بنبرة شاعرية ولغة خافتة ومفارقات إنسانية ونفسية تنفجر في صمت وهدوء، استطاعت الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد أن يكون لها صوتها الخاص في عالم القصة القصيرة عبر الإخلاص لهذا اللون الأدبي والإصرار على أن تغزله بأناة وصبر. لم تغازل موجة الكتابة الرائجة في الأسواق ورفضت أن تحني رأسها لعاصفة الرواية وتكتب نصاً روائياً لمجرد البحث عن بريق نجومية سرعان ما ينطفئ.
صدر لها أخيراً «طائرة درون تضيء فوق رأسي»، لينضم إلى أعمالها السابقة ومنها: «عتمة الضوء»، و«تُلقي بالشتاء عالياً»، و«الأشياء الواقفة في غرفة 9».

هنا حوار معها حول مجموعتها الجديدة وهموم الكتابة:
> أول ما يلفت النظر في مجمل تجربتك هو الطابع الشاعري اللافت للعناوين وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في اسم مجموعتك القصصية الأحدث.. كيف تختارين عناوينك؟
- أختارها بصعوبة، مدركةً دورها في اقتناص انتباه القارئ، العنوان مَعبر وجسر له قدراته في انتزاع القارئ من بلادته، مستفزاً، أو لِنَقُلْ محرضاً إياه تجاه الكتاب، بالتالي يكمن قلقي في كيفية اختيار الغلاف والعنوان الجامع واللامع، عنوان مثل شريطة تلفّ هداياها بجاذبية وأناقة.
وعلى الرغم من أن هناك طرقاً عديدة للانتقاء، فإن كل المجاميع القصصية التي أصدرتها منذ «عتمة الضوء» إلى «تُلقي بالشتاء عالياً» انتهاءً بـ«طائرة درون تضيء فوق رأسي»، تتكرر بها صدفة غريبة ودون سبب واضح، حيث تنتهي كل النقاشات لترسو على مقترح صديق شاعر أو شاعرة. وكان اختيار العنوان لهذه المجموعة للشاعرة الصديقة سوزان عليوان حين استلّت من جملة بإحدى القصص ما رأته شيقاً وجاذباً ويستنهض الأسئلة وهو ما اتفقت معها عليه، وحين أرسلته إلى دار النشر لم أجد أي اعتراض لديهم، بل على العكس راقَ لهم ووجدت أنه أعجبهم فعلاً.

> الملاحَظ أيضاً أنك لا تجعلين من عنوان قصة عنواناً للمجموعة القصصية بأكملها... لماذا؟
- صحيح، أنا لا أفضل أن أختار أي عنوان لنص موجود في متن المجموعة، أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه، ربما ظن أنه الأفضل من بين النصوص، بينما أريد أن أتعامل بديمقراطية ومساواة، لذا أميل إلى عنوان ماكر له أثره وأستمتع بهذه الحيلة.
> بخلاف العناوين، اللغة المرهفة المكثفة في نصوصك تجعلنا نسأل عن طبيعة علاقاتك بالشِّعر؟
- علاقتي أكثر من جيدة معه، نحن صديقان مقربان، يزورني كثيراً وأنصت إليه في تراكيبه وجمالياته ويتداخل في نصي وأحاذر أن أجعل لغته تطغى على كتابتي وقد يفعلها أحياناً، هو صديقي منذ اخترت في بداياتي أن أحاول تقليد والدي وهو يكتب نصوصه وخواطره بخطه الجميل والمبهر الذي لم أرثه مطلقاً، ربما كانت هذه إشارة لم أقرأها جيداً للابتعاد عن تدوين الشعر. لاحقاً عزفت عن الكتابة لعشر سنوات بعد وفاة والدي، وأخذني التحصيل الدراسي ومراحل مختلفة في الحياة، وإن ظللت أسمع نداءات لا أعرف كنهها لكنها أيضاً ألقت بي في حقول من التجارب والطرق حتى عدت بعد رحلة بحث طويلة. عاد صديقي مجدداً عبر خواطر نشرتها في موقع إلكتروني وشعرت بالجوع أكثر للكتابة، وحافظنا على ودّنا بعد أن اتجهت إلى القصة دون وعد بأكثر من ذلك.

