ينهي إخلاء مدينة حلب من المقاتلين المعارضين والمدنيين المؤيدين للثورة السورية 4 سنوات ونيفاً من التجاذب وشد الحبال، عسكريًا وسياسيا، بين النظام السوري ومعارضيه للسيطرة على العاصمة الاقتصادية لسوريا، وثاني كبرى مدنها. ويتيح هذا التطور المأساوي للنظام تثبيت نفوذه في «سوريا المفيدة» وفق أولى الخرائط التي ظهرت في عام 2014، التي تمتد من مدينة درعا جنوبًا، إلى مدينة حلب شمالاً. ومع أن حلب انضمت إلى الثورة متأخرة، مقارنة بمدن أخرى في محافظات ريف دمشق ودرعا وحمص وحماه ودير الزور، فإن دورها السياسي في الأزمة السورية، كان محوريًا. بل لعله كان الأبرز بين أدوار المدن السورية الأخرى، بالنظر إلى كونها تمثل عمقًا استراتيجيًا لتركيا، المتهمة اليوم بأنها فاوضت روسيا على إخراج المعارضين السوريين منها مقابل مكاسب أخرى متعلقة بمنع قيام «كانتون» كردي انفصالي على حدودها الجنوبية. أضف إلى ذلك أن حلب تمثل الحلقة الأخيرة في خريطة «سوريا المفيدة» التي تتيح للنظام تحسين قدرته الاقتصادية في حال استعاد السيطرة الكافية لرفده بالقدرة على إعادة تشغيل مصانعها، إلى جانب أدوار أخرى، أهمها الدور العسكري، حيث ستكون المدينة نقطة انطلاق عسكرية باتجاه المدن والمحافظات المحيطة.
يكشف خروج مدينة حلب المبكر من تحت علم الثورة السورية، عن حجم الدور الذي تلعبه المدينة العريقة في تحديد سياق الثورة، لجهة تثبيتها ونجاحها، أو لجهة إبقاء النظام السوري في مرحلة انتقالية؛ ذلك أن المدينة، الغنية بتنوعها الديموغرافي، تحتل أيضًا موقعًا استراتيجيًا مهمًا يستطيع قلب الموازين العسكرية عبر قطع خطوط الدعم عن المعارضة من الأراضي التركية، وإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية في البلاد، على الرغم من شكوك تحيط بقدرة النظام على ذلك.
تبدل الأجندات الإقليمية
سياق المعركة على حلب، يشير بما لا يحمل الشك إلى تغييرات سياسية إقليمية، كان يستحيل على النظام من دونها أن يبسط سيطرته عليها. وتتحدث الوقائع عن تحولات في المواقف التركية التي كانت قبل دخول العامل الروسي المباشر إلى الميدان السوري، أبرز العوامل المؤثرة في تمكين المعارضة من السيطرة على حلب.
الدكتور سمير التقي، الباحث السياسي السوري والخبير الاستراتيجي، يرى أن سيطرة النظام على حلب «ناتجة عن تبدل في التحالفات الإقليمية»، من غير أن يحمّل تركيا مسؤولية تمكين النظام من دخول المدينة، ذلك أن أنقرة «لا تستطيع مواجهة روسيا وحدها بعدما أدار الغرب ظهره لها، بينما منحت الولايات المتحدة روسيا الضوء الأخضر في سوريا».
ويوضح التقي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك شرطين يسقطان حلب بيد النظام، هما «سماح الغرب لروسيا بقتل آلاف بالقصف، وانتهاء الحملة العسكرية في الموصل وتوجه ميليشيات الحشد الشعبي العراقي إلى حلب»، مشيرًا إلى أن الشرطين «تحققا مؤخرًا، وهو ما ساهم في سقوط حلب».
وإذ يرفض إلقاء اللوم على تركيا، يقول التقي إن أنقرة «تتعرّض لضغوط هائلة من قبل الغرب وأميركا؛ فحين تلقت تهديدات من روسيا، ووصل التوتر بين الطرفين إلى مستويات قياسية، لم يقف الغرب إلى جانبها، وهي لا يمكن لها الصمود بوجه روسيا وحدها». ثم يشرح أن التبدل في السياسة التركية حيال حلب «جاء في إطار الحد من الأضرار، وليس تبدلاً استراتيجيًا حيال موقفها تجاه الأسد»، لافتًا في الوقت نفسه إلى أن الاستراتيجية التركية الثابتة «هي منع قيام دولة كردية على حدودها». لذلك، يضيف التقي: «يمكن القول إن تركيا تمكنت من الحصول على ضمانات بأن روسيا ستقبل التدخل التركي بالشمال السوري، لمنع قيام كانتون كردي، مقابل عدم حصول صدام تركي - روسي»، علما أن الصدام بين الطرفين كان محتملاً إثر تصاعد التوتر على خلفية إسقاط الطائرة الروسية.
مكاسب النظام
من ناحية ثانية، يروّج النظام السوري إلى «انتصار» حققه في حلب، ويغدق الوعود على مناصريه بأن المدينة ستعود إلى سابق عهدها، رغم تراجع إمكانياته المادية التي تمكنه من إنعاش المدينة، وإعادة إعمارها، وبث النبض في مدنها الصناعية. فضلاً عن ذلك، فإن دخول العامل الأجنبي في حلب، وهو الميليشيات الرديفة التي تقاتل إلى جانب النظام، يشكل العقدة الأبرز في عودتها إلى الحياة.
وهنا يشكك التقي في أن يكون النظام قادرًا على إدارة المدينة، أو إعادة تفعيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها. إذ إنه يشير إلى أن «المشكلة الرئيسية التي يعانيها النظام الآن، هي الحاضنة الشعبية وإدارة المناطق في ظل سيطرة الميليشيات الطائفية على مفاصل الحياة في الأحياء». ويوضح أن «المناطق الموالية للنظام، باتت الآن متوجسة وقلقة من دخول الميليشيات الطائفية إليها»، مستطردًا: «المعركة لن تنتهي الآن؛ فهناك سيولة كبيرة بالوضع الداخلي والإقليمي، وثمة ملامح تنازع روسي إيراني»، مشددًا على أن «كل العوامل لا توحي بأن هناك استقرارًا على المدى القريب».
عقدة عسكرية
الحقيقة أن حلب مثلت على الدوام أهمية كبرى بالنسبة للنظام؛ إذ إن حافظ الأسد اعتبر الحضور السوري سياسيا واقتصاديا وتاريخيا وثقافيًا كله موجودا في حلب إلى جانب دمشق، وهو ما دفعه لتكثيف حضوره الأمني في المدينة، وبنى تحالفات اقتصادية ومالية، وأخضعهما لقوانين جديدة هيمنت عليها المخابرات وأجهزة السلطة.
واليوم، ينطلق النظام في ترويجه للانتصار في حلب، من نقطة ميدانية مهمة جدًا، شكلت أبرز العقد العسكرية التي مكنت أحد الطرفين من إحكام السيطرة على المدينة. ولطالما انقسمت السيطرة في مدينة حلب منذ صيف 2012، بين قوات النظام وقوات المعارضة، إذ كانت تسيطر الأخيرة على الأحياء الشرقية وجزء من الأحياء الشمالية، وفي حين تحولت مناطق حلب القديمة إلى نقاط اشتباك مستمرة، احتفظ النظام بالسيطرة على جزء من المناطق الجنوبية والأحياء الغربية التي أحاطها بقبضة عسكرية محكمة، لم تُخرق إلا مرتين منذ الصيف الماضي، واستطاع إغلاق تلك المنافذ بمساعدة الميليشيات المتحالفة معه.
وطوال فترة الحرب، لم تستقر خريطة النفوذ على شكل واحد؛ إذ يقول مصدر معارض في الداخل لـ«الشرق الأوسط» إن مدينة حلب كان «يستحيل أن تشهد هدوءًا» نظرًا إلى الخريطة المتغيرة يوميًا على صعيد الاقتتال فيها، وتقدم قوات المعارضة من جهات وانحسار تواجدها من جهات أخرى. لكن المدينة «كانت تمتاز بجانب إيجابي بالنسبة لنا، وهو أن مساحتها كبيرة جدًا، ما يعني أن قوات النظام لا يمكن أن تحاصرها أبدًا، خلافًا لما يشيعه النظام بأنه قادر على إطباق حصار عليها، وكان ذلك حتى أواخر عام 2014، إلى حين تدخل الميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، ورفدته بأعداد ضخمة من المقاتلين. ومع ذلك، لم يستطع النظام محاصرة حلب، إلا في أغسطس (آب) الماضي». وحسب المصدر المعارض، إن النظام «كان طوال ثلاث سنوات عاجزًا عن تنفيذ ذلك المخطط بسبب فقدانه الكادر البشري وكثيرا من الذي يحتاجه لخنق المدينة ومحاصرتها»، علما أن مساحتها تعادل 5 أضعاف مساحة الغوطة الشرقية في دمشق التي يحاصرها النظام.
