إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

القاصَّة الكويتية ترفض كتابة الرواية بحثاً عن النجومية

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة
TT

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

إستبرق أحمد: أحب عوالم الغرباء والمنبوذين والراقصين على الحافة

بنبرة شاعرية ولغة خافتة ومفارقات إنسانية ونفسية تنفجر في صمت وهدوء، استطاعت الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد أن يكون لها صوتها الخاص في عالم القصة القصيرة عبر الإخلاص لهذا اللون الأدبي والإصرار على أن تغزله بأناة وصبر. لم تغازل موجة الكتابة الرائجة في الأسواق ورفضت أن تحني رأسها لعاصفة الرواية وتكتب نصاً روائياً لمجرد البحث عن بريق نجومية سرعان ما ينطفئ.

صدر لها أخيراً «طائرة درون تضيء فوق رأسي»، لينضم إلى أعمالها السابقة ومنها: «عتمة الضوء»، و«تُلقي بالشتاء عالياً»، و«الأشياء الواقفة في غرفة 9».

هنا حوار معها حول مجموعتها الجديدة وهموم الكتابة:

> أول ما يلفت النظر في مجمل تجربتك هو الطابع الشاعري اللافت للعناوين وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في اسم مجموعتك القصصية الأحدث.. كيف تختارين عناوينك؟

- أختارها بصعوبة، مدركةً دورها في اقتناص انتباه القارئ، العنوان مَعبر وجسر له قدراته في انتزاع القارئ من بلادته، مستفزاً، أو لِنَقُلْ محرضاً إياه تجاه الكتاب، بالتالي يكمن قلقي في كيفية اختيار الغلاف والعنوان الجامع واللامع، عنوان مثل شريطة تلفّ هداياها بجاذبية وأناقة.

وعلى الرغم من أن هناك طرقاً عديدة للانتقاء، فإن كل المجاميع القصصية التي أصدرتها منذ «عتمة الضوء» إلى «تُلقي بالشتاء عالياً» انتهاءً بـ«طائرة درون تضيء فوق رأسي»، تتكرر بها صدفة غريبة ودون سبب واضح، حيث تنتهي كل النقاشات لترسو على مقترح صديق شاعر أو شاعرة. وكان اختيار العنوان لهذه المجموعة للشاعرة الصديقة سوزان عليوان حين استلّت من جملة بإحدى القصص ما رأته شيقاً وجاذباً ويستنهض الأسئلة وهو ما اتفقت معها عليه، وحين أرسلته إلى دار النشر لم أجد أي اعتراض لديهم، بل على العكس راقَ لهم ووجدت أنه أعجبهم فعلاً.

> الملاحَظ أيضاً أنك لا تجعلين من عنوان قصة عنواناً للمجموعة القصصية بأكملها... لماذا؟

- صحيح، أنا لا أفضل أن أختار أي عنوان لنص موجود في متن المجموعة، أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه، ربما ظن أنه الأفضل من بين النصوص، بينما أريد أن أتعامل بديمقراطية ومساواة، لذا أميل إلى عنوان ماكر له أثره وأستمتع بهذه الحيلة.

> بخلاف العناوين، اللغة المرهفة المكثفة في نصوصك تجعلنا نسأل عن طبيعة علاقاتك بالشِّعر؟

- علاقتي أكثر من جيدة معه، نحن صديقان مقربان، يزورني كثيراً وأنصت إليه في تراكيبه وجمالياته ويتداخل في نصي وأحاذر أن أجعل لغته تطغى على كتابتي وقد يفعلها أحياناً، هو صديقي منذ اخترت في بداياتي أن أحاول تقليد والدي وهو يكتب نصوصه وخواطره بخطه الجميل والمبهر الذي لم أرثه مطلقاً، ربما كانت هذه إشارة لم أقرأها جيداً للابتعاد عن تدوين الشعر. لاحقاً عزفت عن الكتابة لعشر سنوات بعد وفاة والدي، وأخذني التحصيل الدراسي ومراحل مختلفة في الحياة، وإن ظللت أسمع نداءات لا أعرف كنهها لكنها أيضاً ألقت بي في حقول من التجارب والطرق حتى عدت بعد رحلة بحث طويلة. عاد صديقي مجدداً عبر خواطر نشرتها في موقع إلكتروني وشعرت بالجوع أكثر للكتابة، وحافظنا على ودّنا بعد أن اتجهت إلى القصة دون وعد بأكثر من ذلك.

