ديكارت دربنا على العزل المنهجي لمواجهة المعضلات

بأصالته وقوة منهجه وتأثيره على من جاء بعده

ديكارت
ديكارت
TT

ديكارت دربنا على العزل المنهجي لمواجهة المعضلات

ديكارت
ديكارت

تنبه العلماء بدءًا من القرن السابع عشر، إلى أهمية المنهج لسبر أغوار العالم الذي اتضحت ملامحه مع الفيلسوف ديكارت (1596 - 1650)، الذي وجد، بدوره، أن معيار الحقيقة هو الوضوح، مقلدًا في ذلك الرياضيات، ما دام أن هذه الرياضيات - كما اعتقد - مجمع عليها ومتفق حولها، نظرًا لوضوح وبداهة منطلقاتها. لهذا فحل أي مشكلة في القضايا الأخرى، يكمن في تقليدها، وذلك بتدريب عقلنا على ألا يقبل إلا الواضح كحقيقة، ويعلق الأحكام فيما هو غامض إلى أجل غير مسمى. وهذا ما دفع ديكارت إلى بدء مشروعه المنهجي بالقاعدة التالية: «يجب ألا أقبل شيئًا قط على أنه حق، ما لم يتبين لي، بالبداهة العقلية، أنه كذلك. ويجب ألا أحكم على الأشياء إلا بما يتمثله الذهن، بوضوح وتمييز، ينتفي معهما كل سبيل إلى الشك». هذه القاعدة، توضح أن معيار الحقيقة الذي ركز عليه ديكارت، يكمن في البداهة والوضوح. فما دامت الفكرة غامضة، فلا يمكن للعقل إصدار الحكم بصوابها، حتى يتم التقصي والضبط، وأخذ الوقت الكافي لجعلها تنجلي، وإلا على الأقل، تعليق الحكم احترامًا لهذا العقل. وبهذا، فأي مشكلة ملغزة تواجهنا في الحياة، ويختلط علينا أمرها، تكون أول خطوة منهجية للتعامل معها، هي ألا نسرع في إصدار أحكام طائشة تجعلنا لا نسيطر عليها.
لكن يبقى السؤال العالق، هو كيف السبيل إلى الوضوح؟ وما الطريقة الأقل كلفة التي يقدر عليها عقلنا وتتلاءم وقدراتنا نحن البشر؟ الجواب يكمن في التعامل مع العالم كآلة ميكانيكية، انطلاقًا من قاعدتي التحليل والتركيب. فكيف ذلك؟
إنه لكي نتمكن من القبض على المشكلة قيد الدراسة ومواجهتها وتبديد غموضها، وجب - حسب ديكارت - تحليلها وتفكيكها إلى أجزائها الواضحة. فذلك يعد بمثابة مهارة متاحة لنا كبشر، لفهم المعقّد وفك شفرة الألغاز. فالإنسان غير قادر على إدراك الأمور دفعة واحدة (فهو ليس إلهًا)، فليس له من خيار ما عدا هذه العملية التقسيمية إلى الوحدات الواضحة.
ويمكن أخذ أمثلة كثيرة تطبيقية تثبت قوة وصحة وكونية هذا المنهج التحليلي القائم على الفصل. فمحرك السيارة وهو يشتغل دفعة واحدة، يكون صعب التناول، لكن إذا قمنا بتحليله إلى أجزاء واضحة، سنتمكن من إزالة غموضه ومن ثم فهمه وهو السبيل للتحكم فيه. وكذلك نجد مفهوم القوة، فيزيائيًا، غامضًا، إلا إذا فككناه إلى وحداته الواضحة، وهي الكتلة والتسارع. الأمر نفسه يقال عن السرعة، فما هي إلا مسافة وزمن. والطاقة هي كتلة وسرعة ضوء، كما شرح ذلك آينشتاين. أما إذا قمنا بتفكيك الصوت فسنجده موجات بأطوال معينة.
وباتجاهنا صوب الجسم البشري، فإنه يصعب فهمه في كليته. ولا حل لدينا إلا تقسيمه إلى مجموعة أجهزة (جهاز عصبي، عضلي، هضمي، تنفسي...). ولنتأمل كم في كلمة جهاز من نزعة آلية. هذه الأجهزة هي أيضًا تحلل إلى أجزاء أصغر. ونحن نعلم الآن، أن العلماء فككوا الشفرة الوراثية، وبلغوا قواعدها الكيميائية الأساسية المشكلة لهوية الفرد البيولوجية. فلولا آلية التحليل، لما استطاع الإنسان فهم واستيعاب ألغاز ما حوله.
إن هذا هو المقصود بالنزعة الميكانيكية عند ديكارت، التي طبعت العلم ونموذج التفكير الحديث. إلى درجة أن العالم كله أصبح منظورًا إليه باعتباره آلة كبرى، مما أتاح فرصة إدراكه. فيكفي لفهمه، أن نقوم بتحليله إلى قطاعات وورش عمل نقدر عليها، الأمر الذي يبرر ظهور التخصصات في كل قطاعات الحياة. فالفيزيائيون تكفلوا بدراسة المادة، لكن المادة معقدة بدورها، مما جعل المهام تقسم إلى وحدات صغرى، بحيث نجد الآن، تخصصات داخل الفيزياء نفسها (دراسة المغناطيس، الحركة، الكهرباء، سقوط الأجسام، الحرارة...). أما البيولوجيون، فتكفلوا بدراسة الكائنات الحية، ومجال الأحياء بحر واسع يتطلب بدوره تحليلاً أعمق (حيوانات، حشرات، نباتات، إنسان... إلخ).
هكذا تناسلت التخصصات تلو التخصصات، إلى أن ظهر آخر تخصص، وهو العلوم الإنسانية التي أخذت على عاتقها دراسة الكائن اللغز، الكائن المنفلت: إنه الإنسان في جوانبه الروحية. فهو بدوره لم ينجُ من آلية التحليل، فتم تفتيته إلى: نفس، واجتماع، وإنثربولوجيا، وتاريخ، وجغرافيا، وسياسة، واقتصاد.
كل هذا يظهر أصالة ديكارت وقوة منهج العزل وتأثيره على اللاحقين، خصوصًا في مجال العلوم. فلا فهم ولا دراسة ولا إدراك إلا بالتحليل، فهو وسيلتنا الوحيدة ما دام، كما قلنا، أننا عاجزون عن إدراك الكون دفعة واحدة، فذاك أمر يتجاوزنا. إن ديكارت علمنا التواضع، علمنا ألا ندعي الحقيقة الجاهزة، فهي «إلهية». أما نحن فعملنا عمل النملة، عمل المختبرات، عمل الزمن الطويل، عمل المشعل المنقول جيلاً بعد جيل.
إن المنهجية التي تبلورت في القرن السابع عشر، والقائمة على العزل والفصل قصد الضبط والتحكم، ستسري في كل مناحي التخصصات ولن يسلم منها أي قطاع، إلى درجة يمكن أن نقول معها، إنها هي الثابت البنيوي الذي يمكن تلمسه كخيط ناظم لعقد المنظومة الحداثية. وتجدر الإشارة إلى أن خطوة التحليل خطوة محض منهجية، يقوم بها الإنسان عنوة، ويفرضها فرضًا على المشكلات والمعضلات التي تجابهه، كي تفشي سرها وتعطي شفرتها.
فهي عملية مصطنعة ومفتعلة، غرضها تبديد الغموض، وخلق الشفافية في كل شيء، على الرغم من أن هذا التحليل يشوه الحقيقة، لأنها تقدمها ممزقة الأوصال. علمًا بأن الأصل في الحقيقة، هو كونها لوحة كاملة تشتغل موحدة، الجزء فيها متصل بالآخر دونما بتر. بكلمة واحدة، التحليل يفقد الحقيقة جماليتها، مما يستدعي خطوة موالية سماها ديكارت بالتركيب، باعتبارها ترميمًا ولم شمل الأجزاء من جديد، في توليفة متناغمة، سيدعي الإنسان أنها الحقيقة ولو مؤقتًا. وهذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة بعينها.
إن مسألة هيمنة منهجية العزل في الزمن الحديث، كانت عبارة عن موجة عارمة اكتسحت كل النطاقات، وتوضحت عند كل مجايلي ديكارت. فمثلاً نجد أن فيلسوفًا من طراز توماس هوبز (1588 - 1679)، وهو من المؤسسين للفلسفة السياسية الحديثة، وصاحب الكتاب المشهور «التنين»، كان من المتشبعين بالنزعة الميكانيكية القائمة على التحليل والتركيب حتى النخاع. إذ كان يحلو له أن يوضح منهجه باستخدام مثال الساعة، وذلك كالتالي: إنه عندما نريد فهم كيف تعمل الساعة (لنعتبرها هنا هي المعضلة العالقة بين أيدينا)، نقوم بتفكيكها، وندرس مكوناتها المختلفة، وخواص هذه المكونات. ثم نجمع أجزاء الساعة، وبجمعنا الأجزاء بشكل يعيد الساعة إلى العمل من جديد، نتعلم كيف ترتبط الأجزاء بعضها بعضًا، وكيف تعمل الساعة، ونفهم ما هي الساعة.
ولقد حاول توماس هوبز، تطبيق هذا المنهج التحليلي والتركيبي على المجتمع، بحيث سيعمل على تقسيمه إلى أجزائه الواضحة. وجزؤه الجوهري، كما توصل إلى ذلك، هو الفرد بأهوائه وأنانيته. ثم إعادة جمع هذه الأجزاء، بحيث نرى روابطها وكيفية عملها. وبفعلنا ذاك، نفهم ما هو المجتمع. مع التذكير بأن هذا التقسيم ليس دائمًا قسمة واقعية، بل يتم خياليًا افتراضيًا أحيانًا.
إن الأمر نفسه سيتم وبالطريقة نفسها، مع العالم غاليليو (1564 - 1642). إذ سيعمل على عزل الطبيعة عن الإنسان. فغاليليو سيسير في الطريقة الجديدة نفسها في التفكير، والمسماة حداثية، حيث سينقلنا من النظرة التأملية الدافئة والساحرة للعالم، إلى نظرة باردة. فقد كان يرى أنه عندما تلمسك الريشة وتحدث لك دغدغة، فهذا الإحساس ينتمي لذاتك، وليس إلى الريشة. فغاليليو وكما يظهر من هذا المثال، كان يسعى لوضع فصل بين ما ينتمي للذات، وما ينتمي للعالم الخارجي. إذ لا يجب بحسبه، إسقاط ما هو إنساني على الطبيعة. فهذه الأخيرة، صماء وعاطلة، لا سبيل إلى فهمها إلا بتكميمها وترويضها، ووضعها في قوالب رياضية. فالكيفيات التي نسقطها على الطبيعة تشوه الموضوع المدروس، وتعطي صورة زائفة عنه. بكلمة واحدة معه، سيضرب سؤال الغايات والمقاصد عرض الحائط. أي أن أسئلة الخير والشر هي خارج اهتمام العلم.
إن المتأمل في الدرس الحداثي، بدءًا من القرن السابع عشر، وهو فجر العلم الحديث، يكتشف أن عملية الفصل هذه لم تتوقف أبدًا. ولعل أكبر من كان له النصيب الأكبر في العزل وبوضوح، ألقى بظله على الحياة البشرية إلى حد الساعة هو الدين، الذي تم فصله عن كل قطاعات الحياة، فأعطانا ما يسمى باللائكية أو الدنيانية بتعبير طه عبد الرحمن.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.