حلب تذعن للحسابات الدولية

عوامل كثيرة تحول دون قدرة النظام على إعادة النبض لعاصمة سوريا الاقتصادية

حلب تذعن للحسابات الدولية
TT

حلب تذعن للحسابات الدولية

حلب تذعن للحسابات الدولية

ينهي إخلاء مدينة حلب من المقاتلين المعارضين والمدنيين المؤيدين للثورة السورية 4 سنوات ونيفاً من التجاذب وشد الحبال، عسكريًا وسياسيا، بين النظام السوري ومعارضيه للسيطرة على العاصمة الاقتصادية لسوريا، وثاني كبرى مدنها. ويتيح هذا التطور المأساوي للنظام تثبيت نفوذه في «سوريا المفيدة» وفق أولى الخرائط التي ظهرت في عام 2014، التي تمتد من مدينة درعا جنوبًا، إلى مدينة حلب شمالاً. ومع أن حلب انضمت إلى الثورة متأخرة، مقارنة بمدن أخرى في محافظات ريف دمشق ودرعا وحمص وحماه ودير الزور، فإن دورها السياسي في الأزمة السورية، كان محوريًا. بل لعله كان الأبرز بين أدوار المدن السورية الأخرى، بالنظر إلى كونها تمثل عمقًا استراتيجيًا لتركيا، المتهمة اليوم بأنها فاوضت روسيا على إخراج المعارضين السوريين منها مقابل مكاسب أخرى متعلقة بمنع قيام «كانتون» كردي انفصالي على حدودها الجنوبية. أضف إلى ذلك أن حلب تمثل الحلقة الأخيرة في خريطة «سوريا المفيدة» التي تتيح للنظام تحسين قدرته الاقتصادية في حال استعاد السيطرة الكافية لرفده بالقدرة على إعادة تشغيل مصانعها، إلى جانب أدوار أخرى، أهمها الدور العسكري، حيث ستكون المدينة نقطة انطلاق عسكرية باتجاه المدن والمحافظات المحيطة.
يكشف خروج مدينة حلب المبكر من تحت علم الثورة السورية، عن حجم الدور الذي تلعبه المدينة العريقة في تحديد سياق الثورة، لجهة تثبيتها ونجاحها، أو لجهة إبقاء النظام السوري في مرحلة انتقالية؛ ذلك أن المدينة، الغنية بتنوعها الديموغرافي، تحتل أيضًا موقعًا استراتيجيًا مهمًا يستطيع قلب الموازين العسكرية عبر قطع خطوط الدعم عن المعارضة من الأراضي التركية، وإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية في البلاد، على الرغم من شكوك تحيط بقدرة النظام على ذلك.

تبدل الأجندات الإقليمية
سياق المعركة على حلب، يشير بما لا يحمل الشك إلى تغييرات سياسية إقليمية، كان يستحيل على النظام من دونها أن يبسط سيطرته عليها. وتتحدث الوقائع عن تحولات في المواقف التركية التي كانت قبل دخول العامل الروسي المباشر إلى الميدان السوري، أبرز العوامل المؤثرة في تمكين المعارضة من السيطرة على حلب.
الدكتور سمير التقي، الباحث السياسي السوري والخبير الاستراتيجي، يرى أن سيطرة النظام على حلب «ناتجة عن تبدل في التحالفات الإقليمية»، من غير أن يحمّل تركيا مسؤولية تمكين النظام من دخول المدينة، ذلك أن أنقرة «لا تستطيع مواجهة روسيا وحدها بعدما أدار الغرب ظهره لها، بينما منحت الولايات المتحدة روسيا الضوء الأخضر في سوريا».
ويوضح التقي، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن هناك شرطين يسقطان حلب بيد النظام، هما «سماح الغرب لروسيا بقتل آلاف بالقصف، وانتهاء الحملة العسكرية في الموصل وتوجه ميليشيات الحشد الشعبي العراقي إلى حلب»، مشيرًا إلى أن الشرطين «تحققا مؤخرًا، وهو ما ساهم في سقوط حلب».
وإذ يرفض إلقاء اللوم على تركيا، يقول التقي إن أنقرة «تتعرّض لضغوط هائلة من قبل الغرب وأميركا؛ فحين تلقت تهديدات من روسيا، ووصل التوتر بين الطرفين إلى مستويات قياسية، لم يقف الغرب إلى جانبها، وهي لا يمكن لها الصمود بوجه روسيا وحدها». ثم يشرح أن التبدل في السياسة التركية حيال حلب «جاء في إطار الحد من الأضرار، وليس تبدلاً استراتيجيًا حيال موقفها تجاه الأسد»، لافتًا في الوقت نفسه إلى أن الاستراتيجية التركية الثابتة «هي منع قيام دولة كردية على حدودها». لذلك، يضيف التقي: «يمكن القول إن تركيا تمكنت من الحصول على ضمانات بأن روسيا ستقبل التدخل التركي بالشمال السوري، لمنع قيام كانتون كردي، مقابل عدم حصول صدام تركي - روسي»، علما أن الصدام بين الطرفين كان محتملاً إثر تصاعد التوتر على خلفية إسقاط الطائرة الروسية.

