قبل أربع سنوات، كان من الصعب تخيّل أن تتولى امرأة مسلمة من جزيرة زنجبار رئاسة دولة تنزانيا شرق القارة الأفريقية. إلا أن سامية صلوحو حسن، التي اكتسحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اعتادت على المفاجآت والجدل المستمر. فقد بدأت رحلتها بطموح نسائي إصلاحي قادته صدفة إلى السلطة بعد وفاة الرئيس السابق جون ماجوفولي، لكنها، حسب مراقبين، تنزلق اليوم تدريجياً بصناديق الاقتراع نحو نفق يُخشى أن يتحول إلى «ديكتاتورية دامية».
بداية مشوار سامية صلوحو حسن (65 سنة) مع كرسي الرئاسة في تنزانيا كانت بمثابة حقبة انتقالية فرضها ظرف استثنائي لمدة 4 سنوات، إلا أنها حولت تلك الفرصة العابرة، أخيراً، إلى حضور لخمس سنوات أخرى، فارضة نفوذها عبر صناديق الاقتراع وسط احتجاجات دامية، في مشهد يختزل التحديات المستمرة في مشاهد الانتقال الديمقراطي الأفريقي.
في خطوات صلوحو حسن الأولى على أبواب القصر الرئاسي عام 2021، كان لقبها الشعبي «ماما سامية» ترميزاً للحكمة والاحترام الأمومي، وتفاؤلاً ببداية إصلاحات واعدة. ولكن مع مرور الوقت، فُقد هذا البريق تدريجياً، وتحوّلت صورتها من زعيمة معتدلة إلى شخصية مثيرة للجدل، تتهمها المعارضة بتكريس نهج الحزب الواحد وإعادة إنتاج سياسات القمع... بل حتى ذهب البعض إلى تشبيهها بالرئيس الأوغندي الراحل الجنرال عيدي أمين.
تجلّى هذا الأمر على نحو واضح بعد فوزها الساحق بنسبة 97 في المائة في انتخابات وُصفت بأنها «غير نزيهة» شهدت اعتقال عشرات المعارضين بتهم «الخيانة العظمى». ويرى محللون محليون أن الرئيسة ما عادت كما كانت عند توليها الحكم عام 2021. وهذه هي أيضاً رؤية المحلل السياسي التنزاني خليفة سعيد، رئيس تحرير منصة «تشانزو»، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إن «التوقّعات في الماضي كانت تدور حول ازدهار اقتصادي شامل وتعزيز التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان، لكن هذه الآمال تبخرت خلال أربع سنوات من حكمها».
نشأة وسط أجواء متوترة
الأجواء المتوترة في تنزانيا راهناً لا تتباين كثيراً مع مرحلة تشكُّل الوعي المبكّر لرئيستها في مسقط رأسها، جزيرة زنجبار، حيث كانت تتبدّل ديناميكيات السلطة ويأخذ التغيير الاجتماعي مجراه.
وُلدت سامية صلوحو حسن يوم 27 يناير (كانون الأول) 1960 لأسرة مسلمة متواضعة - الأب يعمل مدرّساً - حين كانت جزيرة زنجبار تعيش اضطرابات سياسية متلاحقة. ولقد بلغت تلك الاضطرابات التاريخية ذروتها بثورة عام 1964 التي أطاحت بنفوذ سلطنة عُمان على الجزيرة، وأسفرت عن مذابح راح ضحيتها الآلاف، ومهّدت، من ثم، الطريق لاتحاد زنجبار مع تنجانيقا، «جارتها» الكبيرة على اليابسة الأفريقية، وبذلك «الاتحاد» ولدت دولة تنزانيا الحديثة.
أهدت تنزانيا في ثوبها الجديد فرصاً حياتية مهمة لرئيسة المستقبل، إذ كانت من بين قلةٍ من الفتيات اللواتي واصلن التعليم في زمنٍ كانت الفرص محدودة للنساء. إذ درست في مدارس زنجبار، ثم تلقّت تدريباً عالياً في الإدارة العامة والاقتصاد في معاهد بينها معهد إدارة التنمية (جامعة مزومبي حالياً) في تنزانيا، ثم واصلت تعليمها فحصلت على دبلوم دراسات عليا من جامعة مانشستر البريطانية، ثم ماجستير في التنمية الاقتصادية ضمن برنامج مشترك بين جامعة جنوب نيوهامبشاير الأميركية وجامعة تنزانيا المفتوحة.
