يردد سكان قرية حردين أغنية حزينة أصبحت تقليدا في كل مرة يقيمون فيها ذكرى لأولادهم الذين غرقوا في سفينة تايتانيك، لكن لم يعطهم أحد أهمية إلى أن بدأت الصحف بالكتابة عنهم قبل سنوات قليلة، ومن شاهد فيلم «تايتانيك» قد سمع كلمة من امرأة باللهجة اللبنانية تقول لأبنائها «يلا يلا» أثناء إجلاء ركاب السفينة قبل غرقها، وأدخلها مخرج الفيلم لكي يعطي دلالة على أن عربا كانوا بين الضحايا، لكن هذا كل ما ذكر عنهم.
وفي الوقت الذي أهملت فيه الحكومة اللبنانية تماما مصير هؤلاء، حتى اليوم، تحدث الكاتب اللبناني وابنُ حردين، الدكتور رفيق باسيل، في كتابه عن قريته بعنوان «مسيرة البطولات والدين في بلدة الثلاثين حردين»، عن تاريخ قريته الواقعة في شمال لبنان، وعن كارثة تايتانيك، فكثير من ضحايا السفينة العرب كانوا منها. وأراد بذلك توثيق ما حدث يومها وكيف تم إنقاذ بعضهم في ظروف غير عادية، معتمدا على معلومات لأقارب الحردينيين الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة، أو من أنقذ بعضهم.
ففي الـ14 من أبريل (نيسان) الحالي يكون قد مرّ على غرق هذه السفينة العملاقة 104 سنوات (غرقت عام 1912) وقيل يومها عنها إنها «لا تغرق ولا تحرق»، لكن نتيجة تقدير خاطئ من القبطان اصطدمت بجبل جليدي في المحيط الأطلسي، وكانت في طريقها من لندن إلى نيويورك، ومات نتيجة غرقها والانخفاض الشديد في درجات حرارة المياه 1517 من أصل 2223 راكبا. وقد تحولت هذه الكارثة إلى مادة مشوقة للأفلام والكتب، وحطام السفينة إلى هدف لمن يبحث عن ثروة في أعماق البحار، فأي شيء يعثر عليه كنز ثمين.
والجانب الذي غُيّب تماما في الكارثة، ولا يذكره أحد، مصير مجموعة من قرية حردين أرادوا الهجرة إلى الولايات المتحدة هربا من الفقر والحرب، وتم إنقاذ القليل منهم.
ولقد استند الكاتب إلى معلومات كتبها من تم إنقاذهم، أو أورثوها لأبنائهم، أو أخبار وثّقها أقاربهم الذين سارعوا لاستقبالهم في مرفأ نيويورك الأميركي، فمع أن أسماءهم كانت واردة في لائحة الركاب، لكن لم يتم تصنيفهم بحسب الجنسيات، ولذلك بقوا منسيين، وكانوا 60 امرأة ورجلا وطفلا، نجا منهم 9 فقط.
ففي الفصل الذي تحدث فيه الكاتب عن الكارثة، شرح أيضا سبب هجرة أهل القرية إلى أميركا، حيث وصلتهم رسائل من مهاجرين سابقين في ويلكسبوري في ولاية بنسلفانيا تقول: «احضروا إلينا، لقد هيأنا لكم مكانا للنوم وآخر للعمل، نحن في انتظاركم»، ومع إطلالة بشائر ربيع عام 1912 تجمع عدد من رجال قرية حردين بصحبة النساء والعرائس والأولاد والأطفال على أحد أرصفة مرفأ بيروت ليركبوا السفينة إلى مرفأ نيويورك، وفي رؤوسهم حلم واحد هو جمع ثروة، وكان من بينهم أنطوان يزبك الذي تزوج قبل أيام قليلة عروسه سيلانة، وشقيقتها أمينة وطفلاها، وبطرس الخوري ثابت وزوجته زهية وطفلهما الرضيع حنا، وابن عم بطرس الشاب توفيق نخلة، وشليطا بشير عاصي وزوجة أخيه تمام مع طفلها الرضيع أسعد، وبطرس سمعان شيمعون مع ابن أخته إلياس سمعان، ومبارك حنا عاصي، وزهير بدر خليل ومطانيوس الحوراني وأسعد طنوس.
