لم تحقق مهمة المحقّق العدلي في ملفّ انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار غايتها في العاصمة البلغارية صوفيا، إذ لم يتمكن من استجواب مالك الباخرة روسوس إيغور غريتشوشكين، جرّاء اعتصام الأخير بالصمت، ورفضه الإجابة عن الأسئلة، وهو ما زاد تعقيدات التحقيق الذي يراوح مكانه منذ سنوات بين العوائق القانونية، والسياسية الداخلية، والحسابات الدولية.
وكان البيطار توجّه الأربعاء الماضي إلى صوفيا، لاستجواب غريتشوشكين، مالك سفينة أقلت نيترات الأمونيوم التي انفجرت في مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، وهو موقوف في صوفيا منذ ثلاثة أشهر، بموجب مذكرة توقيف صادرة عن القضاء اللبناني، ومعممة عبر الإنتربول الدولي. وعقد البيطار جلسة في حضور وكيلته، وقضاة بلغاريين، في مكان الاحتجاز المؤقت، حيث جرى توجيه الأسئلة له عبر قاضي تحقيق بلغاري، التزاماً بالأصول القانونية المعتمدة في التعاون القضائي الدولي.

وقال مصدر قضائي لبناني لـ«الشرق الأوسط» إنّ المدعى عليه «رفض الإجابة عن أي سؤال، ملتزماً الصمت كلياً، باستثناء عبارة واحدة، حين قال إنه يكتفي بالإفادة التي سبق أن أدلى بها خلال استجوابه من قبل شعبة المعلومات اللبنانية في قبرص في العام 2020، وليس لديه ما يضيفه بشأنها.
تهرّب من المواجهة
وأضفى الصمت مزيداً من الشكوك حول دور غريتشوشكين وسفينته التي نقلت نيترات الأمونيوم من جورجيا إلى مرفأ بيروت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 في خطوة اعتبرها مصدر قضائي رفيع «محاولة واضحة للتهرّب من مواجهة أسئلة يعتبرها التحقيق أساسية في تحديد المسؤوليات».
لكن المصدر أثنى عبر «الشرق الأوسط» على «التعاون الكامل الذي أبداه القضاء البلغاري مع المحقّق العدلي، سواء على مستوى القضاة، أو إدارة السجن في صوفيا»، مشيراً إلى أن الفريق القضائي البلغاري «أجرى محاولات متكررة لإقناع غريتشوشكين بالإدلاء بأقواله، إلا أنّه أصرّ على موقفه، وامتنع نهائياً عن التحدّث».
علامات استفهام
وقال إن «امتناع مالك السفينة روسوس هو حق قانوني له، إلا أنّه يطرح علامات استفهام كبرى حول ما يحمله من معطيات قد تكون مفصلية في رسم صورة كاملة لمسار شحنة نيترات الأمونيوم منذ تحميلها وحتى انفجارها»، لافتاً إلى أن البيطار كان «يهدف إلى كشف حقيقة من اشترى نيترات الأمونيوم ولصالح من؟ وهل أن حمولة الباخرة كانت بالفعل ذاهبة إلى موزمبيق، أو أن هناك عملية تحايل غيرت وجهتها إلى مرفأ بيروت؟».

ونقل المصدر القضائي عن مسؤولي السجن المؤقت الذي يحتجز فيه غريتشوشكين أن الأخير «يعاني وضعاً نفسياً صعباً منذ اعتقاله» في منتصف شهر سبتمبر (أيلول) الماضي في صوفيا، أثناء توجهه من قبرص إلى موسكو. وأوضحت أن البيطار أبلغه بأنه «ليس متهماً، بل مشتبه به، وإذا ما أدلى بإفادته قد يكون ذلك سبباً لوقف الإجراءات القائمة بحقه، لكن ذلك لم يغير شيئاً بقناعاته». وأوضح المصدر أن غريتشوشكين «أجلس على كرسي وضع مقابل القاضي البيطار، حيث أغمض عينيه بيديه ولم ينظر إلى المحقق العدلي، ولا حتى للقضاة البلغاريين، مكتفياً بالقول أنا لا أعرف لماذا أنا مسجون هنا؟ وليس لدي ما أقوله».
مواكبة أمنية
في الإطار اللوجستي، والمواكبة الأمنية والدبلوماسية للمهمّة، علمت «الشرق الأوسط» أن مهمة البيطار «أحيطت بعناية كبيرة، حيث توجّه من منزله إلى مطار رفيق الحريري الدولي بمواكبة من مخابرات الجيش اللبناني، ومتابعة حثيثة من وزير العدل عادل نصّار». ووفق المعلومات فإنّ سفيرة لبنان في بلغاريا رحاب أبو زين «لعبت دوراً مهمّاً في تهيئة الظروف الملائمة لإنجاح مهمة البيطار في صوفيا، حيث استقبلته في المطار، ورافقته إلى مكان إقامته، كما تولّت السفيرة شخصياً تأمين كاتب محضر التحقيق، ومترجمين اثنين، وسبق ذلك أن نسقت مديرية المخابرات في لبنان مع السلطات البلغارية لتامين المواكبة الأمنية له بعد أن واكبته في بيروت من منزله إلى مطار رفيق الحريري الدولي وصعوده إلى الطائرة»، مشيرة إلى أن ذلك «عكس جدّية الجانب اللبناني في استكمال التحقيق رغم العراقيل».
وإزاء هذا التطوّر، يطرح السؤال مجدداً عن مصير غريتشوشكين: هل ستفرج عنه السلطات البلغارية أم ستسلّمه إلى لبنان؟ حتى الآن، لا يوجد جواب حاسم. إلا أنّ المصدر القضائي يؤكد أنّ لبنان «لم يفقد الأمل بإمكانية تسلمه، لا سيما أن محكمة الاستئناف البلغارية ستعقد جلسة هذا الأسبوع للنظر في طعن النائب العام بقرار رفض تسليمه». وشدد على أنه «حتى لو أطلقت بلغاريا سراحه فإن مذكرة التوقيف الدولية الصادرة بحقه ما زالت سارية المفعول، وتتيح توقيفه في أي بلد يتوجّه إليه، باستثناء روسيا التي يحمل جنسيتها».
تقدير سيادي
في هذا السياق، يلفت المصدر القضائي إلى أنّ قرار بلغاريا المحتمل بعدم التسليم، في حال تثبيته «لا يشكّل سابقة ملزمة لدول أخرى، فلكل دولة تقديرها السيادي، وتعاونها القضائي قد يتغيّر تبعاً للضمانات المقدّمة، والظروف السياسية، والقانونية المحيطة بكل حالة»، لافتاً إلى «وجود أمل كبير بأن تقرر محكمة الاستئناف في بلغاريا تسليمه إلى لبنان، وأن سفيرة لبنان في صوفيا تتابع عن كثب تطورات هذا الملفّ مع السلطات البلغارية».
ووفق المصدر فإن «مذكرة التوقيف الغيابية بحق مالك السفينة روسوس ستبقى سارية المفعول، وإن البيطار فور عودته إلى لبنان سيقرر الخطوات التي سيتخذها في حال رفضت محكمة الاستئناف في صوفيا تسليمه إلى لبنان».