هذا المسار الأكاديمي منحها قاعدة صلبة مكّنتها من العمل في مؤسسات حكومية وبرامج الأمم المتحدة، قبل أن تدخل البرلمان وتشغل مناصب وزارية مختلفة، إلى أن اختارها الرئيس ماغوفولي - من حزب الثورة (اليسار المعتدل الاشتراكي) - نائبةً له عام 2015.
رئيسة لتنزانيا
لكن في مارس (آذار) 2021 بعد وفاة ماغوفولي (61 سنة) المفاجئة، وجدت صلوحو حسن نفسها - من دون أي حسابات مسبقة - على قمة السلطة. بالفعل، أقسمت في حينه اليمين الدستورية، وغدت أول امرأة تترأس تنزانيا، ما يعني أنها لم تصل مباشرة عبر صناديق الاقتراع، بل على وقع الصدمة الوطنية.
ورغم الشكوك الأولى حول قدرتها على القيادة، بادرت الرئيسة الجديدة إلى طرح سياسة «آر إس 4» التي تضمنت نهجاً رباعياً يتمثل في المصالحة، والصمود، والإصلاح، وإعادة البناء، محاولةً طي صفحة إرث سلفها الثقيل.
لقد حاولت الـ«ماما سامية» إظهار انفتاح معلن، وطيّ صفحة الماضي عبر رفع القيود عن الإعلام وتسهيل عمل المعارضة. كذلك أطلقت لجنة للإصلاح السياسي للتشاور مع المجتمع المدني، كما أفرجت عن بعض المعتقلين السياسيين، وفتحت قنوات حوار مع الخصوم، فبدت في بداياتها وكأنها تبشّر بعصر جديد من الانفتاح والديمقراطية.
اقتصادياً، وضعت صلوحو مسألة التنمية في صدارة أولوياتها، وركّزت على مشاريع البنية التحتية والطاقة، وسعت لجذب الاستثمارات الأجنبية رافعةً للنمو الذي حقق نمواً ملحوظاً، بيد أن الفقر والبطالة كانا يطالان نحو نصف السكان، في بلدٍ يعتمد بشكل كبير على الزراعة والخدمات والسياحة.
ومن جهة ثانية، تواكبت جهود الرئيسة الاشتراكية مع إطلاق سلسلة مبادرات لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الأمن الغذائي، فضلاً عن برامج لتمكين النساء والفتيات وتشجيع الشباب على المشاركة في الحياة العامة. هذه السياسات الاجتماعية ساعدت في الحفاظ على قاعدة دعم نسائية وشبابية، رغم اتساع الهوة بينها وبين الطبقة السياسية المعارضة.
السياسة الخارجية وسط التنافس القاري
على صعيد السياسة الخارجية، انتهجت صلوحو حسن نهجاً حذراً ومتوازناً. فقد أدانت الحرب على غزة، ودعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، لكن من دون التحرك الجنائي المباشر على غرار جنوب أفريقيا أو الانخراط المباشر في جهد دبلوماسي في الصراع، مؤثرة دعم الحلول الدولية السلمية. وعملت على تعزيز علاقات بلادها مع دول خليجية، خصوصاً سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة، ووقّعت معهما مذكّرات تفاهم اقتصادية وتجارية عزّزت حضور تنزانيا الإقليمي.
في الوقت نفسه، واصلت بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى المتنافسة أفريقياً، بالذات الصين والولايات المتحدة، محاولة الحفاظ على استقلال القرار التنزاني وتجنّب التبعية لأي محوَر دولي.
هذا التوازن ساعدها في جذب استثمارات ومساعدات تنموية، لكنه لم يُخف الانتقادات الغربية المناوئة لخطها السياسي، بذريعة «سجّلها في مجال الحريات السياسية»، لا سيما من جانب واشنطن.
ومع اقتراب نهاية ولايتها الأولى، بدا أن الصورة «الإصلاحية» للرئيسة الاشتراكية تهتزّ في الغرب على الرغم من المؤشرات الاقتصادية الجيدة، ففي استطلاع أجرته مؤسسة «أفروباروميت» وشمل 2400 مواطن، أظهر أن 68 في المائة من التنزانيين يقدرّون مستوى أداء الحكومة بين «الجيد والجيد جداً» في تحسين الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.