* تعديل خطة السفر سبب الكارثة
وأبحرت السفينة تحمل المهاجرين، وتحمل آمال أهلهم الفقراء بالحصول منهم على عون مالي في المستقبل، فرست في مرفأ مرسيليا الفرنسي من أجل الصعود إلى سفينة من هناك، لكن عندما سمعوا بأخبار تايتانيك العجيبة التي «لا تحرق ولا تغرق»، عدّلوا خطة سفرهم ليسافروا على متنها، وانتظروا 30 يوما، رغم تكاليف الحياة ونفقات السفر الإضافية في انتقالهم من مرفأ مرسيليا إلى مرفأ شربورغ الفرنسي على المحيط الأطلسي، إلى حين وصلت السفينة الساحرة، فركبوها إلى مرفأ ساوث هامبتون الإنجليزي لتحمل ركابا آخرين، بعدها انطلقت باتجاه نيويورك في عصر يوم 14 من شهر أبريل عام 1912، لكن المصير المشؤوم كان في انتظارها بعد أربع ساعات ونصف الساعة. فعند الساعة الـ11 و40 دقيقة من مساء ذلك اليوم اهتزت القلوب هلعا، وانقلبت الآمال رعبا، لأن جبلا من الجليد الزاحف اصطدم فجأة بجسم السفينة المثقلة بهموم الناس الهاربين من الفقر والمشكلات، فشق هيكلها بعدوانيته الشرسة. وكان لا بد من الإسراع لإنقاذ أكبر عدد ممكن من النساء والأطفال. إلا أن أمينة وولديها جورج وحليم، وشقيقتها سيلانة وتمام وطفلها أسعد، وزهية وطفلها حنا، وشاب اسمه مبارك، هم فقط الذين أنقذوا والتقوا في اليوم التالي من الكارثة على ظهر سفينة الإنقاذ كارباتيا مع نحو 1517 من أصل 2223 راكبا كانوا على متن تايتانيك.
يذكر الكاتب، نقلا عن معلومات من أنقذ، أن شباب القرية قرروا مواجهة الموت المحتم حين ركعوا وصلوا طالبين الرحمة، وبعد أن ودعوا النساء والأطفال صاح أحدهم: «دبكة يا شباب»، فوقف الـ11 شابا على صف واحد متماسكين بالأيدي وراحوا يدبكون على أنغام مجوز (ناي) أحدهم، ويرددون بصوت واحد لحنا شعبيا، وهو: «عالدّيها الديّها الديهّا.. العصبة انحلت شديّها».
* أُنقِذُوا بأعجوبة
وحسب الكاتب رفيق باسيل، فإن تمام وطفلها الرضيع أسعد عاشا مأساة تايتانيك بحذافيرها، فخلال الكارثة اضطرت تمام لإعطاء طفلها إلى عمه شليطا لكي تتمكن من الصعود إلى قارب النجاة وبعدها تأخذه منه، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ إن القارب نزل بسرعة إلى البحر قبل أن تتمكن تمام من الصعود إليه، فبدأت تصرخ وتبكي، لكن من دون فائدة. في هذه الأثناء رأى شليطا امرأة أجنبية تصعد إلى قارب إنقاذ آخر، فما كان منه إلا أن ناولها أسعد بسرعة لإنقاذه من الموت المحتم، ففوجئت هذه السيدة بأن بين يديها طفلا، لكنها بالفعل احتضنته إلى حين وصولها مع الناجين إلى مركز المعالجة في نيويورك، وهناك كانت تمام تندفع بين الناس تبحث عن ابنها، وحانت منها التفاتة؛ حينها رأت إحدى الممرضات حاملة طفلها أسعد، فصرخت: «هذا هو ابني»، لأنها عرفته من الغطاء الذي كانت تلفه به. والعجيب في الأمر، أنه وبعد مرور 60 سنة على إنقاذ أسعد وغرق عمه شليطا ظهرت تلك السيدة الأجنبية في اليوم نفسه، أي في 14 أبريل عام 1972.. ففي ذكرى غرق تايتانيك، عندما نقل الصحافي ديفيد دوكوسمو في إذاعة «وايلك» في ويلكسبوري قصة تمام على الهواء في مقابلة معها، سمع بعد أيام قليلة، بالصدفة، من محطة تلفزيون «إن بي سي» خلال تحضيره عرضا عن الذكرى المأسوية، مقابلة مع الأميركية أدوينا مكنزيا، وكان عمرها 85 سنة، روت فيه تفاصيل عن إنقاذها طفلا رضيعا لم تره بعد الحادثة، فما كان منه إلا أن أجرى اتصالات من أجل جمع المرأتين معا، وكان لقاءً غير عادي، بعده أصبحتا صديقتين حميمتين.
