب؛ فإن خطوط الائتمان التي ترعاها الحكومة ليست جزءاً رئيسياً من قصة الاستثمار الهندية في أفريقيا. الفرق الرئيسي بين الاستثمارات الهندية في أفريقيا مقابل الصين هو أن الأولى تأتي مع أقل المخاطر السياسية وأكثر انسجاماً مع الحساسيات الأفريقية، لا سيما فيما يتعلق بقضية الديون».

ناريندرا مودي وشي جينبينغ في اجتماع سابق (أ.ب)

على عكس الصين، التي ركزت على إقامة البنية التحتية واستخراج الموارد الطبيعية، فإن الهند من خلال استثماراتها ركزت على كفاءاتها الأساسية في تنمية الموارد البشرية، وتكنولوجيا المعلومات، والأمن البحري، والتعليم، والرعاية الصحية. والحقيقة أن الشركات الصينية كثيراً ما تُتهم بتوظيف أغلب العاملين الصينيين، والإقلال من جهودها الرامية إلى تنمية القدرات المحلية، وتقديم قدر ضئيل من التدريب وتنمية المهارات للموظفين الأفارقة. على النقيض من ذلك، يهدف بناء المشاريع الهندية وتمويلها في أفريقيا إلى تيسير المشاركة المحلية والتنمية، بحسب ما يقول الهنود. تعتمد الشركات الهندية أكثر على المواهب الأفريقية وتقوم ببناء قدرات السكان المحليين. علاوة على ذلك، وعلى عكس الإقراض من الصين، فإن المساعدة الإنمائية التي تقدمها الهند من خلال خطوط الائتمان الميسرة والمنح وبرامج بناء القدرات هي برامج مدفوعة بالطلب وغير مقيدة. ومن ثم، فإن دور الهند في أفريقيا يسير جنباً إلى جنب مع أجندة النمو الخاصة بأفريقيا التي حددتها أمانة الاتحاد الأفريقي، أو الهيئات الإقليمية، أو فرادى البلدان، بحسب ما يقول مدافعون عن السياسة الهندية.

ويقول هوما صديقي، الصحافي البارز الذي يكتب عن الشؤون الاستراتيجية، إن الهند قطعت في السنوات الأخيرة شوطاً كبيراً في توسيع نفوذها في أفريقيا، لكي تظهر بوصفها ثاني أكبر مزود للائتمان بالقارة. شركة الاتصالات الهندية العملاقة «إيرتل» - التي دخلت أفريقيا عام 1998، هي الآن أحد أكبر مزودي خدمات الهاتف المحمول في القارة، كما أنها طرحت خطاً خاصاً بها للهواتف الذكية من الجيل الرابع بأسعار زهيدة في رواندا. وكانت الهند رائدة في برامج التعليم عن بعد والطب عن بعد لربط المستشفيات والمؤسسات التعليمية في كل البلدان الأفريقية مع الهند من خلال شبكة الألياف البصرية. وقد ساعدت الهند أفريقيا في مكافحة جائحة «كوفيد – 19» بإمداد 42 بلداً باللقاحات والمعدات.

تعدّ الهند حالياً ثالث أكبر شريك تجاري لأفريقيا، حيث يبلغ حجم التجارة الثنائية بين الطرفين نحو 100 مليار دولار. وتعدّ الهند عاشر أكبر مستثمر في أفريقيا من حيث حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة. كما توسع التعاون الإنمائي الهندي بسرعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت البلدان الأفريقية هي المستفيد الرئيسي من برنامج الخطوط الائتمانية الهندية.

قالت هارشا بانغاري، المديرة الإدارية لبنك الهند للاستيراد والتصدير: «على مدى العقد الماضي، قدمت الهند ما يقرب من 32 مليار دولار أميركي في صورة ائتمان إلى 42 دولة أفريقية، وهو ما يمثل 38 في المائة من إجمالي توزيع الائتمان. وهذه الأموال، التي تُوجه من خلال بنك الهند للاستيراد والتصدير، تدعم مجموعة واسعة من المشاريع، بما في ذلك الرعاية الصحية والبنية التحتية والزراعة والري».

رغم أن الصين تتصدر الطريق في قطاع البنية التحتية، فإن التمويل الصيني للبنية التحتية في أفريقيا قد تباطأ بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. برزت عملية تطوير البنية التحتية سمةً مهمة من سمات الشراكة التنموية الهندية مع أفريقيا. وقد أنجزت الهند حتى الآن 206 مشاريع في 43 بلداً أفريقياً، ويجري حالياً تنفيذ 65 مشروعاً، يبلغ مجموع الإنفاق عليها نحو 12.4 مليار دولار. وتقدم الهند أيضاً إسهامات كبيرة لبناء القدرات الأفريقية من خلال برنامجها للتعاون التقني والتكنولوجي، والمنح الدراسية، وبناء المؤسسات في القارة.

وتجدر الإشارة إلى أن الهند أكثر ارتباطاً جغرافياً من الصين بالقارة الأفريقية، وهي بالتالي تتشاطر مخاوفها الأمنية أيضاً. وتعتبر الهند الدول المطلة على المحيط الهندي في افريقيا مهمة لاستراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، ووقّعت الهند مع الكثير منها اتفاقيات للدفاع والشحن تشمل التدريبات المشتركة. كما أن دور قوات حفظ السلام الهندية موضع تقدير كبير.

