رولز بين الأخلاق والسياسة

آمن أن النظرية السياسية الليبرالية يجب أن تواجه حقيقة جوهرية وهي حقيقة التنوع

رولز بين الأخلاق والسياسة
TT

رولز بين الأخلاق والسياسة

رولز بين الأخلاق والسياسة

الطريقة الكلاسيكية لرسم نظرية سياسية يراد بها أن تكون عادلة هي أن يتم رسمها لتكون تطبيقا لنظرية أخلاقية أولية. بمعنى أن تكون النظرية السياسية عبارة عن استنباط من مبادئ أخلاقية سابقة عليها ومؤسسة لها. سياسات الدول الدينية نموذج مناسب لتوضيح هذه الصيغة. السياسة الدينية هي عملية تطبيق خاضعة لقواعد ومبادئ دينية سابقة وراسخة. صحة وسلامة النظرية السياسية هنا خاضعة لمدى موائمتها للمبادئ والقيم الدينية العليا. الفلسفة يمكن أن تكون مرجعا أخلاقيا للنظرية السياسية أيضا. على سبيل المثال السياسة الماركسية تخضع لما تم إقراره مسبقا في الفلسفة الماركسية لمفاهيم الخير والحق والعدل. يمكن أن نمد الأمثلة لسياقات مختلفة كثيرة. لكن جون رولز لا يريد أن يؤسس نظريته في العدالة على هذا المنهج.
كفيلسوف ليبرالي يعتقد رولز أن النظرية السياسية الليبرالية يجب أن تواجه حقيقة جوهرية في كل المجتمعات الديمقراطية وهي حقيقة التنوع. المجتمعات الديمقراطية تحتوي أفرادا مختلفين في خلفياتهم الدينية والعرقية والجنسية والفلسفية.. إلخ. هذه الحقيقة تفرض على نظرية العدالة أن تبحث عن مبادئ تحظى بالقبول من أفراد هذا التنوع. بمعنى أن رولز يبحث عن نظرية للعدالة يمكن أن يقر بها المسيحي واليهودي والمسلم والبوذي والملحد والعلماني والرجل والمرأة والأبيض والأسود إلى آخر عوامل التنوع البشري. هذا تحد هائل لأي نظرية سياسية، ولكن رولز يعتقد أنه ممكن ولكن بشروط. أول هذه الشروط أن تكون هذه النظرية سياسية لا ميتافيزيقية شاملة. بمعنى أنها نظرية خاصة بعمل مؤسسات البنية الأساسية ولا تتدخل في سلوك وقرارات الناس الخاصة. بمعنى أنها نظرية متعلقة بالمكونات الأساسية للمجال العام وتترك المجال الخاص لأصحابه. هذه المساحة تترك مجالا واسعا للتنوع والاختلاف وضريبتها أن تتخلى النظرية عن ادعاء تقديم مفهوم شامل للخير والحق ينطبق على سلوك الأفراد كما ينطبق على سلوك مؤسسات الدولة. هذه المعادلة قد توفر معدلا أكبر من الانتماء من فئات المجتمع المختلفة للقانون العام. هذا الانتماء يمثل مفهوما جوهريا عند رولز، فنظرية العدالة يجب أن لا تقوم على ما يسميهmodus Vivendi أي الاتفاق القائم على توازن معين للقوى. هذا التوازن يمكن أن يختل في يوم من الأيام ليختل معه استقرار المجتمع. الاستقرار الذي يبحث عنه رولز هو الاستقرار المبني على قواعد سليمة. هذا الاستقرار يتأسس على إجماع ناتج عن منطلقات مختلفة ومتنوعة. بمعنى أن فئات المجتمع المختلفة تجد في هذه الصيغة من نظرية العدالة قبولا يجعل منها ملتزمة ومقتنعة بالسير عليها وتطبيقها بصدق وأمانة.