مكاسب النظام
من ناحية ثانية، يروّج النظام السوري إلى «انتصار» حققه في حلب، ويغدق الوعود على مناصريه بأن المدينة ستعود إلى سابق عهدها، رغم تراجع إمكانياته المادية التي تمكنه من إنعاش المدينة، وإعادة إعمارها، وبث النبض في مدنها الصناعية. فضلاً عن ذلك، فإن دخول العامل الأجنبي في حلب، وهو الميليشيات الرديفة التي تقاتل إلى جانب النظام، يشكل العقدة الأبرز في عودتها إلى الحياة.
وهنا يشكك التقي في أن يكون النظام قادرًا على إدارة المدينة، أو إعادة تفعيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية فيها. إذ إنه يشير إلى أن «المشكلة الرئيسية التي يعانيها النظام الآن، هي الحاضنة الشعبية وإدارة المناطق في ظل سيطرة الميليشيات الطائفية على مفاصل الحياة في الأحياء». ويوضح أن «المناطق الموالية للنظام، باتت الآن متوجسة وقلقة من دخول الميليشيات الطائفية إليها»، مستطردًا: «المعركة لن تنتهي الآن؛ فهناك سيولة كبيرة بالوضع الداخلي والإقليمي، وثمة ملامح تنازع روسي إيراني»، مشددًا على أن «كل العوامل لا توحي بأن هناك استقرارًا على المدى القريب».

عقدة عسكرية

الحقيقة أن حلب مثلت على الدوام أهمية كبرى بالنسبة للنظام؛ إذ إن حافظ الأسد اعتبر الحضور السوري سياسيا واقتصاديا وتاريخيا وثقافيًا كله موجودا في حلب إلى جانب دمشق، وهو ما دفعه لتكثيف حضوره الأمني في المدينة، وبنى تحالفات اقتصادية ومالية، وأخضعهما لقوانين جديدة هيمنت عليها المخابرات وأجهزة السلطة.
واليوم، ينطلق النظام في ترويجه للانتصار في حلب، من نقطة ميدانية مهمة جدًا، شكلت أبرز العقد العسكرية التي مكنت أحد الطرفين من إحكام السيطرة على المدينة. ولطالما انقسمت السيطرة في مدينة حلب منذ صيف 2012، بين قوات النظام وقوات المعارضة، إذ كانت تسيطر الأخيرة على الأحياء الشرقية وجزء من الأحياء الشمالية، وفي حين تحولت مناطق حلب القديمة إلى نقاط اشتباك مستمرة، احتفظ النظام بالسيطرة على جزء من المناطق الجنوبية والأحياء الغربية التي أحاطها بقبضة عسكرية محكمة، لم تُخرق إلا مرتين منذ الصيف الماضي، واستطاع إغلاق تلك المنافذ بمساعدة الميليشيات المتحالفة معه.
وطوال فترة الحرب، لم تستقر خريطة النفوذ على شكل واحد؛ إذ يقول مصدر معارض في الداخل لـ«الشرق الأوسط» إن مدينة حلب كان «يستحيل أن تشهد هدوءًا» نظرًا إلى الخريطة المتغيرة يوميًا على صعيد الاقتتال فيها، وتقدم قوات المعارضة من جهات وانحسار تواجدها من جهات أخرى. لكن المدينة «كانت تمتاز بجانب إيجابي بالنسبة لنا، وهو أن مساحتها كبيرة جدًا، ما يعني أن قوات النظام لا يمكن أن تحاصرها أبدًا، خلافًا لما يشيعه النظام بأنه قادر على إطباق حصار عليها، وكان ذلك حتى أواخر عام 2014، إلى حين تدخل الميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، ورفدته بأعداد ضخمة من المقاتلين. ومع ذلك، لم يستطع النظام محاصرة حلب، إلا في أغسطس (آب) الماضي». وحسب المصدر المعارض، إن النظام «كان طوال ثلاث سنوات عاجزًا عن تنفيذ ذلك المخطط بسبب فقدانه الكادر البشري وكثيرا من الذي يحتاجه لخنق المدينة ومحاصرتها»، علما أن مساحتها تعادل 5 أضعاف مساحة الغوطة الشرقية في دمشق التي يحاصرها النظام.
التبدل في الوقائع الميدانية في حلب، دفع المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في عام 2014 إلى التسليم بالأمر الواقع، معتبرًا أن حلب كانت النموذج الأمثل لتطبيق اقتراح تجميد القتال، حين قال بعد لقائه أعضاء مجلس الأمن الدولي إنه ليست لديه خطة سلام وإنما «خطة تحرك» لتخفيف معاناة السكان بعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب. وأضاف المبعوث الأممي، آنذاك، أن مدينة حلب المقسمة قد تكون «مرشحة جيدة» لتجميد النزاع فيها، مشددًا على أنه «ينبغي أن يحصل شيء يؤدي إلى تجميد النزاع في تلك المنطقة ويتيح الفرصة لتحسين الوضع الإنساني وللسكان لكي يشعروا بأنه، على الأقل هناك، لن يحدث مثل هذا النزاع».

