العيون مصوبة نحو منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام، فالكثير من الآمال معقودة على هذه السوق فيما يتعلق بالموضة عموما، والمنتجات المترفة خصوصا. لكن الاهتمام هذه المرة مختلف عما كان عليه سابقا. صحيح أن المنطقة لا تزال سوقا استهلاكية بالنسبة لبيوت الأزياء العالمية، إلا أن هناك تحولات ملحوظة تشير إلى أنها أيضا تخطو خطوات واثقة نحو الإنتاج والإبداع بفضل مصممين شباب درسوا الموضة وأصبحوا يلفتون الانتباه إلى إمكانياتهم.
«فوغ» النسخة الإيطالية انتبهت إلى تحولات السوق منذ سنوات، ولم تفوت الفرصة على نفسها باستحداثها ما أصبح يعرف بـ«فوغ نايت أرابيا» بدبي. فعالية تثير الكثير من الجدل من ناحية والأنظار من ناحية ثانية على المستويين المحلي والعالمي. ولأن السيدة فرانكا سوزاني، رئيسة تحرير هذه النسخة لها نظرة مستقبلية لا تخيب، فقد وجهت أنظارها مؤخرا إلى المملكة السعودية، بتعاونها مع مجمع التسوق المعروف في جدة «رباعيات» بهدف اكتشاف مصممين سعوديين، وتسليط الضوء عليهم. لا يختلف اثنان على أن الفكرة إيجابية يحتاجها مصممون لا تنقصهم الموهبة بقدر ما تنقصهم الخبرة في مجال التسويق: تسويق أنفسهم وتصاميمهم على حد سواء، وبالتالي ليس هناك أفضل من اسم مجلة «فوغ» للقيام بهذه المهمة في سوق لا تزال تعاني من بعض الازدواجية في التعامل مع أبناء جلدتهم.
ازدواجية لمستها المصممة ريم الكنهل في بدايتها عندما طرحت أول تشكيلة لها في محل DNA منذ سنوات بيعت بالكامل، لأنها كانت بتوقيع مكون من الأحرف الأولى من اسمها فقط «RK» مما أعطى الانطباع بأنها ماركة عالمية. بعد أن عرفت الزبونات أنها من تصميم سعودية، فقدت وهجها فجأة وفتر إقبالهن عليها. لحسن الحظ أن هذه الواقعة لم تؤثر على ريم الكنهل، بل حفزتها على المزيد من التحدي، ولم يمر سوى بضعة مواسم حتى بدأت تصاميمها تظهر في الغرب بعد أن جذبت أنظار أجنبيات يتذوقن الموضة ويقدرنها بغض النظر عن اسم مصممها وجنسيته. الآن، تطمح ريم أن تستعمل سلاحها القوي المتمثل في ثقافتها الشرقية وجذورها السعودية لاختراق السوق العالمية، طبعا مع إضافة لمسات عصرية عليها يؤكدها مظهرها وطريقة تعاملها مع الموضة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى المهني. كان لقاؤنا معها في فندق «كوفنت غاردن» القريب من مكاتبنا خلال زيارة عابرة لها إلى لندن، ما إن دخلت حتى استدارت رؤوس كل النساء نحوها، ليس لأنها كانت تلبس ملابس مثيرة أو صرعات غريبة بل العكس، كانت راقية من الرأس إلى أخمص القدمين. ملابسها كانت طويلة تميل إلى الاتساع وألوانها تتراوح بين الأسود والرمادي، بينما كان شعرها مغطى بقبعة كبيرة، ونظارة شمسية تخفي نصف وجهها ذي الملامح الناعمة. كل شيء في هذه الصورة كان مميزا يشي بذوق رفيع فيه احترام لثقافتها ولأسلوبها الخاص. هذا الأسلوب يطبع أيضا تصاميمها، وتريده أن يلتصق بها، خصوصا أنها قضت سنوات كثيرة وهي تؤسس له في سوق تنمو بسرعة وتعرف أن الموضة تستعمل فيه كلغة للتعبير عن الذات.