> يشكل الانحياز إلى المهمشين والغرباء هاجساً يهيمن على معظم كتاباتك... ما الفكرة وراء ذلك؟

- أحب دوزنة حكايات هذه الفئات: المهمشين، الهامشيين، الغرباء، المنبوذين، الراقصين على الحافة. فكم من خيط تتبعه من حيواتهم سيحيلك إلى نسيج مجتمعات لا تلحظها أو تتجاهلها، وكيف للقطة خاطفة لشخصية تقبع بالهامش أن تكون أكثر التصاقاً بأفكارنا، كيف لغريب يزيح يومياً أحجار العوز أو الإهانة أو الإقصاء تتلقفه الحكايات ويشيّد بيوتها المعنونة بالكتب.

وأظنني اخترت القصة كفنٍّ يستهويني لأنه لا يلتفت إلى مغريات ولا يتوق إلى موقع الرواية البارز، فالقصة تتحرك بخفوت وتبحر بعيداً عن ثقل وإملاءات القارئ، أو مكاسب يعرفها ويترصدها أي كاتب. تعرفين؛ ربما مضيت نحو مدارات وأفلاك القصة أكثر لأن مركزية الضوء تربكني وإن أحببته.

> تنتمين إلى جيل بدايات الألفية... أين تضعين تجربتك في السياق الكويتي؟

- لا أعرف؛ من الصعب أن أحدد أو أجيب بصدق، ما أستطيع أن أخبرك عنه هو أنني أعرف ما أنا عليه دائماً، فمنذ البداية انحزت إلى التجريب وتعلقت به، أي منذ البداية يناصبك القارئ الاعتيادي العداء. انصبَّت محاولاتي على أن أكتب ما أحب أو ما أعتقد أنه يمثلني، مهتمةً بالمغامرة والفضول، ومليئة بالأسئلة وبالشك الذي يناكفني دائماً، مستغرقةً بكيف أكتب وكيف أواصل الكتابة ورهاناتي ولا أهادن أسئلتي، أما أين أقف؟ فأظنه مهمة القارئ والناقد وليس لي.

> ما أبرز التحديات التي يواجهها حالياً كتّاب القصة القصيرة في عالمنا العربي، من وجهة نظرك؟

- يواجه سابقاً وحالياً كتّاب القصة حائطاً صلداً عبر مقولة أنها «الفن الأصعب، ولكنه أيضاً الأقل انتشاراً». نعاني من ثرثرات البعض بأن القصة أقل من الرواية، رغم أنه لا يوجد فن أقل من آخر أو أعلى.

> هل لا يزال عزوف الناشر العربي عن القصة القصيرة بحجة أنها «لا تبيع» مستمراً، أم أنكِ تلاحظين تغيراً ما في هذا الموقف مؤخراً؟

- هناك تحوّل في الاهتمام بالقصة واستجابة لنشرها في السنوات الماضية، صحيح ما زال أغلب الناشرين لديهم حساباتهم في إعلاء كفة الأرباح مقابل انحسار دورهم الثقافي، أقول أغلب لأنني تعاملت مع دور نشر كانت تنحاز أكثر من غيرها للشأن الثقافي. رغم ذلك أي دار نشر تحتاج إلى الاستمرارية لأنها مشروع يحتاج أن تُضخ به أموال تدعم وتعزز قدرته على البقاء خصوصاً أن القصة في هذه السنوات باتت في مربع المعاملة الصعبة عبر عودة الاهتمام بها، ورصد الجوائز دون أن تقترب من هوس الجوائز، كما هو الحال مع الرواية، والذي أفقد الأخيرة اتزانها.

> تقولين إن طموحك في الكتابة «ألا تخوني أغنيتك»... ماذا تقصدين؟

- دعيني أقل إنني أقصد تماماً كل ما ذكرته سالفاً، مؤكدةً أنني آمل ألا أخاف المخاطرة فيما أكتب وأن أنحاز دائماً إلى القفز في عمق المغامرة، متمسكة بالإنصات للتجارب والمضي بهدفي وتطوير نصي. أن أكون مغنية بصوت جيد لا نشاز فيه، لها اطلاعها الواسع كما يجب، تواكب الجديد وتنظم أدوارها في الحياة، تكتشف ذاتها للوصول إلى نسخة أفضل منها بالتزامن مع الكتابة، تتغير بشكل مطرد وتجد من يترقب أغنيتها وتلامسه وتضيف إليه ويضيف إليها.

