عباس.. ومعركة الخلافة

انتخابات فتحاوية وأخرى في المنظمة من أجل تجهيز الرئيس الفلسطيني الجديد

عباس.. ومعركة الخلافة
TT

عباس.. ومعركة الخلافة

عباس.. ومعركة الخلافة

لم يصف الرئيس الفلسطيني محمود عباس، مؤتمر فتح السابع الذي أنهى أعماله هذا الأسبوع بـ«الجهاد الأصغر»، عن عبث أو انفعال لحظي، إذ كان مجرد انعقاده في هذا الوقت بمثابة خوض معركة متعددة الجبهات، أما نجاحه فيمثل بالنسبة لعباس اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد. والأهم أن ذلك كله يؤسس لمرحلة جديدة من شأنها قريبًا أن ترسم ملامح شخصية الرئيس القادم، وتسمح بانتقال سلس للسلطة، إذا ما عرفنا أن الانتخابات الفتحاوية التي جاءت بلجنة مركزية جديدة، سبقت انتخابات أخرى مرتقبة في منظمة التحرير الفلسطينية، من أجل ترسيم لجنة تنفيذية جديدة. ووفق منطق فتحاوي خالص، فإن أي رئيس قادم، بالضرورة يجب أن يكون عضوًا في لجنة مركزية فتح وعضوًا في تنفيذية منظمة التحرير.
بدأت القصة قبل سنوات، عندما أدرك معاونو الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) ومساعدوه ورفاقه في حركة فتح كذلك ضرورة اختيار نائب للرئيس، وذلك خشية من فوضى محتملة إذا ما تدخلت على الأقل يد أعلى من الجميع، فغيبت عباس عن المشهد دون سابق إنذار، ودون أن تمنح أحدًا أي وقت، ودون أن يكون له نائب. وهذا وضع قد يفتح الباب على صراعات داخلية في فتح عنوانها، «مَن سنختار؟» وصراعات سياسية مع دول عربية وإسرائيل والولايات المتحدة (من يجب أن يكون؟) وقانونية مع حماس، إذ يقول الدستور الفلسطيني إن رئيس المجلس التشريعي هو الذي يشغل منصب رئيس السلطة في حال شغوره لحين إجراء انتخابات، وهذا الرئيس (رئيس التشريعي) اليوم هو الدكتور عزيز الدويك، الذي ينتمي للحركة الإسلامية، وترفض فتح أصلاً الاعتراف بمنصبه هذا.
ومع أن مسؤولين في فتح نفسها تنبهوا جيدًا لكل هذه المخاطر، ودفعوا نحو تعيين نائب للرئيس، لكن عباس نفسه لم ينشغل بالأمر ولم يكن على عجلة من أمره قطّ إلا الآن، فسعى فورًا إلى عقد انتخابات فتح على أن تتلوها انتخابات أخرى للمنظمة.

