أفضل 100 رواية في كل العصور «تتبهر» بأربع روايات عربية

صحف غربية ومواقع إلكترونية أدبية تنشر قوائم مثيرة

أفضل 100 رواية في كل العصور «تتبهر» بأربع روايات عربية
TT

أفضل 100 رواية في كل العصور «تتبهر» بأربع روايات عربية

أفضل 100 رواية في كل العصور «تتبهر» بأربع روايات عربية

في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، أطلقت «ميوز لِيست»، قائمة من مائة رواية تتصدر «ما أنجز في كل الأزمنة». وقال موقعها الإلكتروني، بأن الاختيار جرى بناء على تقييمات ساهم فيها قراء، انتقوا هذا العام، قائمة أضفوا عليها نكهة عالمية، وحافظوا في الوقت عينه، على المكانة التي كانت دائما للأعمال الروائية الكلاسيكية، التي تصدرت، في سنوات سابقة، معظم القوائم التي صدرت، وخصوصا القائمة المشتركة لصحيفتي «الغارديان» و«الأوبزرفر» البريطانيتين، والتي ساهمت فيها مكتبة «ووتر ستون» المعروفة، وأطلقت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتصدرتها رواية ميغويل دي سيرفانتس، الشهيرة دون كيخوته.
«ميوز ليست» فاجأت الجميع بالنكهة العالمية التي اختارتها لقائمتها، ما لم يسبق لقائمة أخرى قبلها أن فعلته. تبلت «ميوز ليست» قائمتها بأربع روايات عربية، حسب قولها، لفتح شهية قراء الإنجليزية على مذاق آخر غير ما تعودوا عليه. والروايات الأربع هي: ثلاثية نجيب محفوظ وتحفته (السكرية 1957. قصر الشوق 1957، وزقاق المدق 1958)، التي «سجل فيها الكاتب أصوات شعب كان عليه أن يواجه بقواه الخاصة، الخوف والقلق من أخذ زمام مصيره بيديه»، كما كتب جويل ويتني محقا، في موقع «بوك بيست»، لافتا إلى أن محفوظ، وهو يتناول ثورة 1919. كأنما كان يتحدث عما يجري في مصر اليوم. أما الرواية الثانية فكانت «باب الشمس» لإلياس خوري، والثالثة هي رائعة المصري، إبراهيم عبد المجيد «لا أحد ينام في الإسكندرية»، وأعتقد أنها أفضل أعماله، والرابعة هي «مديح الكراهية» للسوري خالد خليفة.
هذا مفرح. لدينا للمرة الأولى أربع روايات في قائمة أفضل مائة رواية في «كل الأزمنة»، مع أن الروائيين العرب، ظلّوا خارج هذا التقدير المعنوي في كل الأزمنة، وكل العصور، وكل القوائم على تنوعها واختلاف القائمين عليها تذوقا واختيارا وإعدادا. تشهد على هذا، قائمة «الغارديان» و«الأوبزرفر» التي ساهمت فيها مكتبة «ووتر ستون» البريطانية الشهيرة، ونشرت في أكتوبر المنصرم، أي قبل أسابيع فقط. وكذلك قائمة «مودرن ليبراري» التي تصدرتها رواية جيمس جويس: «أوليسيس».
اعتراف جميل من قراء الرواية في الغرب وصناعها بالروائيين العرب كشركاء معاصرين. تنوع القائمة يقتصر على اختيار روايات عربية، ولكنها شملت أيضا، روايات لكتاب من جنسيات مختلفة كتبوا بالإنجليزية. لكن «تكريم» الرواية العربية هذا، يترك أسئلة كثيرة، أهمها: متى قرئت هذه الروايات؟ وعلى أي مستوى؟ ومن قرأها ورشّحها، خصوصا أن بعضها ترجم في وقت ليس ببعيد، ولا يسمح بانتشارها على نطاق يجند لها مرشِّحون يحملونها إلى القائمة.
نجيب محفوظ حائز على جائزة نوبل. وهذه قدّمته، من دون شك، كروائي للقارئ في الغرب. لكن هل قرأ الغرب نجيب محفوظ فعلا؟ أم اختاره القراء لأنهم سمعوا به أكثر من غيره؟ أم هي عظمة الثلاثية فعلا التي دفعت المساهمين من غير القراء في اختيار القائمة؟
آخر أعمال إلياس خوري، روايته «سينالكول»، وصلت إلى القائمة الطويلة لبوكر العربية 2013. وسبق لخوري أن وصل برواية أخرى إلى القائمة نفسها. لكنه وصل بـ«باب الشمس» إلى ما لم يصله البوكريون عموما، باستثناء السوري خالد خليفة الذي شاركه في قائمة المائة برواية قيل عنها إنها «كأنها كتبت عن سوريا اليوم»، معيارا يشبه ما استخدمه جون ويتني في «تفسير» اختيار محفوظ. فأين تكمن النكهة المضافة التي كانت سببا لمفاجأتنا؟ وما دام للقائمة نكهة عربية، فلماذا لم يتذكر القائمون عليها «موسم الهجرة إلى الشمال» مثلا، وغيرها كثير؟ وأي الروايات سيخرج من القائمة ليحل الطيب صالح مكانه؟