اللحاق بركب الثورة
في يوليو (تموز) 2012، بدأت الثورة بشكل جدّي طرق أبواب حلب؛ إذ سيطرت فصائل المعارضة على حي صلاح الدين، الذي كان أول حي يخرج عن سيطرة النظام، وسرعان ما تلته أحياء الشعار وطريق الباب، وغيرها من المناطق الشعبية الفقيرة. وللعلم، توسعت الأحياء الشرقية لحلب في السنوات التي سبقت الحرب نتيجة النزوح من الأرياف إلى المدينة، والسكن في أطراف المنطقة الشرقية، باعتبار النازحين من الفقراء الذين قصدوا المدينة للعمل وكسب الرزق.
تعد الأحياء الواقعة شرق المدينة، واقعيًا، الأحياء الفقيرة والأكثر جذبًا للفئات الفقيرة النازحة من الأرياف منذ أوائل القرن الماضي. ولقد وجدت تلك الفئات في الثورة خلاصًا لها من بؤس ناتج عن التهميش اللاحق بها، بالنظر إلى أن «جهاز السلطة» قبل الثورة كان يستبعد تلك الفئات من الحكم، ومن فرص التغيير.
أما أحياء حلب الغربية والوسطى، فكان من الصعب سقوطها بالنظر إلى أنها مناطق تمترس بها النظام، ووضع حدًا للتوسع العسكري المعارض فيها، بالإضافة إلى أن الكتلة السكانية فيها من الطبقة الميسورة والمتوسطة المستفيدة من «الأمر الواقع» وغير المستعدة للانخراط في النزاعات المسلحة، وهو ما دفع كثيرين منها للخروج من المنطقة. وثمة اتهام مستمر، بأن الحلبيين ما كانوا جميعًا مع الثورة الشعبية، خصوصًا بعض الرأسماليين، بحكم الشراكة مع النظام في التجارة والصناعة والمشاريع الضخمة.
في هذا السياق يشرح منذر سلال، نائب رئيس محافظة حلب حرة، في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «القبضة الأمنية الأشد، كانت موجودة في تلك الأحياء التي شهدت انتشارًا مكثفًا للشبيحة في أوائل الثورة، وهو ما حال دون سقوطها بيد المعارضة». ويتابع سلال أنه رغم أن «أكبر المظاهرات خرجت من حرم جامعة حلب، كما شهدت المدينة أكبر الاعتصامات والمظاهرات... كان المأمول من حلب، التي كان يسكنها 3.5 مليون سوري، دورا أكبر، وهذا على الرغم من أن الأحياء الغنية خرجت منها مظاهرات ضخمة أهمها حلب الجديدة والنيل وسيف الدولة وبستان القصر وغيرها». إضافة إلى ذلك، وفق سلال، فإن العشائر «شكلت سدًا منيعًا دون الثورة على النظام في عام 2011، وبخاصة العشائر المتمثلة في مجلس الشعب السوري والداعمة للنظام، إذ مارست الشدة ضد المتظاهرين، وهو الأمر الذي لم يحصل كثيرًا في مناطق سورية أخرى».
من ناحية أخرى، تشير التقارير إلى أن الأحياء التي يسكنها عمومًا أبناء الطبقتين الفقيرة والغنية لم تشهد ثورة ضد النظام، ولم تتمكن قوات المعارضة من السيطرة عليها، إضافة إلى الأحياء التي تتسم بأنها يسكنها غير العرب السنة بالأغلب، وأهمها أحياء الميدان والعزيزية والسليمانية التي يسكنها المسيحيون والأرمن، وأحياء الشيخ مقصود والأشرقية ومحيطها التي يسكنها الأكراد، فضلاً عن أحياء يسكنها الحلبيون الأصليون من الطبقة الميسورة أهمها سيف الدولة، والسبيل، وحلب الجديدة.

خريطة مستقرة
ومنذ أواخر 2012، اكتسبت حلب هذا الشكل من التقسيم الجغرافي بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، وبقيت محافظة عليه، حتى الشهر الحالي. لقد كان سهلاً على قوات المعارضة أن تسقط أحياء حلب الشرقية بيدها، وتسيطر عليها، وتسيطر على أحياء في منطقة حلب القديمة، من غير أن تتمكن من السيطرة على أحياء حلب الغربية، بالنظر إلى خصائص معينة تتسم بها كل منطقة على حدة. ومنذ البداية انعكست على الطابع الميداني الفوارق الطبقية والاجتماعية؛ فبفعل الامتيازات المالية والتجارية التي منحها النظام لحلفائه، فإن الطبقة النخبوية المقيمة في حي الحمدانية، حيث الفيلات الفخمة جدًا العائدة لأشخاص من الطائفتين الإسلامية والمسيحية، المعروف أنهم مرتاحون اقتصاديا وماليًا، جعلت الحي بمنأى عن نبض الثورة. والشيء نفسه ينطبق على منطقة السبيل وفي حي السبيل المتجاورين أيضًا، حيث تعيش نسبة كبيرة من المكونين العربي والسرياني المسيحي وكذلك الأرمني.

انتعاش اقتصادي
اقتصاديا، يلف الغموض أي تقديرات بأن يتمكن النظام من إعادة حلب إلى سابق عهدها قبل الأزمة. فالفئات الميسورة ماديا، وخصوصًا التجار والرأسماليين سواء كانوا سنة أو مسيحيين أو أرمن انتقلوا إلى بيروت، حتى إن بعضهم سافروا مع عائلاتهم إلى مصر أيضًا. أما الصناعيون فانتقلوا إلى تركيا ونقلوا معهم معاملهم ومصانعهم مستفيدين من القرب الجغرافي وكون السوق التركية واسعة وقادرة على استيعابهم وتصريف إنتاجهم.
وللعلم، كانت حلب تضم أكثر من ألفي مصنع في مدنها الصناعية، وهو ما وضعها على قائمة المدن الاقتصادية الريادية في الشرق الأوسط. وبلغ عدد المصانع في حلب قبل الأزمة السورية في عام 2011 نحو ألفي مصنع للنسيج والصناعات التعدينية والحرفية وغيرها، مثل الصناعات الكيميائية والصناعات الدوائية والصناعات الغذائية الخفيفة والصناعات الكهربائية والصناعات الهندسية والسياحة.
ويعد حي الشيخ نجار المنطقة الصناعية الأساسية في المدينة، وهو يحتل مساحة 4412 هكتارًا ليكون أحد أضخم الأحياء الصناعية في المنطقة، ويقدر حجم الاستثمارات بأكثر من ملياري دولار حتى نهاية عام 2009. وأدى ازدهار الصناعة فيها لاطراد في الصادرات بلغت 50 في المائة من مجل الصادرات الصناعية السورية قبل الأزمة، ولكن بعد بدء الحرب، اتهم النظام في عام 2013 معارضيه بسرقة ألف مصنع، ونقلها إلى تركيا، فيما لحقت الأضرار بمصانع أخرى.
مصدر معارض، أكد لـ«الشرق الأوسط»، أن 20 في المائة من مصانع حلب عادت لتعمل بشكل طبيعي بعد سيطرة المعارضة على القسم الشرقي من المدينة المتاخم للمدينة الصناعية الكبرى، حتى عام 2014، مشيرًا إلى أن قسمًا منها ينتج «في ظل غياب أصحابها». وتابع أن صناعة النسيج التي اشتهرت حلب بها، وكذلك الصناعات المرتبطة بها «حاولت الازدهار مجددًا، على الرغم من إيقاف الجزء الكبير»، لافتًا إلى أن قسمًا من الإنتاج «جرى تصديره إلى العراق، وتحديدًا الأقمشة الخام، أما التصدير إلى ليبيا فتضمن الألبسة الجاهزة».
أيضًا، رغم الحرب، حافظت بعض المصانع على عملها، منها المطابع ومصانع النسيج، والأصباغ، والخيوط والغزل، فضلاً عن بعض مصانع البلاستيك والنايلون، ومكابس الهيدروليك وأنابيب الكاوتشوك الصناعية.
وتحولت بعض المعامل، بعد سرقة محتوياتها وماكيناتها، أو نقلها من المنطقة، إلى ملجأ للنازحين، حيث تستضيف تلك المنشآت عائلات عمال يعملون فيها. وفي ظل المعارك التي تشهدها حلب، عمد بعض أصحاب رؤوس الأموال إلى سحب منشآتهم إلى خارج الحدود، وتحديدًا إلى تركيا ومصر عبر تركيا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.