تعقيدات المسألة
لسنوات طويلة لم يجرؤ أحد على طرح الموضوع بكل الجدية المطلوبة لاستحداث منصب نائب الرئيس، على أهميته، بسبب أبعاد «أخلاقية»، لها علاقة بوراثة عباس الذي يتمتع بصحة جيدة، وأبعاد «قانونية»، باعتبار الدستور الأساسي للسلطة لا يتضمن منصبًا لنائب الرئيس، وأبعاد «سياسية»، معقدة، بأن الأمر ليس حكرًا على حركة فتح وحسب، وإنما بقية الفلسطينيين كلهم، وكما يعتقد كثيرون، أيادٍ أخرى في المنطقة وخارجها.
وقبل انعقاد مؤتمر فتح الحالي، نشرت «الشرق الأوسط» عن مسؤول في الحركة أن الرئيس يسعى الآن لترتيب البيت الداخلي، عبر عقد المؤتمر السابع للحركة، لاختيار رئيس للحركة ونائبه، وأعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري. يعقبه عقد المجلس الوطني الفلسطيني لاختيار لجنة تنفيذية جديدة على أن بحث الوطني استحداث منصب نائب لرئيس السلطة». ويحتاج استحداث المنصب إلى تعديلات في القانون الأساسي. وهذا رهن بانعقاد المجلس التشريعي، لكن كونه معطلاً، فالمجلس المركزي سيكون صاحب القرار. وفي مرات سابقة، في قضايا مفصلية، قرر المجلس المركزي لمنظمة التحرير تمديد ولاية أبو مازن نفسه إضافة إلى ولاية التشريعي، باعتبار المنظمة مرجعية السلطة برمتها.
لكن هذا السيناريو، متوقع أن يلاقي منذ الآن معارضة كبيرة من حركة حماس. وقال نايف الرجوب النائب في حركة حماس، إن الرئيس الفلسطيني القادم بعد رحيل محمود عباس هو عزيز الدويك بصفته رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، كما نص عليه القانون في السلطة الفلسطينية. وينص القانون الأساسي على أن يتولى رئيس المجلس التشريعي رئاسة السلطة الفلسطينية لمدة 60 يوما لحين إجراء انتخابات رئاسية في حال شغور كرسي الرئاسية لأي سبب طارئ.
لكن فتح لا تعترف بدويك الآن رئيسًا للمجلس التشريعي وتعد ولايته منتهية، وتقول إنه يجب عقد المجلس التشريعي بقرار رئاسي ومن ثم يتم انتخاب رئاسة المجلس خلال الجلسة الأولى. وهذا الخلاف القانوني جزء من خلافات أخرى أوسع بين حماس وفتح تمنع حتى إجراء انتخابات عامة.
وقبل أعوام قليلة فشلت لجنة قانونية شكَّلها الرئيس عباس بالوصول إلى خلاصة حول إمكانية استحداث منصب نائب للرئيس بسبب التعقيدات القانونية والسياسية. وكل هذه التعقيدات ساعدت على تجنب لحظة المواجهة، إلى جانب تعقيدات محتملة أكبر، تتجلى في صعوبة الاختيار نفسه، وتدخلات مفترضة من الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية.
لكن لماذا استعجل عباس الآن على الرغم من أن صحته على ما يرام؟

نقطة التحول
نقطة التحول كانت في تدخلات إقليمية ضغطت على عباس بشكل غير مسبوق من أجل مصالحة مع العدو اللدود محمد دحلان.
لقد كان المنطق العربي مستندًا إلى تحقيق مصالحة فتحاوية داخلية من شأنها أن تقوي فتح، ومن ثم مصالحة مع حماس يتلوها انتخابات عامة لطي صفحة الانقسام. وفيما يبدو هذا المنطق معقولاً إلى حد كبير لكنه أثار غضب عباس بشكل كبير أيضًا، إذ لم يرد الرجل بأي شكل من الأشكال ولم ينوِ ولا يفكر بإعطاء دحلان أي موطئ قدم، فقرر الرد بطريقته الخاصة، وهي إخراج دحلان والمحسوبين عليه، خارج فتح إلى الأبد، وانتخاب قيادة جديدة تأتي بالنائب المرتقب.
ولم يخفِ محمود العالول، الذي انتخب مجددًا في مركزية حركة فتح، الاستياء الفتحاوي من التدخل العربي. قائلا لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه: «لم نتوقع هذه الضغوط العربية. الموضوع هامشي بالنسبة لنا، وتم تسليط الضوء عليه بشكل مكثف. كان يوجد قضايا أكثر أهمية بكثير». ويرى العالول أن الدول العربية التي ضغطت من أجل إعادة دحلان لم تقرأ الواقع بشكل جيد، مشيرًا إلى الحساسية المفرطة لدى فتح من تدخلات خارجية تصل إلى حد الإملاءات.
أما لماذا دحلان مرفوض إلى هذا الحد، فقال إن ذلك عائد لقرار أصدرته الحركة ولن تتراجع عنه، مثيرًا كثيرًا من الأسئلة حول لماذا الإصرار على دحلان الذي وصفه بـ«متبنى من أطراف مختلفة». ولا يعتقد العالول أنه يمكن في أي وقت إعادة دحلان، مؤكدًا: «سيبقى هذا الموضوع خلفنا».
لكن ليس التدخل العربي وحده السبب، لقد كان دافعًا من أجل تلبية ما طلبوه لكن بطريقة عباسية، أي ترتيب البيت وفق منطق فتحاوي. وأكد العالول أن الانتخابات استهدفت ترتيب البيت الداخلي عبر إيجاد قيادة مؤهلة من أجل التحديات المختلفة.
ويمكن القول إن عباس أخذ الخطوة الأولى فقط في طريق ترتيب البيت، وهو ما أطلق عليه بنفسه «الجهاد الأصغر» بعد انتخاب قيادة جديدة في فتح، ويبدو أن الجهاد الأكبر سيكون في انتخاب نائب لعباس في فتح ومن ثم إجراء انتخابات في منظمة التحرير واختيار نائب له في السلطة.
ويرى مراقبون أن اختيار نائب الرئيس داخل حركة فتح، وأمين سر منظمة التحرير، سيحدد إلى حد بعيد الاسم المقترح الذي يؤمن به عباس لخلافته. وتبدو هذه معركة ثانية صعبة داخل الحركة التي تحكم الشأن الفلسطيني من عقود طويلة.