> يشكل الانحياز إلى المهمشين والغرباء هاجساً يهيمن على معظم كتاباتك... ما الفكرة وراء ذلك؟
- أحب دوزنة حكايات هذه الفئات: المهمشين، الهامشيين، الغرباء، المنبوذين، الراقصين على الحافة. فكم من خيط تتبعه من حيواتهم سيحيلك إلى نسيج مجتمعات لا تلحظها أو تتجاهلها، وكيف للقطة خاطفة لشخصية تقبع بالهامش أن تكون أكثر التصاقاً بأفكارنا، كيف لغريب يزيح يومياً أحجار العوز أو الإهانة أو الإقصاء تتلقفه الحكايات ويشيّد بيوتها المعنونة بالكتب.
وأظنني اخترت القصة كفنٍّ يستهويني لأنه لا يلتفت إلى مغريات ولا يتوق إلى موقع الرواية البارز، فالقصة تتحرك بخفوت وتبحر بعيداً عن ثقل وإملاءات القارئ، أو مكاسب يعرفها ويترصدها أي كاتب. تعرفين؛ ربما مضيت نحو مدارات وأفلاك القصة أكثر لأن مركزية الضوء تربكني وإن أحببته.

> تنتمين إلى جيل بدايات الألفية... أين تضعين تجربتك في السياق الكويتي؟
- لا أعرف؛ من الصعب أن أحدد أو أجيب بصدق، ما أستطيع أن أخبرك عنه هو أنني أعرف ما أنا عليه دائماً، فمنذ البداية انحزت إلى التجريب وتعلقت به، أي منذ البداية يناصبك القارئ الاعتيادي العداء. انصبَّت محاولاتي على أن أكتب ما أحب أو ما أعتقد أنه يمثلني، مهتمةً بالمغامرة والفضول، ومليئة بالأسئلة وبالشك الذي يناكفني دائماً، مستغرقةً بكيف أكتب وكيف أواصل الكتابة ورهاناتي ولا أهادن أسئلتي، أما أين أقف؟ فأظنه مهمة القارئ والناقد وليس لي.
> ما أبرز التحديات التي يواجهها حالياً كتّاب القصة القصيرة في عالمنا العربي، من وجهة نظرك؟
- يواجه سابقاً وحالياً كتّاب القصة حائطاً صلداً عبر مقولة أنها «الفن الأصعب، ولكنه أيضاً الأقل انتشاراً». نعاني من ثرثرات البعض بأن القصة أقل من الرواية، رغم أنه لا يوجد فن أقل من آخر أو أعلى.
> هل لا يزال عزوف الناشر العربي عن القصة القصيرة بحجة أنها «لا تبيع» مستمراً، أم أنكِ تلاحظين تغيراً ما في هذا الموقف مؤخراً؟
- هناك تحوّل في الاهتمام بالقصة واستجابة لنشرها في السنوات الماضية، صحيح ما زال أغلب الناشرين لديهم حساباتهم في إعلاء كفة الأرباح مقابل انحسار دورهم الثقافي، أقول أغلب لأنني تعاملت مع دور نشر كانت تنحاز أكثر من غيرها للشأن الثقافي. رغم ذلك أي دار نشر تحتاج إلى الاستمرارية لأنها مشروع يحتاج أن تُضخ به أموال تدعم وتعزز قدرته على البقاء خصوصاً أن القصة في هذه السنوات باتت في مربع المعاملة الصعبة عبر عودة الاهتمام بها، ورصد الجوائز دون أن تقترب من هوس الجوائز، كما هو الحال مع الرواية، والذي أفقد الأخيرة اتزانها.
> تقولين إن طموحك في الكتابة «ألا تخوني أغنيتك»... ماذا تقصدين؟
- دعيني أقل إنني أقصد تماماً كل ما ذكرته سالفاً، مؤكدةً أنني آمل ألا أخاف المخاطرة فيما أكتب وأن أنحاز دائماً إلى القفز في عمق المغامرة، متمسكة بالإنصات للتجارب والمضي بهدفي وتطوير نصي. أن أكون مغنية بصوت جيد لا نشاز فيه، لها اطلاعها الواسع كما يجب، تواكب الجديد وتنظم أدوارها في الحياة، تكتشف ذاتها للوصول إلى نسخة أفضل منها بالتزامن مع الكتابة، تتغير بشكل مطرد وتجد من يترقب أغنيتها وتلامسه وتضيف إليه ويضيف إليها.
