مصرع الحداد يستحضر إرث أزمات الطيران الليبي منذ سقوط القذافي

انتقادات لاستمرار الاعتماد على شركات أجنبية في تنقلات رسمية حساسة

من مراسم تشييع الحداد وقادة عسكريين في مدينة مصراتة الليبية (بلدية مصراتة)
من مراسم تشييع الحداد وقادة عسكريين في مدينة مصراتة الليبية (بلدية مصراتة)
TT

مصرع الحداد يستحضر إرث أزمات الطيران الليبي منذ سقوط القذافي

من مراسم تشييع الحداد وقادة عسكريين في مدينة مصراتة الليبية (بلدية مصراتة)
من مراسم تشييع الحداد وقادة عسكريين في مدينة مصراتة الليبية (بلدية مصراتة)

أعاد حادث سقوط طائرة «فالكون 50» الذي أودى بحياة المشير محمد الحداد رئيس أركان القوات التابعة لحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، وعدد من القيادات العسكرية الأسبوع الماضي، إلى دائرة النقاش ملف إرث الأزمات المتراكمة التي يعاني منها قطاع الطيران في ليبيا منذ سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي.

علامات استفهام كثيرة

أثار هذا الحادث تساؤلات كثيرة، لا سيما في ظل سفر مسؤول عسكري رفيع المستوى على متن طائرة فرنسية مستأجرة من شركة يوجد مقرها في مالطا، ما سلط الضوء على مشكلات وتعقيدات إدارية وأمنية طالما أحاطت بإدارة الطيران المدني في البلاد منذ سنوات، خاصة في ظل تدهور متوارث في البنية المؤسسية، واستمرار الاعتماد على شركات أجنبية في تنقلات رسمية حساسة، رغم توفر موارد مالية كبيرة من عائدات النفط.

علامات الاستفهام هذه طرحها الباحث الأكاديمي في الدراسات السياسية والاستراتيجية، محمد مطيريد، لكن تحديداً «بشأن أوضاع شركات الطيران الحكومية، من حيث عدد الطائرات الصالحة للخدمة، وإجراءات حماية كبار المسؤولين خلال تنقلاتهم الخارجية، باعتبارها جزءاً من صورة الدولة وسيادتها».

الحداد في اجتماع قادة عسكريين ليبيين قبل سقوط طائرته في تركيا (رئاسة الأركان في غرب ليبيا)

ويستحضر مطيريد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» حجم الخسائر التي تكبدها قطاع الطيران المدني منذ إسقاط نظام القذافي، مؤكداً أنه «كان من أكثر القطاعات تضرراً جراء الصراعات السياسية والاضطرابات الأمنية، التي شهدتها البلاد بين عامي 2011 ومنتصف عام 2020، وهو ما ساهم في تقلص حاد للأسطول الجوي العامل بالبلاد».

وذكر مطيريد أن تدمير وحرق مطار طرابلس الدولي منتصف عام 2014 شكّل «ضربة قاسية» لهذا القطاع، بعدما أفضى إلى تدمير نحو 90 في المائة من أسطول الشركتين الحكوميتين، باستثناء الطائرات التي كانت خارج البلاد في مهام تشغيلية، أو لأغراض الصيانة.

أعاد سقوط طائرة «فالكون 50» الذي أودى بحياة الحداد إلى دائرة نقاش ملف إرث الأزمات المتراكمة التي يعاني منها قطاع الطيران في ليبيا (أ.ب)

وتوجد في ليبيا شركتان حكوميتان، هما: «الخطوط الجوية الليبية»، التي تجاوزت ستين عاماً على تأسيسها، و«الخطوط الأفريقية»، التي تأسست عام 2007، إلى جانب عدد محدود من شركات الطيران الخاصة، مثل «البراق» و«أويا» و«سكاي ليبيا»، و«الأجنحة الليبية»، و«برنيق»، و«غدامس».

أزمات متفاقمة

تفاقمت أزمات الطيران الليبي، بحسب مطيريد، مع فرض دول الاتحاد الأوروبي حظراً على الطيران الليبي، ما فاقم من عزلة القطاع، محدداً الوجهات المتاحة في الأردن وتونس وتركيا ومصر والسعودية وإيطاليا، وهو ما أسفر عن أضرار جسيمة للطيران والاقتصاد الوطني.