الخليفة المنتظر.. أسير أم طليق؟
قبل اختيار قيادة جديدة لفتح، كان يمكن التنبؤ بأسماء كثيرة، بعضها جاء من جهات عربية، مثل محمد دحلان، وناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية للحركة. لكن هذه الاقتراحات لم تلقَ قبولاً عند «أبو مازن». كما كانت تطرح أسماء أخرى من بينها عضو مركزية فتح المعتقل في السجون الإسرائيلية مروان البرغوثي، ومسؤول المخابرات الفلسطيني ماجد فرج، وعضو اللجنة المركزية لفتح جبريل الرجوب، وأمين سر منظمة التحرير صائب عريقات، وآخرون. لكن مع إظهار نتائج مؤتمر فتح السابع، تعززت فرص البرغوثي والرجوب أكثر.
وصوت الفتحاويين في هذا المؤتمر للأسير المعتقل في السجون الإسرائيلية مروان البرغوثي على رأس منتخبي اللجنة المركزية الجديدة، بعدما حصل على 930 صوتًا من أصل نحو 1100 صوت، في استفتاء على الحضور الذي يحظى به البرغوثي داخل حركة فتح.
وفي مؤشر مهم أبدى عباس سعادته بتقدم البرغوثي في اتصال هاتفي أجراه مع زوجته فدوى مبلغًا إياها بالنتيجة التي وصفها بدليل على وفاء الحركة. وقالت البرغوثي التي حصدت كذلك أعلى الأصوات في انتخابات المجلس الثوري لفتح، إن عباس كان أول من أبلغها بتقدم زوجها على الجميع.
واعتقل الجيش الإسرائيلي، البرغوثي (57 سنة) في العام 2002، بتهمة قيادة الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000، وحُكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات، إضافة إلى 40 سنة. ويطلق الإسرائيليون على البرغوثي «عرفات الصغير»، في إشارة إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وكانوا يعدونه ذراع عرفات اليمنى في توجيه الانتفاضة.
ويرى مناصرو البرغوثي الذين يصفونه بأنه «مانديلا فلسطين»، أنه الأحق بخلافة عباس وكانوا يرون أصلاً أنه الأحق بخلافة عرفات نفسه. وكان البرغوثي رشح نفسه في مواجهة عباس في الانتخابات التي جرت في 2005 لكنه انسحب تحت ضغوط كبيرة وتحذيرات من شَق الحركة.
ويراهن تيار البرغوثي على أن انتخابه نائبًا لعباس في هذه المرحلة، سيسهم في الضغط على إسرائيل للإفراج عنه. لكنّ هناك أيضًا مسؤولين في فتح كبارًا لا يجاهرون برأيهم، يعتقدون أن تهيئة الأجواء لتسلم البرغوثي الرئاسة وهو في سجنه مسألة غير عملية، وليست ممكنة.
وتلا البرغوثي في تقدم قائمة المنتخبين جبريل الرجوب، مؤسس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، ورئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وحصل الرجوب على 878 صوتًا. والرجوب يعد أحد «صقور» الحركة، والأسماء المرشحة بقوة في فتح ليصبح نائبا لعباس، وهو بخلاف آخرين في اللجنة المركزية العدو اللدود للقيادي المفصول من فتح، محمد دحلان، الذي طوى المؤتمر بشكل مؤقت صفحته، على الرغم من تدخلات عربية من أجل إعادته.
وعاد إلى «المركزية» كذلك، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الدكتور صائب عريقات، والمفاوض السابق والاقتصادي محمد اشتية، ومسؤول الشؤون المدنية حسين الشيخ، ومسؤول العضوية جمال محيسن، ومفوض التعبئة والتنظيم محمود العالول، ورئيس جهاز المخابرات السابق توفيق الطيراوي، ومسؤول ملف المصالحة، عزام الأحمد، وابن شقيقة عرفات المندوب السابق لدى الأمم المتحدة، ناصر القدوة، والمسؤول عن التواصل مع المجتمع الإسرائيلي محمد المدني، ومسؤول العلاقات الدولية عباس زكي.
ويمكن القول إن جميعهم ينتمون لتيار عباس باستثناء الطيراوي والقدوة، فثمة من يروّج أنهما على خلاف معه.
في المقابل، دخل إلى «المركزية» لأول مرة الوجوه الجديدة: وزير التربية والتعليم صبري صيدم، وهو ابن «أبو صبري» صيدم عضو المركزية الذي قضى في الستينات، ومستشار عباس العسكري الحاج إسماعيل جبر، والقيادي الفتحاوي المعروف في غزة، أحمد حلس، ورئيس المجلس التشريعي السابق روحي فتوح الذي شغل منصب الرئيس المؤقت بعد وفاة عرفات، وسمير الرفاعي المسؤول الكبير في إقليم سوريا، وامرأة واحدة هي دلال سلامة النائب السابق في المجلس التشريعي من مخيم بلاطة في نابلس، وجميعهم تلقوا الدعم من عباس.
أما أبرز الذين فشلوا في الوصول إلى «المركزية» مرة ثانية، فكانوا الدكتور نبيل شعث القيادي القديم في فتح، والطيب عبد الرحيم أمين سر الرئاسة الفلسطينية، وأحمد قريع عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأحد كبار مساعدي عرفات، وصخر بسيسو القيادي من غزة، وسلطان أبو العينين مسؤول ساحة لبنان سابقًا، وهؤلاء لم يحظوا بدعم عباس. وتفيد النتائج بهذه الطريقة بأن إرادة عباس انتصرت حتى داخل فتح، وانتصرت كذلك على التدخلات.
المحلل السياسي هاني المصري قال معلقًا: «إذا لخّصنا نتائج المؤتمر بكلمة واحدة فهي (الاستمرارية). فقد بايع المؤتمر الرئيس محمود عباس بالتصفيق وليس بالتصويت، وفي الجلسة الأولى، وذلك خلافًا للأصول التي تقضي بإجراء الانتخابات بعد تقديم كشف الحساب وتقييم الفترة السابقة، وبعد تقديم خطة المرحلة المقبلة. وهو ما كرّسه قائدًا أوحد قبل مساءلته والقيادة السابقة عما أنجزوه وما أخفقوا في إنجازه».
وهذا التفويض الكبير لعباس يجعله أقوى بطبيعة الحال من مفوضين آخرين داخل فتح، وإن حصلوا على أعلى الأصوات، وهو ما يعطيه القوة اللازمة لتعيين النائب الذي يريد سواء في فتح أو في السلطة.

