آيرلندا موجودة، لكن الكاتب لا يتحمل وزر أن زارها أحدهم ولم يجدها. هكذا يقدم الكاتب هاينريش بول لكتابه، الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، بترجمة ماجد الخطيب، والمعنون «يوميات آيرلندية».
لقد كتب بول هذا التقديم لأنه يعرف عن يقين أن الآخرين لن يشاهدوا آيرلندا بعينيه. لكنه ربما كان مخطئاً، فقد أدار كتابه في ستينات القرن الماضي، دفة مئات الآلاف من السياح الألمان نحو آيرلندا. ألمان يودون مشاهدة آيرلندا بعيني الكاتب بعد أن قرأوا القصص الغريبة والطريفة، والانطباعات الذكية، التي ثبتها بول في نصوصه. ويعترف الكاتب الآيرلندي المعروف هوغو هاملتون أنه تحول إلى سائح في بلده، ينظر إلى البشر والحواضر بشكل آخر، بعد أن قرأ كتاب هاينريش بول.
يعدُّ كتاب «يوميات آيرلندية» من أهم أعمال القاص والروائي الألماني، الحائز على نوبل، هاينريش بول. وهو عبارة عن مجموعة قصص قصيرة وانطباعات ومشاهدات من الحياة اليومية للآيرلنديين في ذلك الزمان. تكمن أهمية الكتاب في الأسلوب الطريف الساخر، والغور العميق في نفسية وعقلية البشر، الذي عرف به الكاتب المتحدر من مدينة الكرنفال كولونيا.
كان الشعب الآيرلندي «شعباً يحاول الاستفاقة من كابوس التاريخ في أوروبا» حينما زاره بول، كما يقول جيمس جويس. بقعة منسية من أوروبا على المحيط الأطلسي لا تزال تغط في سباتها رغم أن غبار الحرب العالمية الثانية لم يبلغها.
يصف بول في الكتاب كيف يحول الآيرلنديون في الخمسينات السينما إلى مجتمع صغير يحضره القساوسة واللصوص، وتتطاير فيه أغطية الشمبانيا، ولا يبدأ العرض إلا بعد أن ينهي القساوسة وليمتهم وجدلهم اللاهوتي في قاعة السينما. وكيف يسرد أحدهم في الصف الثالث من السينما نكتة إلى آخر يجلس في الصف العاشر... إلخ.
لم يكتف بول بوصف «قمرة النوتي» في البارات الآيرلندية، بل دخلها وشرب فيها على الطريقة الآيرلندية. وهي كابينات صغيرة لا تزيد مساحتها عن متر مربع ينفرد فيها الآيرلندي، ولا يخرج منها إلا إذا انتهت نقوده أو سقط مغميّاً عليه وتم نقله بالإسعاف.
الآيرلنديون يعزون كل مصائبهم وفقرهم إلى الإرادة الإلهية ولا يفعلون شيئاً لتغيير ذلك. قد يفقد الآيرلندي ساقه في حادث، أو ينهار بيته في حريق، أو يغرق المركب الذي يهاجر فيه إلى الولايات المتحدة، لكنه يكتفي بترديد: كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ. جملة قد تعادل قول البعض «دفع الله ما كان أعظم».
والمطر العاصف ظاهرة يومية في حياة الآيرلنديين. حوَّل المطر البلد إلى بقعة خضراء من الأرض ينمو عليها الخث إلى جانب الفطر على كل جدار. وإذا كان العراقي المسن، مثلاُ، يؤرخ مواليد أولاده بـ«سنة الفيضان» و«ثورة الزعيم» و«دكة رشيد عالي الكيلاني»، فإن الآيرلندي يؤرخ هذه الوقائع باليوم المشمس الفلاني، والصباح المشرق الفلاني بسبب ندرة الأيام المشمسة في حياته.
يحكي له شرطي المرور عن بنته التي ولدت في يوم مشمس، قبل اليوم الذي قتلت فيها امرأة مجنونة القس في الكنيسة بدعوى إرساله إلى الجنة. ويتحدث الشرطي، قبل أن يسأل بول عن أوراق السيارة، عن موت هندي أحمر غريب في بيت منعزل قريب.
وإذا كان الأول من يوليو (تموز) يوم مولد ملايين العراقيين، فإن شهر سبتمبر (أيلول) من كل سنة هو شهر مولد شبه عام للآيرلنديين. وهم أكثر شعوب العالم هجرة ويهاجر ثلثاهم (في الخمسينات) إلى أوروبا وأميركا بعد بلوغ سنة السابعة عشرة. يعمل المهاجرون، في الأغلب، في إنجلترا ودول أوروبا القريبة، ولا يعودون إلى أسرَّة زوجاتهم إلا في فترة أعياد الميلاد. وهكذا يولد معظم أطفال الآيرلندي المهاجر في شهر سبتمبر.
ربما وجد بول قاسماً مشتركاً مع الآيرلنديين في هذه الحالة بالذات؛ لأنه يتحدر من مدينة كولون الألمانية المعروفة بمدينة الكرنفال وعروس كرنفال الراين. هناك أجيال من الكولونيين يحملون اسم «جيل الكرنفال»؛ لأنهم يولدون في ديسمبر (كانون الأول) إثر انقضاء ذروة الكرنفال في مطلع مارس (آذار).
يصف هاينريش بول آيرلندا، في «يوميات آيرلندية»، بألوان زاهية لا يتوقع القارئ أن يشاهدها في حياة الآيرلنديين الواقعية. هي لوحات تقترب في ألوانها الزاهية من لوحات الانطباعيين الهولنديين، التي تتأثر بالضوء المسلط عليها، لكن الضوء لا يشق طريقه إلى الحياة إلا بصعوبة بالغة في سماء آيرلندا الملبدة بالغيوم.
يعترف معظم من قرأوا هذا الكتاب، بمختلف لغات العالم، بأنهم عرفوا بفضله، أن كلمة «بويكوت»، التي تعني «المقاطعة» في اللغة الإنجليزية تعود إلى «قطيعة» أعلنها الفلاحون الآيرلنديون مع وكيل أحد ملَّاكي الأراضي اسمه تشارلز بويكوت.
يرى بعض النقّاد الألمان أن بول كان يبحث في آيرلندا عن هويته التي طمستها، إلى حد ما، سنوات الحكم النازي والحرب. يبحث في هذه البقعة من الأرض عن السلام والاطمئنان الذي فقده في ألمانيا بسبب تهمة التعاطف مع جماعة بادر ماينهوف، التي كانت تلاحقه، ورقابة الأمن المفروضة عليه في إطار قانون الطوارئ الألماني. يبحث عما يفتقده في شخصيته من مرح وسخرية وعفوية. فالألماني نقيض الآيرلندي في العديد من النواحي، فهو منضبط ودقيق وجاد ومبرمج بقدر فوضوية وسخرية وتسيّب وعفوية الآيرلندي. ربما أن قصة «حينما يرغب سيموس بكأس» من أطرف القصص التي ينقلها لنا بول عن الآيرلنديين؛ إذ يرغب سيموس في قريته في الحصول على «باينت» بيرة بعد غداء دسم، لكن القوانين الدينية في البلد آنذاك تمنع المواطن من الشرب في قريته بين الثانية والسادسة من بعد الظهر. إلا أن القوانين تسمح للمواطن بالشرب في هذا الوقت إذا كان على بعد ثلاثة أميال من قريته. ولهذا يأخذ سيموس دراجته الهوائية ويقودها صعوداً إلى الجبل كي ينزل إلى قرية تبعد ستة أميال كي ينال بيرته. يلتقي على القمة بابن عمه العطشان للجعة أيضاً الذي غادر قريته كي يشرب في قرية سيموس.