يذكر أن السيدة أدوينا لم تكن تتوقع استمرار حياتها حتى هذه السن لأنها كانت تعاني مرضا خطيرا، وقالت إنها شعرت عندما أنقذت الطفل بشعور غريب أضاء لها الأمل بحدث ينتظرها بعد النجاة.
* العروس الأرملة
بدورها، سيلانة العروس - وكانت في الـ15 من عمرها وأصبحت بعد أيام قليلة أرملة - وشقيقتها أمينة، ظلتا ترويان تفاصيل تلك الليلة المشؤومة بحسرة وحزن سنوات طويلة، فهي تزوجت من أنطوني يزبك الذي عاد إلى حردين بعد أن كوّن ثروة صغيرة في ويلكسبوري من تجارة الأحذية كي يختار عروسا له من هناك، وبعد العرس أصرا على العودة على متن سفينة تايتانيك، ومعها شقيقتها أمينة وولدا شقيقتها. وعندما اصطدمت السفينة بجبل الجليد كان الجميع في طبقات الدرجة الثالثة السفلى فأسرعت سيلانة وأنطوني إلى أمينة وحمل كل منهما ولدا وركضا إلى السطح، ولما أمر الضباط النساء والأطفال بالصعود إلى قوارب النجاة من دون الرجال أبت سيلانة ترك عريسها، فما كان من أحد الضباط إلا أن صوّب مسدسه نحو العريس، مؤكدا لها بأنه سيصعد إلى القارب المقبل، لكنها لم تره مطلقا بعد ذلك.
وهنا تساءل الكاتب: هل موضوع فيلم «تايتانيك» الأخير الذي سجل نجاحا كبيرا مستوحى من قصة سيلانة وعريسها وتهديد الضابط، فهو شبيه بمشهد الوداع المؤلم بين بطلي الفيلم؟ فحسب ما روته سيلانة لأبنائها بعد ذلك، فإنها شدت رأس عريسها إلى صدرها، وقالت: «نموت أو نحيا معا»، بعدها انقطع حبل قارب النجاة وسقط في الماء وأغمي على سيلانة إلى أن وجدت نفسها قد أنقذت بأعجوبة وعلى صدرها جورج، طفل شقيقتها أمينة، حتى إن هذا الطفل كان معرّضا للموت، فهو وقع في الماء وانتشل بمساعدة من كان مع أمه وخالته، لكن أين طفلها الثاني حليم؟ لقد أشفق عليه أحد الركاب وألبسه سترة النجاة وأنزله في أحد الزوارق، بعدها التقى بوالدته.
* الفستان أنقذ الشاب مبارك
ومبارك هو الرجل الوحيد من لبنان الذي أنقذ من أصل 12 شابا، لكن ضمن ظروف غير عادية، فقد وصل إلى شاطئ الأمان بعيدا عن أعين الضباط، ففي غفلة منهم أخفته امرأة أجنبية كانت في مركب الإنقاذ تحت ثوبها الفضفاض، وكانت قد دعته للنزول معها بحجة مساعدتها، وظل مختبئا تحت الثوب إلى أن انتشلت سفينة الإنقاذ من كانوا في قوارب الإنقاذ. ولقد عاش مبارك في مدينة ميتشغان وصار اسمه برت جونز، وأدار فندقا صغيرا حتى عام 1952.
واهتمت مؤسسة الصليب الأحمر فقط بضحيتين ممن غرقوا من اللبنانيين (وكانوا يحملون جوازات سفر تركية) فأرسلت أربع رسائل تسأل عن وسيلة من أجل إيصال المساعدة إلى أرملة الغريق شليطا طنوس بشير من أسرة عاصي وأطفالها الأربعة، ورسالتين من وكالات السفر البحرية لإعلام ذوي الغريق يوسف جرجس سمعان شيمعون بأن جثته قد انتشلت ودفن في مقبرة فايرفيلد في مرفأ هاليفاكس بكندا، وتحدثت عن مبالغ بسيطة وأغراض وجدت معه.
كاتب يوثق حادثة غرق سفينة «تايتانيك» واللبنانيون على متنها
استند إلى معلومات كتبها الناجون أو أقاربهم الذين استقبلوهم في مرفأ نيويورك
كاتب يوثق حادثة غرق سفينة «تايتانيك» واللبنانيون على متنها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة