يكفي سماع اسم يويو ما لكي يتراكض محبو الموسيقى في العالم لشراء تذاكر حفلاته، وهذا ما جرى في سان دييغو خلال أيام حين أعلنت جمعية الموسيقى في لا هويا التي نظمت حفلته الرائعة أنه «لم يبقَ أماكن». «يويو ما» فنان كبير من نوع فريد، فهو من أصل صيني ولد في باريس عام 1955 ونشأ في الولايات المتحدة وتبوأ بجدارة منصب «أهم عازف حي لآلة التشيللو (الفيولونسيل) في العالم»، كما وصفه رئيس جمعية الموسيقى كريستوفر بيتش أثناء تقديمه للحفل.
رأيناه مع زميلته عازفة البيانو البريطانية البارعة كاثرين ستوت في أبدع حلة غير مترفة وهو يعزف على آلته الأثيرة ويستمتع بكل نغمة موسيقية ويعبر وجهه عن مشاعره ببساطة وعاطفية، فهو سعيد وفرح أحيانا وتعيس وحزين أحيانا أخرى، ويكاد يتكلم لكل مستمع على حدة.
بدأ البرنامج بقطعة للموسيقار سترافنسكي تسمى «لحن إيطالي» عبارة عن معزوفة للتشيلو والبيانو مبنية على لحن أوركسترالي لباليه «بولتشينيلا» التي اقتبس سترافنسكي أنغامها من أوبرا إيطالية قديمة للموسيقار بيرغوليزي تدعى «فلامينيو»، وأسلوبها يختلف تماما عن أسلوب سترافنسكي الحديث المعروف. اختيار هذه القطعة بالذات يدل على إلمام عميق بكل أنواع الموسيقى الكلاسيكية وطريقة عزفها الرائعة تثبت موقع «يويو ما» الطليعي وحبه لتجريب نماذج مختلفة من الموسيقى ليواصل حواره مع جمهوره. في القطع التالية ابتعد «يويو ما» عن الموسيقى الكلاسيكية منتقلا إلى موسيقى أميركا الجنوبية، فقدم لنا مع زميلته ستاوت اقتباسا جديدا لآلتي التشيللو والبيانو لقطع «الروح البرازيلية» للموسيقار فيلا لوبوش التي تجمع بين ألحان الهنود الحمر في البرازيل والرقصات الشعبية في ذلك البلد، ثم «سلوان» للموسيقار الأرجنتيني بياتزولا التي تمزج موسيقى الجاز ورقص التانغو مع الموسيقى الكلاسيكية، وتبعها «الرقصة السوداء» للموسيقار البرازيلي غوارنييري التي تعبر عن الموسيقى الراقصة للسكان السود في البرازيل. أما الجزء الثاني من البرنامج فاحتوى على قطعة دينية حول السيد المسيح من رباعي «نهاية العالم» للموسيقار الفرنسي الحديث مسيان، وعاد العازفان بعدها إلى نقطة الانطلاق، وهي الموسيقى الكلاسيكية، فعزفا ببراعة فائقة السوناتا الثالثة للكمان والبيانو للموسيقار الألماني برامز بعد تحويلها إلى مقطوعة للتشيللو والبيانو.
قلما يستمتع المشاهد ببرنامج متنوع من هذا الطراز، ولا غرو، فـ«يويو ما» يحب كل أنواع الموسيقى وبعد تسجيله لـ75 ألبوما حاز 15 منها على جوائز الغرامي في الولايات المتحدة أنشأ مشروع «طريق الحرير» منذ بضع سنوات كمنظمة لترويج الثقافات والفنون التقليدية في البلاد التي كان يمر فيها طريق الحرير التجاري من الصين إلى سوريا ولبنان وربط العالم والحضارات عبر الفن. ومن منتجات هذا المشروع الرائد عزف «يويو ما» بمصاحبة الكمنجة الشرقية للعازف الإيراني كيهان كلهور قطعة مبتكرة للموسيقار اللبناني ربيع أبو خليل اسمها «رقصة الفالس العربي».
تعاون «يويو ما» خلال رحلته الموسيقية مع مختلف العازفين وأشكال الموسيقى من الألحان الصينية إلى التانغو الأرجنتيني والموسيقى البرازيلية (وله ألبوم شهير باسم «شكرا للبرازيل») إلى الموسيقى الأميركية البوب المعاصرة والفنان بوبي ماك فارين من نوع «بلو غراس»، أي مزيج من موسيقى الجاز والبلوز والموسيقى الريفية (كانتري ميوسيك).