القرار ليس فلسطينيا فحسب
صحيح أن عباس قطع خطوات مهمة في ترتيب بيته الداخلي، من أجل ضمان انتقال سلس للسلطة بعيدا عن أعدائه وداعميهم كذلك، لكن الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، يرى أن المسألة ليست بيد عباس فحسب. وقال عوكل: «ليس الفلسطينيون وحدهم هم الذين يقررون. العرب شركاء ولديهم مخاوف معينة، أيضًا يوجد إسرائيل، الدولة المحتلة التي تحكم كل شيء، ويوجد أيضًا المانحون الذين يضخون الدم في عروق السلطة». وأضاف عوكل: «الرئاسة الفلسطينية ليست محصلة وضع فلسطيني فقط لأن الوضع الفلسطيني منقسم وضعيف، ولا ينتج مؤسسة أو مواقع في هذا المستوى بشكل طبيعي».
ويتفق عوكل مع كثيرين: «الأكيد أن أي رئيس قادم سيكون عضو لجنة مركزية وعضو في تنفيذية المنظمة، وإلا فكيف سيكون الرئيس القادم، هو رئيس فتح ورئيس منظمة التحرير؟».
الأكيد أنه حتى مع اختتام مؤتمر فتح برسالة عباس بأنه من جيل «الرؤوس اليابسة»، في رسالة قوية إلى معارضيه، في الخارج والداخل، ملخصها أنه فعل ما يريد وسيقود بنفسه السفينة حتى محطته الأخيرة، وسيختار قائدها الجديد كذلك، فإن كثيرين يعتقدون أن السفينة المتهالكة في بحر هائج، ليس لها أن تواصل إذا ما ارتفعت أكثر أمواج الغضب واتسعت وتخلت عنها طواقم الدعم والإنقاذ.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».