في لحظات الطوارئ، لا يملك الطبّ رفاهية التفكير الطويل. فالقلب لا ينتظر، والرئتان لا تنتظران، والمريض نفسه قد لا يمنح الطبيب أكثر من ثوانٍ معدودة قبل أن ينزلق إلى منطقة رمادية بين الوعي والغياب. هنا، لا تكون المشكلة نقص المعرفة، بل ضيق الزمن. فكم من قرار صائب أُجهض لأن الإشارة ظهرت متأخرة؟ وكم من حياة فُقدت لأن التحذير جاء بعد فوات الأوان؟
لاعب جديد في غرف الطوارئ
في هذه المساحة الحرجة بين الحياة والموت، يدخل الذكاء الاصطناعي لاعباً جديداً في غرف الطوارئ — لا ليحلّ محل الطبيب، بل ليكون «عيناً زمنية» ترى ما يتشكّل قبل أن يظهر، وتلتقط ما يهمس به الجسد قبل أن يصرخ. ذكاء لا ينافس الحدس الطبي، بل يسبقه بثوانٍ... قد تكون الفارق بين إنقاذ مريض أو فقدانه.
هذا التحوّل لم يعد فكرة مستقبلية، بل واقعاً بحثياً موثّقاً. ففي دراسات حديثة قادتها فرق من جامعة هارفارد بالتعاون مع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، طُوّرت نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل الإشارات الحيوية في أقسام الطوارئ — من تخطيط القلب، وتقلب النبض، وأنماط التنفس، وتغيّرات معدلات الأكسجين في الدم - لا لاكتشاف الخطر عند وقوعه، بل للتنبؤ بانهيارات قلبية وتنفسية قبل دقائق من حدوثها. وهي نماذج لا تبحث عن علامة واحدة صاخبة، بل عن نمط خفي يتشكّل عبر الزمن.

وفي السياق نفسه، كشفت دراسات منشورة عام 2025 في مجلات طبية متخصصة، إلى جانب تقارير بحثية من جامعة جونز هوبكنز، عن أن خوارزميات التعلّم الآلي باتت قادرة على تحديد المرضى الأكثر عرضة لتوقّف القلب المفاجئ داخل المستشفى بدقة تفوق التقييم السريري التقليدي، عبر قراءة متزامنة لآلاف البيانات في ثوانٍ — مهمة يستحيل على الإنسان إنجازها تحت ضغط الطوارئ.
هنا، لا يتعلّق الأمر بسرعة الحوسبة فقط، بل بإعادة تعريف القرار الطبي نفسه. فغرفة الطوارئ لم تعد مكاناً لردّ الفعل وحده، بل صارت ساحة للتنبؤ والاستباق. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس: هل سيُستخدم الذكاء الاصطناعي في الطوارئ؟ بل: هل يستطيع الطبّ الحديث أن يتجاهل ذكاءً يرى الخطر قبل أن يراه الزمن نفسه؟
ومع هذه القفزة، يفرض السؤال نفسه بقوة: هل نحن أمام لحظة تعيد تعريف طبّ الطوارئ؟ وهل يصبح الذكاء الاصطناعي — للمرة الأولى — قادراً على التفكير أسرع من الخطر ذاته، لا لإنقاذ البيانات، بل لإنقاذ الحياة.
اللحظة الحاسمة: حين يسبق الذكاءُ الاصطناعي الانهيار
في أروقة الطوارئ المزدحمة، يعمل الطبيب تحت ضغط لا يرحم. عشرات الوجوه، عشرات الشكاوى، وزمن يضيق مع كل نبضة قلب: ألم صدري غامض، ضيق تنفّس متسارع، اضطراب نظم مفاجئ، صدمة تحسسية، نزيف لا ينتظر. في هذه اللحظات، لا يكون التحدي في نقص المعرفة، بل في فيض الإشارات وضيق الوقت.
هنا، يتقدّم الذكاء الاصطناعي بطريقة مختلفة تماماً. فالخوارزمية — المدرَّبة على ملايين السجلات الحيوية — لا تتوتر تحت ضغط الطوارئ، ولا تُربكها الفوضى السريرية، ولا تُغفل إشارة لأن التعب غلب الانتباه.
إنها تُنصت إلى ما لا يُسمع: تذبذبات دقيقة في نبض القلب، تغيّرات طفيفة في تشبّع الأكسجين، انحرافات شبه غير مرئية في تخطيط القلب الكهربائي، أنماط تنفّس غير منتظمة لا يلتقطها النظر العابر. إشارات تبدو — كلٌّ على حدة — بلا معنى، لكنها حين تُقرأ معاً، تكشف بداية الانهيار الصامت.
في التجارب السريرية المتقدّمة، تمكّنت هذه الخوارزميات من التنبؤ بحدوث الانهيار القلبي قبل وقوعه بست دقائق كاملة. ست دقائق لا تعني شيئاً في الزمن العادي، لكنها في الطوارئ تعني الفرق بين إنعاش ناجح... وذكرى متأخرة.
هنا، لا «يحلّ» الذكاء الاصطناعي محل الطبيب، بل يمنحه أثمن ما يمكن أن يُعطى في الطوارئ: الزمن. زمن إضافي لاتخاذ القرار، لتجهيز الفريق، ولمنح المريض فرصة لم يكن ليحصل عليها لولا أن الخوارزمية سبقت الخطر بخطوة.
من استجابة الطوارئ... إلى طوارئ تتنبّأ بنفسها
ستّ دقائق... قد تبدو قصيرة، لكنها في لغة الطوارئ تُعادل عمراً كاملاً.
لطالما كانت أقسام الطوارئ ساحات «ردّ فعل». يدخل المريض، فتبدأ عملية الفرز، ثم الفحص، ثم العلاج. لكن الذكاء الاصطناعي يغيّر قواعد اللعبة:الطوارئ لم تعد تنتظر الخطر... بل تتوقّعه.
وأظهر البحث أنّ النظام قادر على:
• التنبؤ بنوبة الربو قبل تفاقمها بـ15 دقيقة
• رصد انخفاض ضغط الدم قبل الوصول إلى مرحلة الصدمة
• اكتشاف تدهور التنفّس لدى مرضى الالتهاب الرئوي بدقّة أعلى من الطبيب بنسبة 30 في المائة
ليس لأن الطبيب أقل مهارة، بل لأن العقل البشري محدود بالزمن والانتباه، بينما الخوارزمية تمتلك انتباهاً لا ينام.
الذكاء الاصطناعي لا يهدف إلى إقصاء الطبيب... بل حمايته
يشير تقرير صادر عن «هارفارد غازيت» (Harvard Gazette – الجريدة الرسمية لجامعة هارفارد) عام 2025 إلى أن معظم الأخطاء في أقسام الطوارئ لا تنبع من نقص المعرفة الطبية، بل من تزاحم القرارات في اللحظات الحرجة.
فالطبيب يمتلك الخبرة، لكنه يواجه في الثانية الواحدة عشرات الإشارات المتغيّرة التي تتطلب قراراً فورياً. وحين تتدفق البيانات بلا توقف، يصبح الذكاء الاصطناعي — كما وصفه باحثو معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «عيناً ثالثة لا تتعب، وأذناً لا تغفل، وذاكرة لا تنسى».
تجربة ميدانية تغيّر قواعد اللعبة
في تجربة سريرية داخل وحدة طوارئ ذكي تضم 24 سريراً في «عيادة مايو» (Mayo Clinic)، حقق النظام نتائج لافتة:
• انخفاض حالات التدهور المفاجئ بنسبة 22 في المائة
• تسريع الاستجابة لنداء «الإنعاش القلبي الرئوي» (Code Blue) بمقدار 18 ثانية
• تقليل الحاجة إلى الإنعاش الكامل بنسبة 12 في المائة
• ارتفاع دقة تقدير خطورة الحالة من 78 في المائة إلى 92 في المائة
ومن أصل 126 حالة انهيار قلبي محتمل، نجحت الخوارزمية في اكتشاف 119 حالة قبل وقوعها.
مستقبل غرف الطوارئ: نظام ذكي يستيقظ قبل أن يستيقظ الألم
يتصوّر الفريق البحثي بيئة طوارئ مختلفة جذرياً:
• شبكة استشعار ذكية تراقب المرضى لحظة بلحظة
• لوحة توقّعات آنية تُعيد ترتيب أولويات العلاج
• مساعد معرفي رقمي يراجع الأدوية والتداخلات
• إنذار مبكر يخفّض 30 – 40 في المائة من حالات التدهور الحاد
فرصة ذهبية للشرق الأوسط
تُظهر البنى الرقمية المتسارعة في المملكة العربية السعودية، من الملفات الصحية الموحّدة، إلى سحابة الصحة الوطنية، ومشاريع الذكاء الاصطناعي السيادية، أن المنطقة لا تلاحق المستقبل... بل تتهيأ لصناعته. فهنا تتوافر الشروط لبناء أول نظام عربي متكامل للطوارئ الذكية، نظام لا ينتظر الخطر حتى يقع، بل يرصده وهو في طريقه إلى الظهور.
حين ينتصر الطب على الزمن
يكتب فريق البحث في ختام دراسته: «الذكاء الاصطناعي لا يمنع الموت... لكنه يمنح الحياة وقتاً أطول». وفي غرف الطوارئ، حيث تُقاس القرارات بالثواني، وحيث يفصل الخطأ الواحد بين النجاة والفقد، يصبح هذا الوقت الإضافي أثمن ما يمكن تقديمه للمريض.
وحين يتخذ الذكاء الاصطناعي قراراً قبل ستّ ثوانٍ من انهيار الجسد، فإنه لا يحلّ محل الطبيب، ولا يسلبه إنسانيته، بل يحميه من قسوة الزمن... ويمنحه فرصة أن يفعل ما يجيده أكثر من أي خوارزمية: إنقاذ حياة إنسان ينتظره من يحبّ.