وأرجع الباحث الليبي هذه الأزمة جزئياً إلى «الانقسام السياسي بين شرق البلاد وغربها، حيث أدى غياب مركزية القرار إلى عدم طرح خطط لإعادة تأهيل الناقل الوطني، سواء بشراء طائرات جديدة، أو صيانة المتبقي من الأسطول، فضلاً عن ضعف الرقابة وتراكم الديون، واتساع الفجوة بين المصروفات والإيرادات، خاصة في ظل التوسع بالتعيينات».

طائرة تابعة للخطوط الجوية الليبية (الصفحة الرسمية للشركة)

وتعيش ليبيا ازدواجية في السلطة بين حكومة «الوحدة» برئاسة عبد الحميد الدبيبة في غرب البلاد، وحكومة «الاستقرار» المكلفة من البرلمان برئاسة أسامة حماد التي تدير المنطقة الشرقية وبعض مدن الجنوب، والمدعومة من قائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر.

ويرى مراقبون أن ضعف تعويض التراجع في قطاع الطيران المدني الليبي يعود إلى التجاذبات الأمنية في الغرب، وسيطرة ميليشيا ما تعرف بـ«جهاز الردع» على مطار معيتيقة، بينما اكتفى المسؤولون في شرق البلاد بالاعتماد على شركات طيران خاصة، وطائرات مستأجرة في رحلاتهم الخارجية، نتيجة الاعتراف الدولي المحدود، وتركيزهم على مشاريع إعادة الإعمار.

نموذج من إحدى الطائرات التابعة للخطوط الجوية الليبية (الشرق الأوسط)

لكن رغم تراكم الأزمات، التي تثقل كاهل قطاع الطيران الليبي، فقد عبّر مدير «المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية»، الشريف عبد الله، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» عن الاستغراب من «عدم تخصيص طائرة تابعة لرئاسة الأركان لنقل قياداتها، والاكتفاء بالاعتماد على طائرات مستأجرة من شركات أجنبية، رغم توفر طائرات تُستخدم من قبل المجلس الرئاسي، أو حكومة الوحدة لنقل الوفود العسكرية الرفيعة». ولفت إلى أنه «كان من الممكن، على أقل تقدير، اللجوء إلى شركات ليبية خاصة معروفة بنقل كبار الشخصيات، بما يوفّر قدراً أكبر من الانضباط والرقابة».

بدوره، تساءل الخبير في النقل الجوي، محمد عيسى، عن أسباب عدم إعادة تفعيل الطائرات المسجّلة باسم الدولة، والمركونة منذ سنوات في مطارات أوروبية، معتبراً أن «وضع مصير كبار المسؤولين «في عهدة طائرات مستأجرة من شركات أجنبية يثير تساؤلات جدية، في ظل غياب معلومات واضحة حول خلفيات تلك الشركات، أو سجلها الفني والتشغيلي».

في السياق ذاته، وصف الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، جلال حرشاوي، ترتيبات تنقّل كبار السياسيين والضباط العسكريين خلال السنوات الأخيرة بأنها «غير منتظمة وغير كافية»، مذكّراً بأن «فريق خبراء الأمم المتحدة انتقد عام 2023 نقل المشير خليفة حفتر بطائرة خاصة، باعتبار ذلك خرقاً لحظر السلاح». وأوضح حرشاوي أن «التعقيد القانوني، وسوء إدارة المال العام انعكسا سلباً على ترتيبات سفر كبار المسؤولين».

وقدّر تقرير لهيئة الرقابة الإدارية قبل عام إجمالي ديون «الخطوط الليبية» بنحو 1.12 مليار دينار، مع تراجع عدد الطائرات قيد الخدمة من 24 طائرة عام 2011 إلى ثلاث طائرات فقط، نتيجة تداعيات حربي عامي 2014 و2019.

دعوات لإنقاذ الطيران الحكومي

على وقع حادث سقوط طائرة الحداد ورفاقه من القادة العسكريين الليبيين، تجددت الدعوات إلى حلول عاجلة لإنقاذ الطيران الحكومي باعتباره رمزاً سيادياً، علماً بأن حكومة «الوحدة» سبق أن أعلنت قبل عام عن إطلاق شركة طيران جديدة، تهدف إلى معالجة أوضاع شركات الطيران الحالية.

عانى قطاع الطيران في ليبيا مشكلات كثيرة منذ سقوط نظام الرئيس السابق معمر القذافي (متداولة)

وفي هذا السياق، دعا الوكيل السابق لوزارة الخارجية بالحكومة الليبية المؤقتة، حسن الصغير، إلى «وضع خطة عاجلة لإنقاذ الخطوط الجوية الليبية، وعدم التعامل معها بمنطق الربح التجاري فقط»، بينما ذهب مدير «المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية»، إلى الحديث عن ضرورة وجود أسطول جوي كبير للدولة الليبية، يراعي البعد الاقتصادي، وقلة عدد السكان مقارنة بدول الجوار».


مقالات ذات صلة

الدعوة لمناقشة «مرتبات النواب» تفجر تباين مواقف أعضاء البرلمان الليبي

شمال افريقيا جلسة مجلس النواب الليبي في بنغازي الثلاثاء (المكتب الإعلامي للمجلس)

الدعوة لمناقشة «مرتبات النواب» تفجر تباين مواقف أعضاء البرلمان الليبي

تباينت المواقف داخل مجلس النواب الليبي، وكذلك بين أوساط مواطنين، إثر دعوة أطلقها أحد النواب إلى تخصيص جلسة لمناقشة ما وصفه بانقطاع رواتب أعضاء المجلس.

جاكلين زاهر (القاهرة)
شمال افريقيا صورة وزعتها مفوضية الانتخابات للقاء رئيسها السايح مع البرعصي

«رواتب العسكريين» تصطدم بالخلاف السياسي بين أفرقاء ليبيا

دخل المشهد السياسي الليبي مرحلة جديدة من التصعيد والتجاذب بعد الجدل الذي أثاره إقرار البرلمان زيادة مرتبات العسكريين بنسبة 150 % وهي خطوة قوبلت بمعارضة

خالد محمود (القاهرة)
العالم العربي الدبيبة خلال زيارة إلى تاورغاء قبل 4 أعوام (مكتب الدبيبة)

أهالي تاورغاء يشكون تجاهل «الوحدة» الليبية لأحكام القضاء

أعرب سياسيون ونشطاء في مدينة تاورغاء الليبية عن استيائهم وشكواهم من تجاهل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة لحكمين قضائيين بوقف قرار الحكومة ضم المدينة إلى مصراتة.

علاء حموده (القاهرة)
شمال افريقيا شرطي في أحد شوارع العاصمة الليبية طرابلس (مديرية أمن طرابلس)

«شلل ليلي» مستمر في طرابلس على وقع الاحتجاجات... و«الوحدة» تغض الطرف

تواصل لليوم الثالث مشهد «الشلل الليلي» في بعض أحياء العاصمة الليبية طرابلس على وقع احتجاجات مناهضة لحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة.

خالد محمود (القاهرة)
شمال افريقيا مهاجرون غير نظاميين من غانا قبيل ترحيلهم من طرابلس (وزارة الداخلية بغرب ليبيا)

اتهامات بـ«انتهاكات جسيمة» ضد مهاجرين تلاحق ميليشيا ليبية

تلاحق ميليشيا مسلحة في غرب ليبيا اتهامات حقوقية متزايدة بارتكاب «انتهاكات جسيمة» ضد مهاجرين غير شرعيين من جنسيات متعددة تشمل المصرية والسورية والعراقية.

علاء حموده (القاهرة)

احتجاجات متواصلة في الصومال رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«الإقليم الانفصالي»

مظاهرات في مدن هيرشبيلى رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» (وكالة الأنباء الصومالية)
مظاهرات في مدن هيرشبيلى رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» (وكالة الأنباء الصومالية)
TT

احتجاجات متواصلة في الصومال رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«الإقليم الانفصالي»

مظاهرات في مدن هيرشبيلى رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» (وكالة الأنباء الصومالية)
مظاهرات في مدن هيرشبيلى رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» (وكالة الأنباء الصومالية)

تتواصل المظاهرات الرافضة للاعتراف الإسرائيلي بالإقليم الانفصالي في الصومال، غداة زيارة قام بها رئيس البلاد حسن شيخ محمود إلى أنقرة، وصدور رفض مشترك لخطوة حكومة بنيامين نتنياهو.

تلك التحركات المكثفة تشي بأن الصومال مستمر لآخر مدى في رفض هذا القرار والسعي لمنع حدوثه، وإرسال رسائل للمجتمع الدولي للضغط على إسرائيل لتجميد ذلك الاعتراف، بحسب تقديرات خبير في الشؤون الأفريقية تحدث لـ«الشرق الأوسط»، مؤكداً أن زيارة حسن شيخ محمود لتركيا «لها ما بعدها، وقد تعزز الوجود التركي العسكري بمقديشو لدعم استقرار ووحدة الصومال، بجانب الضغط على هرجيسا التي تتمتع بعلاقات جيدة مع أنقرة».

وأفادت «وكالة الأنباء الصومالية»، بأن «المظاهرات الحاشدة في عدد من المدن والمحافظات في جمهورية الصومال الفيدرالية استمرت، الأربعاء، احتجاجاً على التدخل الإسرائيلي وانتهاك سيادة ووحدة أراضي الصومال».

وشهدت العاصمة مقديشو، ومُدن بيدوا بولاية جنوب الغرب، وحدر بإقليم بكول، وعدادو، وغورعيل بإقليم غلغدود بولاية غلمدغ والمحافظات التابعة لولاية هيرشبيلى، مظاهرات حاشدة رفضاً لـ«التدخل الإسرائيلي وانتهاك سيادة ووحدة أراضي الصومال».

واحتشد آلاف المواطنين في ساحات واسعة حاملين العلم الصومالي، مرددين هتافات تؤكد رفضهم لأي محاولة للاعتراف بفصل أو تقسيم الأراضي الصومالية، لا سيما في المناطق الشمالية من البلاد.

احتجاجات في مدينة جوهر بمحافظة شبيلي الوسطى الأربعاء رفضاً للاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» (وكالة الأنباء الصومالية)

والجمعة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في بيان لمكتبه، «الاعتراف الرسمي بجمهورية أرض الصومال دولة مستقلة ذات سيادة»، بينما لا يتمتع ذلك الإقليم باعتراف رسمي منذ إعلانه الانفصال عام 1991 .

الخبير في الشؤون الأفريقية، مدير «مركز دراسات شرق أفريقيا» في نيروبي، الدكتور عبد الله أحمد إبراهيم، يرى أن الاحتجاجات تحمل رسائل للرأي العام الدولي، من أجل الضغط لتراجع إسرائيل عن اعترافها، خاصة بعدما رفض مجلس الأمن الدولي هذا المسار، مستبعداً أن تستخدم الحكومة تلك المظاهرات في حسابات داخلية.

وتأتي تلك التحركات غداة زيارة قام بها حسن شيخ محمود لأنقرة، وأكد خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره التركي رجب إردوغان، أن الحكومة الصومالية ماضية في جهودها للدفاع عن سيادة البلاد ووحدتها. فيما قال إردوغان إن «الحفاظ على وحدة الصومال وسلامة أراضيه في كل الظروف له أهمية خاصة بنظرنا. وقرار إسرائيل الاعتراف بأرض الصومال غير قانوني وغير مقبول».

ويذكر أن أنقرة تقدم دعماً عسكرياً واقتصادياً لسلطات الصومال الذي يشهد حرباً أهلية منذ مطلع تسعينات القرن العشرين، وتسهم أنقرة في إعادة بناء جيشه وبنيته التحتية، وتسعى في الوقت نفسه إلى ضمان حضوره، البحري أيضاً، في شرق أفريقيا.

وبحسب إبراهيم، فإن زيارة حسن شيخ محمود لأنقرة «مهمة للغاية وفارقة في مسار الأزمة الحالية»، موضحاً «أن تركيا حليف استراتيجي للصومال في الآونة الأخيرة، ولديها وجود عسكري رمزي، وأيضاً تتمتع بعلاقات مع هرجيسا»، متوقعاً أن ترسل تركيا عتاداً عسكرياً بعد هذه الزيارة لدعم الجيش الصومالي.


رحيل محمد الشافعي... صحافي الميدان والملفات الصعبة

الراحل الأستاذ محمد الشافعي في طريقه إلى أفغانستان بطائرة عسكرية في إحدى رحلاته إلى هناك حيث أجرى مقابلات عدة (الشرق الأوسط)
الراحل الأستاذ محمد الشافعي في طريقه إلى أفغانستان بطائرة عسكرية في إحدى رحلاته إلى هناك حيث أجرى مقابلات عدة (الشرق الأوسط)
TT

رحيل محمد الشافعي... صحافي الميدان والملفات الصعبة

الراحل الأستاذ محمد الشافعي في طريقه إلى أفغانستان بطائرة عسكرية في إحدى رحلاته إلى هناك حيث أجرى مقابلات عدة (الشرق الأوسط)
الراحل الأستاذ محمد الشافعي في طريقه إلى أفغانستان بطائرة عسكرية في إحدى رحلاته إلى هناك حيث أجرى مقابلات عدة (الشرق الأوسط)

ودّعت صحيفة «الشرق الأوسط»، الأربعاء، واحداً من أبرز أعمدتها الصحافية، الأستاذ محمد الشافعي، الذي رحل عن عمر ناهز 74 عاماً، بعد مسيرة مهنية حافلة امتدت لأكثر من أربعين عاماً، قضاها باحثاً عن الخبر، وملاحقاً للتفاصيل في أكثر الملفات تعقيداً وحساسية.

كان الشافعي صحافياً متخصصاً في شؤون الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وأحد الأسماء التي أسهمت مبكراً في بناء هذا الملف داخل الصحافة العربية، واضعاً معايير مهنية صارمة في التوثيق والتحليل والاقتراب من المصادر. التحق بصحيفة «الشرق الأوسط»، عام 1982، ليبدأ فصلاً طويلاً من العطاء المهني اتسم بالرصانة والدقة والالتزام الصارم بأخلاقيات العمل الصحافي.

الراحل الأستاذ محمد الشافعي في مكتبه بجريدة بعدسة الزميل عادل السالمي (الشرق الأوسط )

وُلد محمد الشافعي في عام 1951، وفي سيرته تنوّع معرفي لافت؛ إذ تخرج في كلية الآثار - جامعة القاهرة عام 1974، حاصلاً على ليسانس الآثار الإسلامية، قبل أن يشد الرحال إلى لندن عام 1977. هناك، اتجه إلى دراسة الترجمة، فحصل على دبلوم الدراسات العليا في الترجمة من جامعة ويستمنستر، كما تلقى دورات متخصصة في الترجمة الصحافية من جامعة لندن للدراسات الشرقية في منتصف الثمانينات، وهو ما أسس لقدرته الفريدة على التعامل مع المصادر الأجنبية، والوثائق المعقدة، والنصوص ذات الحساسية الأمنية والسياسية العالية.

مع السفير البريطاني السابق في أفغانستان مارك سيدويل (الشرق الأوسط)

بدأ مشواره الصحافي في لندن في مطلع الثمانينات، متنقلاً بين عدد من الصحف العربية الصادرة في الخارج، منها صحيفة «المسلمون»، التابعة للشركة السعودية، عام 1986، قبل توقفها، ثم صحيفة «العرب» الدولية في لندن، لفترة قصيرة، ليعود بعدها إلى الشركة السعودية عبر صحيفة «الظهيرة»، التي تأسست إبان غزو العراق للكويت، في مرحلة سياسية شديدة الاضطراب، شكّلت وعيه المبكر بطبيعة الصراعات الإقليمية وتشابكاتها.

ومع انتقاله إلى صحيفة «الشرق الأوسط» رسمياً في عام 1991، دخل الشافعي من بوابة قسم الرياضة، حيث أمضى قرابة خمسة عشر عاماً، أظهر خلالها مهنية عالية وقدرة لافتة على المتابعة والتحليل، قبل أن ينتقل إلى محطته الأبرز حين تولى ملف الإرهاب، ليصبح واحداً من رواده في الصحافة العربية، معتمداً على التوثيق الدقيق، والتحليل العميق، والابتعاد عن الإثارة، في تناول قضايا شائكة تتقاطع فيها السياسة بالأمن والفكر.

ومع أحد الجنود الأميركيين في كابل (الشرق الأوسط)

وفي هذا السياق، أنجز محمد الشافعي واحدة من أهم التجارب الصحافية العربية في هذا المجال؛ إذ أجرى حوارات مباشرة مع كبار قادة تنظيم «القاعدة»، كان من أبرزهم الملا محمد عمر، إلى جانب عدد من قادة حركة «طالبان»، وسافر إلى أفغانستان للقاء هؤلاء القادة في ظروف بالغة الصعوبة والخطورة. وقد شكّلت تلك الحوارات، بما احتوته من معلومات وشهادات نادرة، مرجعاً أساسياً للباحثين والصحافيين والمهتمين بملف التنظيمات الجهادية، وأسهمت في تقديم فهم أعمق لبنية هذه الجماعات وأفكارها ومساراتها.

وخلال الحرب على تنظيم «القاعدة»، قام الشافعي بالعديد من الزيارات الميدانية للقواعد الأميركية في أفغانستان، ورافق القوات الدولية في مناطق الاشتباك، وأجرى تحقيقات صحافية مباشرة من أرض المعركة، نقل من خلالها صورة دقيقة عن تطورات المواجهة، وطبيعة العمليات، وتعقيدات المشهد الأمني، ما أضفى على تغطيته بعداً ميدانياً نادراً في الصحافة العربية آنذاك.

كما أجرى الشافعي حوارات عديدة مع أبناء أسامة بن لادن، قدّم من خلالها مادة صحافية توثيقية مهمة، كشفت عن جوانب إنسانية وتنظيمية قلّما تناولتها الصحافة، وأكدت حضوره المهني القادر على الوصول إلى المصادر المغلقة، دون أن يفقد توازنه الصحافي أو موضوعيته.

وفي امتداد لهذا المسار التوثيقي النادر، كان محمد الشافعي من الصحافيين العرب القلائل الذين أجروا مقابلات داخل سجن «غوانتانامو»، حيث يُحتجز عدد من المعتقلين من عناصر تنظيم «القاعدة». وقد شكّلت هذه المقابلات إضافة نوعية واستثنائية لملف الإرهاب، لما تضمنته من شهادات مباشرة من داخل التجربة التنظيمية، وأسهمت في تفكيك الخطاب الآيديولوجي للتنظيم، وكشفت عن آليات الاستقطاب والبنية الداخلية له، وكان لها أثر كبير في إثراء المحتوى الصحافي والتحليلي العربي حول هذه الظاهرة.

... ومع نائب الرئيس الأفغاني السابق عبد الكريم خليلي (الشرق الأوسط)

وشارك الراحل في تأليف كتاب «رجال القاعدة في إيران... الملاذ الآمن والتحالف المشبوه»، الذي يُعد من الأعمال المرجعية المهمة في هذا المجال، مجسداً خلاصة سنوات طويلة من البحث والمتابعة الدقيقة.

وتبرز أهمية هذا الكتاب بوصفه أحد أوائل الأعمال العربية التي قدّمت قراءة توثيقية معمّقة لطبيعة العلاقة بين إيران وتنظيم «القاعدة»، كاشفاً عن أنها لم تكن علاقة طارئة، بل ممتدة الجذور، وقائمة على التكيّف وتبادل المصالح رغم التناقضات المعلنة.

واعتمد الكتاب على تحقيقات خاصة ووثائق نادرة، في مقدمتها «وثائق أبوت آباد»، التي أظهرت إصرار قيادة التنظيم، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، على تحييد إيران واستثنائها من عمليات «القاعدة»، مقابل توفير ملاذات آمنة ومسارات عبور ودعم غير مباشر. كما ربط بين هذه المعطيات وأحكام القضاء الأميركي التي حمّلت طهران مسؤولية دعم عناصر متورطة في هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، ما جعل الكتاب مرجعاً مهماً لفهم تداخل الإرهاب مع سياسات الدول في واحدة من أكثر قضايا الأمن العالمي تعقيداً.

الراحل الأستاذ محمد الشافعي في مكتبه بجريدة (الشرق الأوسط ) بعدسة الزميل عادل السالمي

وعلى المستوى الشخصي، تزوّج محمد الشافعي بعد وصوله إلى لندن نهاية السبعينات من سيدة تركية الأصل، ورُزق منها بولد وبنت. وقد سار الابن، وهو محمود الشافعي، على خطى والده بالعمل الصحافي من بوابة الترجمة؛ إذ عمل في قسم الترجمة بصحيفة «الشرق الأوسط» لفترة تقارب 3 سنوات.وحتى قبل ساعات قليلة من رحيله، ظل الشافعي وفيًّا لمهنته، إذ كتب عددًا من الموضوعات الصحافية وأرسلها إلى موقع صحيفة «الشرق الأوسط»، وتواصل هاتفيًا مع عدد من زملائه، متابعًا الشأن التحريري كما اعتاد طوال مسيرته، وبعدها سلم روحه الكريمة إلى بارئها.

برحيل محمد الشافعي، تخسر الصحافة العربية صحافياً هادئاً، مثابراً، عُرف بين زملائه بالانضباط والتواضع، وبالعمل بصمت خلف الخبر، دون ضجيج أو ادعاء. وتبقى سيرته المهنية شاهداً على جيل آمَن بالصحافة رسالةً ومسؤولية، وترك أثره في المهنة بالكلمة الدقيقة والمعرفة العميقة.

رحم الله محمد الشافعي، وألهم أسرته وزملاءه ومحبيه الصبر والسلوان.


مع مطلع 2026... المصريون يترقبون وعوداً بـ«جني الثمار» بعد عام قاسٍ

مصريون في سوق العتبة الشعبي بوسط القاهرة (تصوير الشرق الأوسط)
مصريون في سوق العتبة الشعبي بوسط القاهرة (تصوير الشرق الأوسط)
TT

مع مطلع 2026... المصريون يترقبون وعوداً بـ«جني الثمار» بعد عام قاسٍ

مصريون في سوق العتبة الشعبي بوسط القاهرة (تصوير الشرق الأوسط)
مصريون في سوق العتبة الشعبي بوسط القاهرة (تصوير الشرق الأوسط)

ما إن قرأت مروة عابد، أمينة إحدى المكتبات العامة التابعة لوزارة الثقافة بمحافظة المنوفية (دلتا مصر)، أن بلادها تسلَّمت مبلغ 3.5 مليار دولار، ضمن صفقة تطوير منطقة «سملا وعلم الروم» بالساحل الشمال الغربي، الثلاثاء، حتى تهلل وجهها، وانطلق لسانها: «الحكومة صدقت.. أول الغيث قطرة.. والخير مقبل في السنة الجديدة».

لكن زميلها، محمد كمال، سخر من قولها، قائلاً بينما يُرتب الكتب على الأرفف: «طالما صندوق النقد الدولي موجود بيننا.. فهي سنة قاسية جديدة»، فردت عليه مروة عابد بانفعال: «كفى تشاؤماً.. رئيس الوزراء قال إن 2026 هو عام جني ثمار الإصلاحات الاقتصادية». ليجيبها كمال مُنهياً الحوار: «أفلحت الحكومة إن صدقت.. والأيام بيننا».

ترقب تحقق «وعود حكومية»

يعبُر المصريون إلى عام 2026 بعيون مترقبة، تنتظر تحقق «وعود حكومية» على أرض الواقع، تتعلق بتحسن مستوى المعيشة، وأملاً في بصيص ضوء ينهي ثِقل عام 2025، الذي شهد زيادتين في أسعار بعض منتجات الوقود، ما رفع تعريفة المواصلات، وأسعار خدمات الشحن والنقل، وانعكس على الأسواق بزيادة أسعار بعض السلع.

ويلخص حديث المكتبة، المتراوح بين الشك والأمل، مشهداً بُني على رسائل متتالية متفائلة، عكستها كلمات رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قبل أسابيع، أكد فيها أن تركيز الدولة خلال الفترة المقبلة «سيكون على كيفية بدء المواطن المصري جني ثمار الإصلاحات الاقتصادية، فيما يعود على الأجور وظروف المعيشة وتحسين أحوال الطبقة المتوسطة»، مشيراً إلى أنه خلال الأعوام الثلاثة المقبلة وبداية من 2026 «سنشهد تحسناً في مستوى جودة الحياة».

وعاد مدبولي، الأسبوع الماضي، ليؤكد أن المراجعتين الخامسة والسادسة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي لا تتضمنان فرض أعباء جديدة على المواطن، لا سيما في قطاع الطاقة «البترول والغاز».

وتنتظر مصر أن يصرف صندوق النقد الدولي نحو 3.8 مليار دولار ضمن برنامج القرض الممتد، بعد الاتفاق على مستوى الخبراء مع القاهرة بشأن المراجعتين الخامسة والسادسة، فيما ينتهي اتفاق مصر الحالي مع الصندوق في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026.

وفي رسالة أخرى، قبل ساعات من العام الجديد، أكدت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، رانيا المشاط، أن عام 2026 يمثل «نقطة تحول» للاقتصاد المصري، بعد الإصلاحات المالية والنقدية واستمرار الإصلاحات الهيكلية.

رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي يترأس آخر اجتماع للحكومة خلال 2025 الأربعاء (مجلس الوزراء المصري)

لكن هذا التفاؤل الحكومي يصطدم على أرض الواقع بتطلعات شعبية مع مطلع 2026، تأمل في أن ترمم تلك الوعود جيوب المواطن، وتداوي أحوال عام صعب.

تساؤلات مشروعة

تساءل أحمد سعيد، اختصاصي البصريات بوسط القاهرة، في تصريحه لـ«الشرق الأوسط قائلاً: «رغم أهمية الوعود الحكومية فإنها تثير تساؤلات مشروعة... ماذا يعني جني الثمار بالنسبة للمواطن العادي؟ وهل تمتلك الدولة الموارد الكافية لتحقيقها؟ وهل سيشعر بذلك جيب المواطن العادي؟».