المدهش أن آلة التشيللو التي يملكها «يويو ما» يقدر ثمنها بـ5.2 مليون دولار، ولهذا الأمر قصة لا أنساها، فقد اجتمعت صدفة مع «يويو ما» في جامعة روما بعد الحفل الموسيقي الذي أقامه مع زملائه عازف الكمان الراحل إسحاق شتيرن وعازف البيانو إيمانويل أكس، وكانت السيارة المستأجرة لنقلهم للعشاء متوقفة بسبب البرد وفراغ البطارية، فعرضت عليهم إيصالهم إلى المطعم بسيارتي وقَبِل «يويو ما» على الفور وفتح صندوق السيارة وأدخل آلة التشيللو الثمينة، لكن سائق سيارتهم نجح في إشعال المحرك في آخر لحظة فاعتذروا مني وذهبوا معه، وكانت مكافأتي أن «يويو ما» بعث لي بعد أسبوع بآخر أسطوانة مدمجة له مع إهداء خاص وتوقيعه، وهذا يدل على حسن أخلاقه وتهذيبه وقربه للقلوب.
في الحفل الأخير كان «يويو ما» مرحا كعادته ويتصرف بشكل طبيعي دون تكلف مع أن مقامه يصل إلى مستوى عازفي التشيللو المرموقين عالميا مثل روستروبوفيتش الروسي وبابلو كاسالس الإسباني وبيير فورنييه الفرنسي وجاكلين دو بريه البريطانية، ويتميز عنهم بأن نغمه سلس وغني، فأسلوبه أكثر ليونة لأنه يشعر بالراحة والمتعة الشخصية أثناء العزف وتحس بأنه يتصرف بعفوية وتلقائية ويخاطب قلوب مستمعيه مباشرة.
المثير أيضا قصة لقائه وتعاونه مع زميلته عازفة البيانو كاثرين ستاوت، ففي عام 1978 لم يكن «ما» شهيرا أو موسرا مثلما هي الحال الآن، واستأجر أثناء إقامته مع زوجته في لندن شقة متواضعة لبضعة أسابيع كان يتمرن فيها على عزف التشيللو، وفجأة فتح الباب ودخلت منه امرأة أصابتها الدهشة حين رأته يعزف وهو في ملابسه الداخلية لشدة الحر، فسألته: «من أنت؟»، فأجابها: «ومن أنت حتى تدخلي دون إذن؟»، فأخبرته ستاوت أنها مستأجرة الشقة مع صاحبها الذي أجّر الشقة لـ«يويو ما» دون إخطارها، وتحول سوء الفهم إلى صداقة ثم تعاون مستمر منذ أكثر من ثلاثين عاما حين اكتشف «ما» براعتها في عزف البيانو واهتمامها بالموسيقى الفرنسية والبرازيلية.
يتمتع «ما» بحاسة موسيقية متطورة وذكاء خارق منذ صغره حين بدأ العزف على التشيللو وعمره ست سنوات في باريس، وبعد انتقال والديه إلى الولايات المتحدة دخل عام 1962 إلى أفضل معهد موسيقي وهو معهد جوليارد، ثم أكمل دراسته في جامعة هارفرد وظهر على التلفزيون مع قائد الأوركسترا المعروف ليونارد برنشتاين، فذاع صيته وبعد سنوات اشترى آلة التشيللو الأثرية الباهظة التي كانت تملكها جاكلين دو بريه، وهي من نوع ستراديفاريوس الإيطالي المصنوع عام 1712.
«يويو ما» فنان عالمي بكل معنى الكلمة، وهو يبحث عن كل أنواع الموسيقى لتقريب الحضارات بعضها من بعض، ويشارك في العزف مع العازفين المحليين الجديين في أي بلد يزوره ليتكشف أسرار العزف على الآلات المختلفة في كل الأمصار. جولته الأخيرة في كاليفورنيا، وخصوصا في سان دييغو وسانتا باربارا، ضمنت له الإعجاب المستمر في قافلة حياته، خصوصا حين تنبثق من يديه أصفى وأرق الألحان، لكن تأثيرها هو الأقوى والأكثر علوا وارتفاعا.
يويو ما في بحث مستمر لكل أنواع الموسيقى
أبرز عازف لآلة التشيللو في العالم يأسر قلوب الجمهور
يويو ما
يويو ما في بحث مستمر لكل أنواع الموسيقى
يويو ما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