تصور رولز للمجتمع يقوم على أنه مجتمع قائم على التعاون. أي أنه دون تحقيق شروط عادلة للتعاون بين أفراد هذا المجتمع فإنه لا يمكن الوصول إلى نظرية حقيقية للعدالة. الأفراد هنا يحضرون داخل علاقاتهم الاجتماعية وفي حالة تواصل مع الآخرين، وفي هذا السياق تحديدا ترتكز قدرتهم على تحقيق تعاون مؤسس على مبادئ العدالة. بحسب رولز يحتاج الفرد إلى قدرتين أساسيتين للقيام بهذا الدور. القدرة الأولى هي امتلاك حس العدالة، أي قدرة الفرد على فهم وتطبيق والانطلاق من مبادئ للعدالة تحدد الشروط العادلة للتعاون الاجتماعي. القدرة الثانية هي القدرة على تكوين مفهوم للخير. أي قدرة الفرد على أن يرسم مخططا لحياته مبنيا على تصور معين للخير والحق. القدرة الأولى تتضمن كذلك قدرة الفرد على إدراك أن الآخرين لهم الحق ذاته في امتلاك وتطبيق مفاهيمهم الخاصة للخير والحق. هنا تصبح المعادلة: كيف يمكن أن أعيش وفقا لمفهومي للخير وتعيش أنت كذلك وفقا لتصورك للخير؟ وبما أن مفاهيم الناس للخير والحق تتعارض فما يراه أحدهم حقا يراه الآخر باطلا فإن الاستعداد للتنازل والتسوية والوصول إلى مساحات وسطى هو أمر جوهري وقدرة أساسية لكل مواطن داخل علاقات اجتماعية محكومة بنظرية للعدالة.
هذه المعادلة التي تراهن على عدم الانطلاق من مفهوم ميتافيزيقي أو أخلاقي شامل تظهر في منطلقات تأسيس رولز لنظريته في العدالة وتحديدا من خلال الموقف الأصلي وحجاب الجهل. الموقف الأصلي هو الموقف الذي يفترض أن يتحقق فيه التعاقد على مبادئ العدالة. والأفراد فيه يقعون خلف حجاب الجهل، الذي يحجب عنهم مواقعهم الدقيقة في معادلة القوى داخل المجتمع ولكنهم يعلمون في ذات الوقت أنهم ينتمون لديانات وأعراق وأجناس وطبقات مختلفة. الفرد هنا يعلم أن هناك قويا وضعيفا وفقيرا وغنيا ومؤمنين بأديان مختلفة وغير مؤمنين، ولكنه لا يعلم إلى أي جماعة ينتمي تحديدا. هذا الموقف، يراهن رولز، سيدفع كل أطراف التعاقد لوضع مبادئ تجعل من حياتهم عادلة حتى لو كانوا ضمن الطبقات والجماعة الأقل حظا. حجاب الجهل هذا يدفع الفرد، وهو يفكر في مصلحته الذاتية أولا، أن يفكر في الجميع وخصوصا المتضررين والأقل نفعا من الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحالي. الفرد خلف حجاب الجهل يعلم أنه يمكن أن يكون امرأة، ولذا يحرص على أن تكون مبادئ العدالة منصفة للمرأة. أيضا الفرد يعلم أنه يمكن أن يكون فقيرا ولذا يحرص على إنصاف الفقراء. هذا الفرد يعلم أنه يمكن أن يكون من المؤمنين بدين الأقلية ولذا فهو يحرص على إنصاف الأقليات. مبادئ العدالة الرولزية تقوم على هذا التفكير الفردي والجماعي والذي يراهن رولز على أنه وإن كان لا يتعارض مع امتلاك الأفراد لمنظومات ورؤى مختلفة للحياة والخير والشر إلا أنه لا يتأسس على هذه المنظومات بقدر ما يتأسس على الاشتغال على هدف توفير شرط سياسي يجعل من وجود كل هؤلاء المختلفين بشكل منصف كمواطنين أحرار ومتساوين ممكنا. معادلة رولز هذه تمكنت من جلب اهتمام هائل من فلاسفة السياسية وبالتالي جلبت انتقادات واسعة ستكون موضوعا للمقالات القادمة.



ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان
TT

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

إدوارد سعيد

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

جامعة كولمبيا، نيويورك.