وبينما تضع تقارير وكالة «فيتش» مصر في المرتبة الثانية بأسرع الاقتصادات نمواً في المنطقة بنسبة 5.2 في المائة خلال 2026؛ ترى الموظفة الحكومية، منى مصطفى، أن هذا النمو «يوجد في الدفاتر فقط، أما نحن فنريد نمو رواتبنا». وتساءلت في تصريحها لـ«الشرق الأوسط» بخصوص أمنياتها من العام الجديد: «هل سيثبت هذا النمو الذي تتحدث عنه الحكومة أسعار السلع؟ هذا ما أتمناه، لأن تثبيت الأسعار سيحدث فرقاً مع ميزانياتنا».

وهنا، يرى الدكتور جمال حماد، أستاذ علم الاجتماع الاقتصادي، أن المصريين دخلوا مرحلة من الترقب، نتيجة وعود متكررة بضبط الأسعار لم تتحقق على أرض الواقع، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن الاقتصاد «ليس مجرد أرقام صماء، بل هو شعور كيفي بالحياة». مضيفاً أن «القلق والريبة تجاه عام 2026 لدى البعض ينبع من غياب الأدلة الملموسة، فهم يتحدثون عن الحصاد، لكن ما هي المؤشرات؟، الاقتصاد رقم، والرقم يجب أن يتحول إلى تحسن في جودة الحياة... هذا هو المطلب الحقيقي الذي يضمن الأمان للمواطن».

في المقابل، حمل حديث دعاء محمد، موظفة العلاقات العامة، نبرة متفائلة، حين قالت: «أشعر بأن هذه السنة ستكون مختلفة، فهناك استقرار في الدولار، كما أن قرض صندوق النقد ينتهي هذا العام، لذا أصدق بشكل كبير وعود الحكومة».

تقارير وكالة «فيتش» وضعت مصر في المرتبة الثانية بأسرع الاقتصادات نمواً في المنطقة بنسبة 5.2 في المائة خلال 2026 (أ.ف.ب)

من جهته، يرى الخبير الاقتصادي والمالي، الدكتور ياسر حسين، أن هناك مؤشرات تدعم هذا التفاؤل الحكومي وتلك التوقعات، ويوضح أن عام 2026 «يمثل محطة التعافي المستدام، مدعوماً بنتائج عام 2025، حيث قفز الاحتياطي النقدي إلى 51 مليار دولار، واستقر التصنيف الائتماني عند (B+)، وقاربت الصادرات 55 مليار دولار، وبلغت التحويلات من الخارج نحو 40 مليار دولار، وعادت إيرادات قناة السويس إلى مستوياتها الطبيعية، مع التزام الدولة بسداد ديونها في مواعيدها».

يقول حسين لـ«الشرق الأوسط»: «من المتوقع أن يشهد عام 2026 مزيداً من التحسن الاقتصادي، مع إمكانية ارتفاع النمو إلى 5.5 في المائة، وانخفاض التضخم إلى 11 في المائة، وتحسن سعر الصرف، وزيادة الاحتياطي النقدي إلى أكثر من 55 مليار دولار، كما يُتوقع استمرار ارتفاع الصادرات وتحويلات العاملين بالخارج، وانتعاش البورصة بدعم من الطروحات الحكومية، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، وارتفاع عدد السائحين إلى 20 مليون سائح، إلى جانب تراجع الدين العام الخارجي والداخلي».

الخبير حسين توقع ارتفاع عدد السائحين في مدن مصر إلى 20 مليون سائح (أ.ب)

ورغم التفاؤل الرقمي، يربط «حسين» شعور المواطن بـ«جني الثمار» بمدى تحقق مطالب حيوية تمس حياته اليومية، من خلال انخفاض أسعار السلع والخدمات، وارتفاع القوة الشرائية للجنيه، وزيادة الأجور والمعاشات، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية والتأمين الصحي، وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية.

تعود موظفة العلاقات العامة، دعاء محمد، لحديثها المتفائل، مُبينة أنها مع دخول شركتها صباح آخر أيام العام، فوجئت بتنظيم سحب على أمنيات العام الجديد، بوصفه طقساً احتفالياً ترفيهياً للموظفين، حيث حملت ورقتها عبارة: «اللي جاي أحلى».