إذ ترى مصادر غربية أن الأرقام في الاستطلاع نفسه كشفت أن الإصلاح الاقتصادي لم يتوازَ مع تحسن مماثل في الحريات العامة، بدليل أن 75 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم أعربوا عن خوفهم من الانتقام إذا تكلّموا عن الفساد. وبينما قال 61 في المائة إنهم يشعرون بحرية نسبية في التعبير، قال 58 في المائة إنهم يفضّلون الحذر في النقاشات السياسية.
صدام مع الغرب
بالفعل، في الأمتار الأخيرة من ولايتها الرئاسية الأولى، دخلت سامية صلوحو حسن في أول صدام مع الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، بعد دعوات لإجراء تحقيق مستقل في مقتل المعارض علي محمد كيباو، الزعيم السابق لحزب «تشاديما» اليميني، الذي عُثر على جثته المشوّهة في دار السلام، لكنها ردت بلهجة حاسمة قائلة «نحن لسنا هنا ليُقال لنا كيف ندير بلادنا».
وهنا، حسب المحلّل التنزاني خليفة سعيد، بدا أن الرئيسة «تُظهر تراجعاً في الثقة بالنفس، وتعتمد بشكل متزايد على الأجهزة الأمنية بدلاً من الحلول السياسية، وتتعامل مع النقد كعداء شخصي». وكذلك تتبدل ملامح صورة الرئيسة «من أنجيلا ميركل أفريقيا إلى زعيمة متهمة بالقمع وإقصاء خصومها»، وفق الباحث محمد الجزّار في دراسة لمركز «قراءات أفريقية».
وبالتالي، يرى البعض أن الانتخابات الرئاسية التنزانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي «رسخت» صورة هذا التحوّل السلبي؛ إذ استُبعد أبرز المرشحين المعارضين واعتُقل بعضهم، ما جعل السباق الرئاسي شبه محسوم لصالح حزب الثورة (تشاما تشا مابيندوزي) الاشتراكي الحاكم.
بل بعد إعلان فوز صلوحو حسن بنسبة 97 في المائة، اندلعت احتجاجات عنيفة في عدة مدن أسفرت عن مقتل مئات، وتفجرت معها إدانات من الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية.
هكذا تحوّلت الرئيسة التي كانت تُوصف ذات يوم بـ«أمل الإصلاح» إلى شخصيةٍ تواجه اتهامات بالقمع والفساد السياسي، وتدشن ولايتها الثانية حاملةً ثلاثة ملفات ثقيلة:
الأول: ترميم الثقة السياسية بعد تراجع الحريات وتضرّر صورتها الدولية.
الثاني: تحقيق وعود الإصلاح الدستوري والإفراج عن قادة المعارضة لتهدئة الداخل.
الثالث: معالجة الأزمات المعيشية في ظل البطالة والفقر وتحديات المناخ.
ثم إن صلوحو حسن تواجه تحدياً خارجياً يتمثّل في «الموازنة» بين علاقاتها مع القوى الكبرى وحماية الهوية الأفريقية والإسلامية لبلادها، وسط تصاعد الانتقادات من الحكومات الغربية.
أخيراً، فإن المفارقة وسط هذا الزخم السياسي الدرامي والتوازنات المعقدة تظل في بقاء الرئيسة التنزانية محافظة على خصوصية حياتها الأسرية بعيداً عن الأضواء؛ إذ لم يظهر زوجها حافظ أمير أو أبناؤها الأربعة في الإعلام، كما لم تُدْلِ هي بتفاصيل دقيقة عن حياتها اليومية مع زوجها أو أسلوب إدارة شؤون المنزل.
واليوم، وبينما تدخل «ماما سامية» ولايتها الرئاسية الثانية، يبدو المشهد السياسي التنزاني وكأنه رقعة شطرنج مليئة بالمخاطر... وترى هي نفسها أمام مفترق حقيقي بين طموح الإصلاح الذي وعدت به، وفخ القمع الذي يتهمها الغرب بالانزلاق فيه.