يقول السفير الهندي السابق والأمين المشترك السابق لشؤون أفريقيا في وزارة الخارجية، السفير ناريندر تشوهان: «إن الانتقادات الموجهة إلى المشاركة الاقتصادية للصين مع أفريقيا قد تتزايد من النقابات العمالية والمجتمع المدني بشأن ظروف العمل السيئة والممارسات البيئية غير المستدامة والتشرد الوظيفي الذي تسببه الشركات الصينية. ويعتقد أيضاً أن الصين تستغل نقاط ضعف الحكومات الأفريقية، وبالتالي تشجع الفساد واتخاذ القرارات المتهورة. فقد شهدت أنغولا، وغانا، وغامبيا، وكينيا مظاهرات مناهضة للمشاريع التي تمولها الصين. وهناك مخاوف دولية متزايدة بشأن الدور الذي تلعبه الصين في القارة الأفريقية».

القواعد العسكرية الصينية والهندية في أفريقيا

قد يكون تحقيق التوازن بين البصمة المتزايدة للصين في أفريقيا عاملاً آخر يدفع نيودلهي إلى تعزيز العلاقات الدفاعية مع الدول الافريقية.

أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في الخارج في جيبوتي، في القرن الأفريقي، عام 2017؛ مما أثار قلق الولايات المتحدة؛ إذ تقع القاعدة الصينية على بعد ستة أميال فقط من قاعدة عسكرية أميركية في البلد نفسه.

تقول تقارير إعلامية إن الصين تتطلع إلى وجود عسكري آخر في دولة الغابون الواقعة في وسط أفريقيا. ونقلت وكالة أنباء «بلومبرغ» عن مصادر قولها إن الصين تعمل حالياً على دخول المواني العسكرية في تنزانيا وموزمبيق الواقعتين على الساحل الشرقي لأفريقيا. وذكرت المصادر أنها عملت أيضاً على التوصل إلى اتفاقيات حول وضع القوات مع كلا البلدين؛ الأمر الذي سيقدم للصين مبرراً قانونياً لنشر جنودها هناك.

تقليدياً، كان انخراط الهند الدفاعي مع الدول الأفريقية يتركز على التدريب وتنمية الموارد البشرية.

في السنوات الأخيرة، زادت البحرية الهندية من زياراتها للمواني في الدول الأفريقية، ونفذت التدريبات البحرية الثنائية ومتعددة الأطراف مع الدول الأفريقية. من التطورات المهمة إطلاق أول مناورة ثلاثية بين الهند وموزمبيق وتنزانيا في دار السلام في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022.

هناك مجال آخر مهم للمشاركة الدفاعية الهندية، وهو الدفع نحو تصدير معدات الدفاع الهندية إلى القارة.

ألقى التركيز الدولي على توسع الوجود الصيني في أفريقيا بظلاله على تطور مهم آخر - وهو الاستثمار الاستراتيجي الهندي في المنطقة. فقد شرعت الهند بهدوء، لكن بحزم، في بناء قاعدة بحرية على جزر أغاليغا النائية في موريشيوس.

تخدم قاعدة أغاليغا المنشأة حديثاً الكثير من الأغراض الحيوية للهند. وسوف تدعم طائرات الاستطلاع والحرب المضادة للغواصات، وتدعم الدوريات البحرية فوق قناة موزمبيق، وتوفر نقطة مراقبة استراتيجية لمراقبة طرق الشحن حول الجنوب الأفريقي.

وفي سابقة من نوعها، عيَّنت الهند ملحقين عسكريين عدة في بعثاتها الدبلوماسية في أفريقيا.

وفقاً لغورجيت سينغ، السفير السابق لدى إثيوبيا والاتحاد الأفريقي ومؤلف كتاب «عامل هارامبي: الشراكة الاقتصادية والتنموية بين الهند وأفريقيا»: «في حين حققت الهند تقدماً كبيراً في أفريقيا، فإنها لا تزال متخلفة عن الصين من حيث النفوذ الإجمالي. لقد بذلت الهند الكثير من الجهد لجعل أفريقيا في بؤرة الاهتمام، هل الهند هي الشريك المفضل لأفريقيا؟ صحيح أن الهند تتمتع بقدر هائل من النوايا الحسنة في القارة الأفريقية بفضل تضامنها القديم، لكن هل تتمتع بالقدر الكافي من النفوذ؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات، سيما في سياق القوى العالمية الكبرى كافة المتنافسة على فرض نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، فإن عدم القدرة على عقد القمة الرابعة بين الهند وأفريقيا حتى بعد 9 سنوات من استضافة القمة الثالثة لمنتدى الهند وأفريقيا بنجاح في نيودلهي، هو انعكاس لافتقار الهند إلى النفوذ في أفريقيا. غالباً ما تم الاستشهاد بجائحة «كوفيد - 19» والجداول الزمنية للانتخابات بصفتها أسباباً رئيسية وراء التأخير المفرط في عقد قمة المنتدى الهندي الأفريقي».