التبدل في الوقائع الميدانية في حلب، دفع المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في عام 2014 إلى التسليم بالأمر الواقع، معتبرًا أن حلب كانت النموذج الأمثل لتطبيق اقتراح تجميد القتال، حين قال بعد لقائه أعضاء مجلس الأمن الدولي إنه ليست لديه خطة سلام وإنما «خطة تحرك» لتخفيف معاناة السكان بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب. وأضاف المبعوث الأممي، آنذاك، أن مدينة حلب المقسمة قد تكون «مرشحة جيدة» لتجميد النزاع فيها، مشددًا على أنه «ينبغي أن يحصل شيء يؤدي إلى تجميد النزاع في تلك المنطقة ويتيح الفرصة لتحسين الوضع الإنساني وللسكان لكي يشعروا بأنه، على الأقل هناك، لن يحدث مثل هذا النزاع».
اللحاق بركب الثورة
في يوليو (تموز) 2012، بدأت الثورة بشكل جدّي طرق أبواب حلب؛ إذ سيطرت فصائل المعارضة على حي صلاح الدين، الذي كان أول حي يخرج عن سيطرة النظام، وسرعان ما تلته أحياء الشعار وطريق الباب، وغيرها من المناطق الشعبية الفقيرة. وللعلم، توسعت الأحياء الشرقية لحلب في السنوات التي سبقت الحرب نتيجة النزوح من الأرياف إلى المدينة، والسكن في أطراف المنطقة الشرقية، باعتبار النازحين من الفقراء الذين قصدوا المدينة للعمل وكسب الرزق.
تعد الأحياء الواقعة شرق المدينة، واقعيًا، الأحياء الفقيرة والأكثر جذبًا للفئات الفقيرة النازحة من الأرياف منذ أوائل القرن الماضي. ولقد وجدت تلك الفئات في الثورة خلاصًا لها من بؤس ناتج عن التهميش اللاحق بها، بالنظر إلى أن «جهاز السلطة» قبل الثورة كان يستبعد تلك الفئات من الحكم، ومن فرص التغيير.
أما أحياء حلب الغربية والوسطى، فكان من الصعب سقوطها بالنظر إلى أنها مناطق تمترس بها النظام، ووضع حدًا للتوسع العسكري المعارض فيها، بالإضافة إلى أن الكتلة السكانية فيها من الطبقة الميسورة والمتوسطة المستفيدة من «الأمر الواقع» وغير المستعدة للانخراط في النزاعات المسلحة، وهو ما دفع كثيرين منها للخروج من المنطقة. وثمة اتهام مستمر، بأن الحلبيين ما كانوا جميعًا مع الثورة الشعبية، خصوصًا بعض الرأسماليين، بحكم الشراكة مع النظام في التجارة والصناعة والمشاريع الضخمة.
في هذا السياق يشرح منذر سلال، نائب رئيس محافظة حلب حرة، في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «القبضة الأمنية الأشد، كانت موجودة في تلك الأحياء التي شهدت انتشارًا مكثفًا للشبيحة في أوائل الثورة، وهو ما حال دون سقوطها بيد المعارضة». ويتابع سلال أنه رغم أن «أكبر المظاهرات خرجت من حرم جامعة حلب، كما شهدت المدينة أكبر الاعتصامات والمظاهرات... كان المأمول من حلب، التي كان يسكنها 3.5 مليون سوري، دورا أكبر، وهذا على الرغم من أن الأحياء الغنية خرجت منها مظاهرات ضخمة أهمها حلب الجديدة والنيل وسيف الدولة وبستان القصر وغيرها». إضافة إلى ذلك، وفق سلال، فإن العشائر «شكلت سدًا منيعًا دون الثورة على النظام في عام 2011، وبخاصة العشائر المتمثلة في مجلس الشعب السوري والداعمة للنظام، إذ مارست الشدة ضد المتظاهرين، وهو الأمر الذي لم يحصل كثيرًا في مناطق سورية أخرى».
من ناحية أخرى، تشير التقارير إلى أن الأحياء التي يسكنها عمومًا أبناء الطبقتين الفقيرة والغنية لم تشهد ثورة ضد النظام، ولم تتمكن قوات المعارضة من السيطرة عليها، إضافة إلى الأحياء التي تتسم بأنها يسكنها غير العرب السنة بالأغلب، وأهمها أحياء الميدان والعزيزية والسليمانية التي يسكنها المسيحيون والأرمن، وأحياء الشيخ مقصود والأشرقية ومحيطها التي يسكنها الأكراد، فضلاً عن أحياء يسكنها الحلبيون الأصليون من الطبقة الميسورة أهمها سيف الدولة، والسبيل، وحلب الجديدة.