«لا أفضل أن أختار اسم الكتاب من عنوان موجود في متن المجموعة... أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه»
إستبرق أحمد
> برأيك، لماذا لا تحظى كتابات الناشئة بالاهتمام الكافي من النقاد والناشرين العرب؟
- ربما لأن الغالبية من النقاد يعانون من كسل البحث وعدم التعاطي مع هذه النصوص في وسطٍ محكومٍ بنظرة تقليدية واستعلائية في تناول هذه النصوص، لكنّ واقع الحال أن الناشر أصبح أكثر جرأة في تبني هذا النوع من الكتابات، لأنه بات يرى ازدياداً في توجه بعض الكتاب إليها، وقدرةً في استقطابها لقراء مختلفين، كما أن دور النشر المتخصصة بالطفل والناشئة واليافعين في ازدياد وباتت أكثر اعتناءً بالرسم.
> في زمن يهرع فيه الجميع لكتابة الرواية حتى لو لم يكن لديهم ما يضيفونه أو يعانون من همٍّ إبداعي يؤرقهم، يبدو عزوفك عن تقديم نصك الروائي الأول كأنه مفاجأة... ما السبب؟
- أنا لا أحب الرياضة كثيراً وربما ذلك جعلني لا أطيق الركض. بصدق لست معنية بكل ما يفعله الآخرون، أنا كتبت رواية للناشئة لأنني استمتعت بها، أما الكتابة لفئة الكبار فلم تكتمل لعدة أسباب منها تهيّبي، أو ربما لافتقاري إلى التركيز الروائي في بناء نصه الممتد، أو لوساوس الكمال، أو ببساطة لأن اللحظة المناسبة لإنجازها لم تأتِ بعد. أو أنه ليس بالضرورة كل قاصٍّ هو روائياً كامناً، والعكس بالعكس، هكذا يتضح أنني لست ضد أن أكتب الرواية لكنني ضد الاتجاه إليها بحثاً النجومية.
> أخيراً، ماذا عن تجربتك في كتابة السيناريو وهل تعدينها رافداً أساسياً لك أم نشاطاً على الهامش؟
- هو شغف أتمنى أن يجد مكانه على رف اهتماماتي كما يجب، أشعر أنني تأخرت في الإمساك بأدواته إلى حد ما، لكنه صدى لحلم تمنيته واحتجت لوقت طويل للعثور على من يضعني على أول الطريق. وهنا أوجه التحية إلى الأستاذ السيناريست خالد الصغير والسيناريست إيناس لطفي، علماً أن نصوصي القصصية تحمل بداخلها روحها السينمائية.
> ما مبررات توجهك إلى كتابة روايات للناشئة... أي فارق تطمحين لصنعه؟
- لا أجد أننا نحتاج إلى مبررات في المراوحة بين أنواع السرد ولا غيره من تجارب، نحن نلاحق ما نظن أنه الأكثر مناسبة لما نريد التعبير عنه، ولا أنكر تأثير تشجيع الصديقة الفنانة التشكيلية إيناس عمارة التي ترسم بعض المجلات والكتب وأفلام الكرتون وترى أن روايات الناشئة تجربة سأجد نفسي في كتابتها (لا أعرف سبباً لثقتها) وأنني سأكون أكثر حرية في تمرير ما أريد.
في البداية شعرت بأنه من الصعب الاتجاه إلى هذا النوع من الكتابة التي لها فئتها من القراء، لاحقاً اكتشفت انسجامي وبهجتي بعد انتهائي من كتاب «الطائر الأبيض في البلاد الرمادية» عام 2018 ليتبعه «ساطع» عام 2023 والذي مضى للقائمة الطويلة عبر «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، كما أضافت اللوحات الفنية في العملين بأنامل إيناس عمارة جمالاً ودهشةً للتجربة في مجملها.