ثم، ما هي الرواية «العظيمة» التي تستحق أن تكون «رواية كل زمان» وفقا لما أدرجت قائمة «الغارديان - الأوبزرفر» تحته؟ أهي تلك التي أثرت فينا أم فيما سبقنا من أجيال، أم تلك التي نأخذ تأثيرها معنا عبر السنين، نقرأ الكثير ثم نعود لنتحسس مشاعرنا التي احتفظنا بها لها؟ أم ما فرضه علينا ذوق آخر له نكهة الحاضر. فجيلنا (الستينات)، على سبيل المثال، تربى في زمن آخر، على ثلاثية محفوظ وأعماله الأخرى. لكنه تربى أيضا، على أعمال الروسي ديسويفسكي، الذي لا أنسى أيا من رواياته (الجريمة والعقاب ضمن القائمة، لكن لماذا لا تكون الإخوة كارامازوف مثلا؟) وتربينا على جاك لندن و«العقب الحديدية»، ووليم فوكنر و«الصخب والعنف»، وجون شتاينبيك و«عناقيد الغضب»، ولويس باسترناك و«دكتور زيفاغو»، وليو تولستوي و«الحرب والسلام»، ومارسيل بروست و«البحث عن الزمن الضائع»، وجيمس جويس و«صورة الفنان شابا». حقا، لم نكن قرأنا امبرتو ايكو، وتعرّفنا على «اسم الوردة» في شبابنا (ليست في القائمة)، ولم يكن جي. إم. كويتزي «في انتظار البرابرة» حتى حصل على جائزة «مان بوكر» مرتين، ونوبل أيضا، فأخذه فوزه إلى قائمة المائة. ولا خوسيه ساراماغو، أو توني موريسون (لها رواية في القائمة)، ولا غابريل غارثيا ماركيز (مائة عام من العزلة متضمنة)، ولا غونتر غراس (في القائمة روايته «الطبول العشرة»). هؤلاء وعدد كبير آخر جاءونا في زمن اختلفت فيه الرواية، ليس لاختلاف الزمن فقط بل لاختلاف الذوق والذائقة وتطور أشكال الرواية وأساليبها وتقنياتها، وتشعب القضايا التي تتناولها، وتشظيها أحيانا تماهيا مع عصر تمزقه المطامح والمطامع والجشع والصراعات الإقليمية والحروب ونزاعات الطوائف القومية والدينية، وتمزق الإنسان نفسه، الذي تتعرض حقوقه لانتهاكات فظيعة. ثم ألا نفتقد زوربا اليوناني ورائعة نيكوس كازانتزاكس الأخرى «المسيح يصلب من جديد»، وثالثتهما «الإخوة الأعداء»؟ ما كان عظيما قبل مائة سنة، أو حتى عشر، لم يعد كذلك. هذه نكهة أخرى هي نفحات كتاب حاضرنا الذي قد يمتد لعقود، أي زمن جيلنا وثلاثة أجيال أو أربعة أخرى من بعده. ومع هذا كله، بقيت كلاسيكيات الرواية تتصدر غالبية القوائم التي تُقدّم لنا تباعا، إلى جانب الروايات الحديثة أو المعاصرة، والكثير مما في القائمة جديد علينا، وعلى العرب عموما، إذ لم يترجم الكثير منه.
لكن، كيف سيكون شكل قائمة ما لو حذفت منها الروايات الكلاسيكية؟
عام 2009. أطلقت «التايمز» البريطانية قائمة «أفضل روايات الستين سنة الماضية». واعتمدت على قرائها الذي بعثوا لها بكتابهم المفضل من بين ما صدر خلال ستين سنة سبقت استفتاءهم. وجاءت «قتل طائر محاكي» للأميركية هاربر لي، وهي روايتها الوحيدة التي صدرت عام 1960. وحازت على جائزة بولتزر عام 1961. في حينه كان أهم ما أجمع عليه المصوتون، هو ربطهم بين أحداث الرواية وما كان يجري في خارجها، أي بقضايا العنصرية في أميركا ضد السود التي كانت في مركز اهتمام الأميركيين والعالم في ستينات القرن الماضي. هذا عنصر آخر من عناصر ارتباط ذائقة القارئ بحكمه على ما يقرأ أيضا.
في كل الأحوال، تذكرنا هذه القوائم، اتفقنا معها أو اختلفنا، بقراءة ما لم نقرأه. وحتى ذلك الحين، يمكن التأكيد على أن القائمة هي جائزة بطريقة ما (دعاية مجانية وزيادة مبيعات محتملة)، وفي الوقت عينه، السؤال عن المعايير التي بموجبها أصبح ما في القائمة من الروايات «أفضل مائة؟»
إجابة وحيدة، قرأتها في مقال لجينيفر إيغان، بعنوان: «لماذا أكتب»، من ترجمة ريوف خالد، منشورة في موقع «آراء»، تقول ايغان: «لقد حكّمت جوائز كبرى، وأعرف كيف يتم هذا. فالأمر يعود إلى الذوق، ومن ثم الحظ. إذا حدث ووصلت للقائمة النهائية، فهذا لأنك محظوظ بما يكفي لتكتب شيئا يروق لحكام معينين».
لقد راق العرب الأربعة لحكام قائمة «ميوز ليست» إذن.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.