خريطة مستقرة
ومنذ أواخر 2012، اكتسبت حلب هذا الشكل من التقسيم الجغرافي بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، وبقيت محافظة عليه، حتى الشهر الحالي. لقد كان سهلاً على قوات المعارضة أن تسقط أحياء حلب الشرقية بيدها، وتسيطر عليها، وتسيطر على أحياء في منطقة حلب القديمة، من غير أن تتمكن من السيطرة على أحياء حلب الغربية، بالنظر إلى خصائص معينة تتسم بها كل منطقة على حدة. ومنذ البداية انعكست على الطابع الميداني الفوارق الطبقية والاجتماعية؛ فبفعل الامتيازات المالية والتجارية التي منحها النظام لحلفائه، فإن الطبقة النخبوية المقيمة في حي الحمدانية، حيث الفيلات الفخمة جدًا العائدة لأشخاص من الطائفتين الإسلامية والمسيحية، المعروف أنهم مرتاحون اقتصاديا وماليًا، جعلت الحي بمنأى عن نبض الثورة. والشيء نفسه ينطبق على منطقة السبيل وفي حي السبيل المتجاورين أيضًا، حيث تعيش نسبة كبيرة من المكونين العربي والسرياني المسيحي وكذلك الأرمني.
انتعاش اقتصادي
اقتصاديا، يلف الغموض أي تقديرات بأن يتمكن النظام من إعادة حلب إلى سابق عهدها قبل الأزمة. فالفئات الميسورة ماديا، وخصوصًا التجار والرأسماليين سواء كانوا سنة أو مسيحيين أو أرمن انتقلوا إلى بيروت، حتى إن بعضهم سافروا مع عائلاتهم إلى مصر أيضًا. أما الصناعيون فانتقلوا إلى تركيا ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم مستفيدين من القرب الجغرافي وكون السوق التركية واسعة وقادرة على استيعابهم وتصريف إنتاجهم.
وللعلم، كانت حلب تضم أكثر من ألفي مصنع في مدنها الصناعية، وهو ما وضعها على قائمة المدن الاقتصادية الريادية في الشرق الأوسط. وبلغ عدد المصانع في حلب قبل الأزمة السورية في عام 2011 نحو ألفي مصنع للنسيج والصناعات التعدينية والحرفية وغيرها، مثل الصناعات الكيميائية والصناعات الدوائية والصناعات الغذائية الخفيفة والصناعات الكهربائية والصناعات الهندسية والسياحة.
ويعد حي الشيخ نجار المنطقة الصناعية الأساسية في المدينة، وهو يحتل مساحة 4412 هكتارًا ليكون أحد أضخم الأحياء الصناعية في المنطقة، ويقدر حجم الاستثمارات بأكثر من ملياري دولار حتى نهاية عام 2009. وأدى ازدهار الصناعة فيها لاطراد في الصادرات بلغت 50 في المائة من مجل الصادرات الصناعية السورية قبل الأزمة، ولكن بعد بدء الحرب، اتهم النظام في عام 2013 معارضيه بسرقة ألف مصنع، ونقلها إلى تركيا، فيما لحقت الأضرار بمصانع أخرى.
مصدر معارض، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن 20 في المائة من مصانع حلب عادت لتعمل بشكل طبيعي بعد سيطرة المعارضة على القسم الشرقي من المدينة المتاخم للمدينة الصناعية الكبرى، حتى عام 2014، مشيرًا إلى أن قسمًا منها ينتج «في ظل غياب أصحابها». وتابع أن صناعة النسيج التي اشتهرت حلب بها، وكذلك الصناعات المرتبطة بها «حاولت الازدهار مجددًا، على الرغم من إيقاف الجزء الكبير»، لافتًا إلى أن قسمًا من الإنتاج «جرى تصديره إلى العراق، وتحديدًا الأقمشة الخام، أما التصدير إلى ليبيا فتضمن الألبسة الجاهزة».
أيضًا، رغم الحرب، حافظت بعض المصانع على عملها، منها المطابع ومصانع النسيج، والأصباغ، والخيوط والغزل، فضلاً عن بعض مصانع البلاستيك والنايلون، ومكابس الهيدروليك وأنابيب الكاوتشوك الصناعية.
وتحولت بعض المعامل، بعد سرقة محتوياتها وماكيناتها، أو نقلها من المنطقة، إلى ملجأ للنازحين، حيث تستضيف تلك المنشآت عائلات عمال يعملون فيها. وفي ظل المعارك التي تشهدها حلب، عمد بعض أصحاب رؤوس الأموال إلى سحب منشآتهم إلى خارج الحدود، وتحديدًا إلى تركيا ومصر عبر تركيا.