«لا أفضل أن أختار اسم الكتاب من عنوان موجود في متن المجموعة... أشعر بأنني أخون النصوص الأخرى وأوجّه القارئ إلى نص بعينه»

إستبرق أحمد

> برأيك، لماذا لا تحظى كتابات الناشئة بالاهتمام الكافي من النقاد والناشرين العرب؟

- ربما لأن الغالبية من النقاد يعانون من كسل البحث وعدم التعاطي مع هذه النصوص في وسطٍ محكومٍ بنظرة تقليدية واستعلائية في تناول هذه النصوص، لكنّ واقع الحال أن الناشر أصبح أكثر جرأة في تبني هذا النوع من الكتابات، لأنه بات يرى ازدياداً في توجه بعض الكتاب إليها، وقدرةً في استقطابها لقراء مختلفين، كما أن دور النشر المتخصصة بالطفل والناشئة واليافعين في ازدياد وباتت أكثر اعتناءً بالرسم.

> في زمن يهرع فيه الجميع لكتابة الرواية حتى لو لم يكن لديهم ما يضيفونه أو يعانون من همٍّ إبداعي يؤرقهم، يبدو عزوفك عن تقديم نصك الروائي الأول كأنه مفاجأة... ما السبب؟

- أنا لا أحب الرياضة كثيراً وربما ذلك جعلني لا أطيق الركض. بصدق لست معنية بكل ما يفعله الآخرون، أنا كتبت رواية للناشئة لأنني استمتعت بها، أما الكتابة لفئة الكبار فلم تكتمل لعدة أسباب منها تهيّبي، أو ربما لافتقاري إلى التركيز الروائي في بناء نصه الممتد، أو لوساوس الكمال، أو ببساطة لأن اللحظة المناسبة لإنجازها لم تأتِ بعد. أو أنه ليس بالضرورة كل قاصٍّ هو روائياً كامناً، والعكس بالعكس، هكذا يتضح أنني لست ضد أن أكتب الرواية لكنني ضد الاتجاه إليها بحثاً النجومية.

> أخيراً، ماذا عن تجربتك في كتابة السيناريو وهل تعدينها رافداً أساسياً لك أم نشاطاً على الهامش؟

- هو شغف أتمنى أن يجد مكانه على رف اهتماماتي كما يجب، أشعر أنني تأخرت في الإمساك بأدواته إلى حد ما، لكنه صدى لحلم تمنيته واحتجت لوقت طويل للعثور على من يضعني على أول الطريق. وهنا أوجه التحية إلى الأستاذ السيناريست خالد الصغير والسيناريست إيناس لطفي، علماً أن نصوصي القصصية تحمل بداخلها روحها السينمائية.

> ما مبررات توجهك إلى كتابة روايات للناشئة... أي فارق تطمحين لصنعه؟

- لا أجد أننا نحتاج إلى مبررات في المراوحة بين أنواع السرد ولا غيره من تجارب، نحن نلاحق ما نظن أنه الأكثر مناسبة لما نريد التعبير عنه، ولا أنكر تأثير تشجيع الصديقة الفنانة التشكيلية إيناس عمارة التي ترسم بعض المجلات والكتب وأفلام الكرتون وترى أن روايات الناشئة تجربة سأجد نفسي في كتابتها (لا أعرف سبباً لثقتها) وأنني سأكون أكثر حرية في تمرير ما أريد.

في البداية شعرت بأنه من الصعب الاتجاه إلى هذا النوع من الكتابة التي لها فئتها من القراء، لاحقاً اكتشفت انسجامي وبهجتي بعد انتهائي من كتاب «الطائر الأبيض في البلاد الرمادية» عام 2018 ليتبعه «ساطع» عام 2023 والذي مضى للقائمة الطويلة عبر «جائزة الشيخ زايد للكتاب»، كما أضافت اللوحات الفنية في العملين بأنامل إيناس عمارة جمالاً ودهشةً للتجربة في مجملها.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.