لا تُخفي ريم الكنهل فخرها وهي تقول إنها من المصممات الرائدات في المنطقة، وبأنها عبدت الطريق لبنات جيلها وفتيات شابات من عائلات معروفة يقتدين بها حاليا ويستعملن اسمها وتجربتها لرفع راية المقاومة ضد التقاليد. تقول ريم إنها من أسرة محافظة، ورغم أنها لقيت دعما من أقرب المقربين منها، فإن عددا لا يستهان به من أفراد العائلة الموسعة لم يتقبلوا أن تدخل واحدة تحمل اسمهم مجال الموضة، ووصلت درجة الرفض إلى تجاهلها في المناسبات الكبيرة. لكن رغم هذه المضايقات، كان الصوت الملح بداخلها يتعالى ويدفعها للاستمرار. «أعرف أن ليس هناك شيء يأتي بالساهل، وأجمل الأمور هي تلك التي نحارب من أجلها لاقتناعنا بها، ومع الوقت نُقنع بها من كان رافضا لها. فالآن أرى نظرات الإعجاب في عيونهم، لأنهم تأكدوا أن الأمر بالنسبة لي لم يكن مجرد تمرد بلا هدف بل العكس تماما». وتكشف ريم أيضا أنها تتلقى تعليقات ومكالمات من بعض المصممات الشابات يشكرنها فيها ويعبرن فيها على إعجابهن بها، لأنها المثل الذي يضربنه لعائلاتهن عندما يواجهن الرفض من قبلهم. طبعا النظرة إلى تصميم الأزياء تغيرت في السنوات الأخيرة، ولم تعد مصممة الأزياء مهنة من لا مهنة له، بل العكس، فهي تحتاج إلى دراسة وتخصص، وافتتحت لها معاهد عالمية مهمة في السعودية، لكن ريم الكنهل كانت من الجيل الأول، أو ما يمكن اعتباره حقل اختبار.. «الآن أصبح تصميم الأزياء فنا وصناعة في الوقت ذاته، وهذا ما استغرق وقتا طويلا لإقناع الناس به في منطقة الشرق الأوسط عموما والسعودية خصوصا» حسب قولها.
ظهرت ريم الكنهل، كمصممة سعودية واعدة منذ سنوات، لكن رغم موهبتها وقدراتها، يلاحظ أن نجمها يبزغ بقوة في موسم، ثم يختفي عن الرادار في موسم آخر، وهو ما تشرحه بقولها إن الأمر لا يعني توقفها عن العمل في أي وقت من الأوقات، وكل ما في الأمر أن ظروف العمل في الرياض، حيث تقيم، ليست سهلة، لعدم توفر معامل متخصصة يمكن التعامل معها بمهنية، فضلا عن غلاء المواد الخام المستوردة من الخارج، الأمر الذي يحتم عليها السفر كثيرا بحثا عنها، وهو ما يضعها أمام عراقيل مادية ولوجيستية كثيرة كأي مصمم آخر من المنطقة.
أما من ناحية الإبداع، فهي لا تتوقف على العطاء والبحث، بدليل أنها تقدم في كل موسم قطعا جديدة، ولو بعدد قليل، انطلاقا من قناعتها بأنه لا بد من الاستمرارية لكي تؤخذ بجدية من جهة، وحتى يبقى اسمها راسخا في الأذهان من جهة ثانية.. «ثقي أنني في كل عام لا أزيد ثقة وخبرة وحسب بل إصرارا وقوة، كما أن ثراء الثقافة العربية في صالحي، لأن هذه الثقافة تتيح لي فرصا كثيرا للغرف منها، وبالتالي فإن نبع الأفكار لا ينضب أبدا؟». هذا الغرف والاعتزاز بالثقافة الشرقية يعزز تلك اللمسة التي تظهر في تصاميمها، بدءا من نوعية الأقمشة والألوان التي تختارها، إلى طريقة لفها حول الجسم لتعزيز أنوثة المرأة.
منذ فترة، قدمت تشكيلة بعنوان «لو استطاعت الأبواب أن تنطق» شرحت أنها كانت نتاج عشقها للأبواب العربية القديمة، وكيف أن هذه الأبواب الثقيلة والمنقوشة بفنية عالية، تخفي وراءها قصصا وأسرار بيوت مثيرة، حاولت صياغتها من خلال تطريزات خفيفة ومزج الأقمشة المتنوعة، مع ابتكار طرق متعددة لارتداء القطعة الواحدة. «ليس المهم الكم بل الكيف، لهذا سعدت كثيرا عندما اتخذت دار (بيربري) قرارا بطرح تشكيلتين فقط في العام تـأخذ بعين الاعتبار كل المواسم والوجهات، عوض عدة تشكيلات، الأمر الذي كان ينوء تحته المصمم عموما، والمصمم المستقبل والمبتدئ خصوصا». وهذا يشرح بوضوح حرصها على طرح قطع معدودة لكن مؤثرة، بحيث تكون لها قدرة على إضفاء التميز وفي الوقت نفسه تتيح لصاحبتها فرصة استعمالها بطرق مختلفة لكي تظهر متجددة في كل مرة.
من التشكيلات الأخرى التي أثارت الانتباه تشكيلة بعنوان «فلاي أواي» ومعناها «طر بعيدا»، تناولت فيها تعقيدات المرأة الإيجابية والسلبية على حد سواء، وهو ما ترجمته من خلال ازدواجية مثيرة اعتمدت فيها على مزج الأقمشة الخفيفة بالسميكة، والتلاعب بمفهومي الذكورة والأنوثة.
عندما تتحدث ريم كنهل عن نظرتها للموضة والحياة وعن طموحاتها تستشف وراء ملامحها الطفولية وصوتها الخافت، قوة عزيمة قلما تلمسها في بنات جيلها، إضافة إلى صراحة نابعة من رغبتها في تغيير الأمور إلى الأفضل. تشرح: «حلمي كبير، وهو أن أصل في يوم قريب إلى مرحلة أكتب فيها (صنع في السعودية)، وهو حلم قابل للتحقيق لأننا نتوفر على مدارس متخصصة، ومصممين يعشقون الموضة ويدرسونها بجدية، لهذا من المفترض أن نفكر في تكوين بنية تحتية قوية في هذا المجال».
عندما تتكلم عن هذا الحلم، تشعر بأنه يزيد اشتعالا بداخلها وحماسة، لتعبر عن أسفها بصراحة عن افتقاد المنطقة إلى التكاتف البناء بين المصممين رغم أنهم يعانون من نفس المشاكل وربما لهم نفس الحلم. السبب برأيها، عدم الثقة والخوف من الآخر. تقول: «لحد الآن ليس هناك أي تعاون بيننا. في بريطانيا مثلا، ألاحظ أن هناك علاقة طيبة بين المصممين الشباب، إلى حد أن الكثير منهم يستعملون نفس المعامل لتنفيذ تشكيلاتهم، لأن كل واحد منهم يعرف إمكانياته، وله أسلوبه الذي يميزه، وبالتالي كل واحد منهم واثق من نفسه ومن الآخر. بالنسبة لنا، هناك دائما توجس وخوف من بعضنا البعض، مع أننا عندما نلتقي ونناقش الموضوع، يتحمس الجميع ويكون موافقا على ضرورة التعاون بيننا، لكن عند التطبيق تبدأ العراقيل، وكأننا نخاف من نجاح الآخر».
تخرج من اللقاء وكلماتها «أنا لا أتصنع، ولا أقلد وأومن بأن لكل واحد منا أسلوبه الخاص» ترن في الأذن، فالمؤكد أنها تعرف ما تريده وثقتها بنفسها عالية، لكن يدا واحدة لا تصفق، والمبشر في الأمر أن المستقبل أمامها وردي لأنها لمحت بأن حصلت أخيرا على دعم مستثمر، الأمر الذي سيجعل إمكانية التوسع والوصول إلى شرائح أكبر من الناس، أكبر، لكن في الوقت نفسه، تشعر بأن حرب المصممين العرب لفرض أنفسهم لا يزال يحتاج إلى تدخل خارجي، وبالتالي ربما تكون فعالية فرانكا سوزاني، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الإيطالية الفيتامين الذي يحتاجه مصممو المنطقة لإنعاشهم.
«صنع في السعودية» حلم ممكن لتوفر مدارس موضة ومصممين موهوبين
ريم الكنهل: هناك للأسف توجس وعدم ثقة بين المصممين في منطقتنا وكأننا نخاف من نجاح الآخر
«صنع في السعودية» حلم ممكن لتوفر مدارس موضة ومصممين موهوبين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة